حوار مع أحمد أحمد حرب1


عبد السلام أديب
2016 / 4 / 3 - 08:52     

تفضل الرفيق أحمد أحمد حرب، بفتح جسر تواصل وحوار معي في موقعه الالكتروني بالحوار المتمدن على اثر صدور ثلاث مقالات لي ردا على انتقادات تخصني، تحت عنوان "بؤس النقد لدى السيد أحمد شركت"، ونظرا لجدية وأهمية مواضيع الحوار التي يطرحها الرفيق والموجود على الرابط التالي:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=511677

فقد اقترحت أن أقدم وجهة نظري حول الملاحظات والانتقادات التي سيتفضل بها عبر موقعي هذا، حتى يظل النقاش وتبادل الأفكار واضحا ومفتوحا ويأخذ كل طرف الوقت الذي يلائمه للتعبير عن أفكاره. وقد اقترحت أن ترد تعقيباتي أولا بأول بحسب المحاور التي يفتتحها الرفيق.
بالنسبة للموضوع الأول فيتطرق الى موضوعين أساسيين، يتعلق الموضوع الأول بمضمون النظرية الماركسة كنظرية علمية، بينما يتطرق الموضوع الثاني إلى امتدادات أو تطورات هذه النظرية على أيدي ماركس وانجلز ولينين وستالين. وتخلص ورقة الرفيق أحمد أحمد حرب إلى أن الماركسية اللينينية تتمثل في أعمال كل من ماركس وانجلز ولينين وستالين.

دواعي نزول ورقة الرفيق تقوم على نقده لعبارة وردت في الجزء الأول من مقال "بؤس النقد لدى السيد أحمد شركت" حيث يقول الرفيق: "سأتطرق في الحلقة الأولى من الحوار لمسألة جوزيف ستالين نفسه الذي لا أعلم كيف اعتبرته (إشارة الى ما ورد في المقال) هو والرفيق ماو تسي تونغ أحد الذين حاولوا وضع نموذج تطبيقي للماركسية اللينينية "كـ" إيديولوجية الحركة العمالية العالمية التي لا أعرف كذلك كيف خلصت إلى أنها من انتاج ماركس انجلز ولينين (بؤس النقد،الجزء 1،الفقرة الثالثة) وقد كان الأحرى بك أن تقول نظرية ماركس انجلز لينين لأن الفرق جوهري بين هذه العبارة وبين الماركسية اللينينية."

مقدمة

يتطرق الرفيق في في معرض نقده إلى قضايا ذات طابع شكلي وأخرى ذات طابع موضوعي، وإذا كنت أتفق مع الرفيق في الكثير مما تفضل بتقديمه حول النظرية الماركسية كنظرية علمية وحول مساهمة ستالين كركيزة أساسية في بلورة الكثير من النظريات الماركسية بأسلوب دقيق ورائع، علما أنني أنا أيضا أعتبر ستالين ركيزة أساسية من ركائز الماركسية اللينينية، وأن كل من ينتقد ستالين بالنسبة لي فهو عدو للشيوعية، إلا أنني أستسمح الرفيق أن أعبر عن وجهة نظري بطريقة قد تختلف عن وجهة نظره في بعض الجوانب ليس من حيث المضمون وانما من حيث الشكل فقط. وسأحاول باختصار التطرق أولا الى أصول النظرية الماركسية اللينينية ثم ثانيا، الى بعض الملاحظات حول المنهج، ثم ثالثا وأخيرا إلى أهمية تقييم التجربة الاشتراكية الأولى في الاتحاد السوفياتي تحت قيادة الرفيق ستالين.

أولا: أصول النظرية الماركسية اللينينية

إن أصل النظرية الماركسية هي الأعمال الفلسفية الأولى لكارل ماركس والتي تتكون من عنصرين اثنين، هما الفلسفة المادية والمنهج الديالكتيي، وحتى وان استقى كارل ماركس شكلهما الأخير لدى كل من هيغل (المنهج الديالكتيكي) وفيورباخ (الفلسفة المادية)، الا ان كارل ماركس استخلص اسسهما الأولى كما تبلورت في الفلسفة اليونانية حينما كان يدرس الفلسفة في جامعة برلين وهيئ حولهما أطروحة دكتوراه تحت عنوان: "الفوارق في فلسفة الطبيعة عند كل من ديموقريطس وأبيقور".

أود الإشارة هنا إلى أن الرفيق أحمد أحمد حرب لم يميز في معرض عرضه للنظرية الماركسية بين الفلسفة المادية والمنهج الديالكتيكي. وفي اعتقادي أن بناء صرح النظرية الماركسية بكاملها لم يكن ليتحقق دون الارتكاز على هذين العنصرين، الفلسفة المادية كمضمون والمنهج الديالكتيكي كمنهج مرتبط عضويا بالمضمون، أو أن الديالكتيك هو شكل حركة المادة، فالنظرية الماركسية تجاوزت في هذا الإطار الفكر المثالي الهغلي فيما يخص الديالكتيك، كما تجاوزت المادية الميكانيكية كما بلورها لودفينغ فيورباخ.

لكن كارل ماركس حدرنا من شخصنة الأشياء: "فليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل على العكس من ذلك وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم" لذلك فان ظروفا مادية معينة سبقت وواكبت الشروط الاجتماعية التي نشأ فيها ماركس هي ما ساعد على انتاج النظرية الماركسية، بحيث نستطيع أن نقول عنها أنها سيرورة تاريخية تطورت ديالكتيكيا الى حين تفجرها على ايدي ماركس ثم تطورت على يد الرفيقين ماركس وانجلز بحكم علاقتهما الرفاقية. ولا ننسى ان النظرية الماركسية لا تقتصر على الفكر، بل ظلت تمتحن على أرض الواقع من خلال البراكسيس، فنضالات ماركس وانجلز السياسية معروفة في المانيا وبلجيكا وفرنسا ثم بريطانيا وأبرز اعمالهما السياسية البيان الشيوعي لسنة 1848 وتأسيسهما لعصبة الشيوعيين سنة 1846، وأيضا تأسيس الرابطة الدولية للعمال سنة 1864. كما حدثنا لينين عن المصادر الثلاثة للماركسية وهي الفلسفة الألمانية والاشتراكية الفرنسية ثم الاقتصاد السياسي الإنجليزي. ففي عهد كارل ماركس وفردريك انجلز تحددت مجمل معالم النظرية الماركسية.

ان مصير النظرية الماركسية وخاصة الفلسفة المادية والمنهج الديالكتيكي ستعرف قفزة نوعية نحو الأعلى مع الرفيق لينين داخل الحزب البولشفي، فالفهم الصحيح للنظرية الماركسية من طرف لينين ورفاقه البلاشفة وتحكمه في الفلسفة المادية والمنهج الديالكتيكي مكنه من التحليل الصحيح للظرفية التاريخية التي قطعتها الرأسمالية من الرأسمالية التنافسية نحو هيمنة الرأسمال المالي العالمي ودخوله مع بداية القرن العشرين مرحلة الامبريالية. فقد تواصلت تحليلات لينين الفلسفية والاقتصادية والسياسية ووظفها بمعية رفاقه البلاشفة بشكل بارع في بناء الحزب البولشفي وتأسيس السوفييتات انطلاقا من ثورة 1905 وقيادة الصراع الطبقي في كامل مناطق روسيا ومراكمته لسيرورة نضالية عبر تحقيق اهداف تاكتيكية والانتقال من استراتيجية إلى أخرى بلغت دروتها مع اندلاع الثورة البلشفية في أكتوبر 1917.

لقد دفع التوظيف اللينيني للماركسية وللمادية الديالكتيكية في روسيا والذي كان بلدا فلاحيا مشابها لوضعية أغلب بلدان العالم الثالث نحو الثورة وحدوث قفزة نوعية للمجتمع الروسي من بلد متخلف الى مصاف المجتمعات المتقدمة. كما دشن لينين إمكانية الثورة في بلد واحد بسبب شروط النمو المتفاوت للرأسمالية وإمكانية تفجير الثورة في الحلقات الضعيفة من النظام الرأسمالي الامبريالي العالمي. ويعترف أغلبية الشيوعيين في العالم بأن اللينينية عبر ابداعاتها في تطبيق المادية الديالكتيكية أغنت النظرية الماركسية وأضافت اليها كم هائل من النظريات الجديدة وأيضا مجالات واسعة ملموسة لتقدير وتطبيق هذه النظريات وذلك على المستويات الاقتصادية والسياسية والتنظيمية. إذن فنحن إزاء تكامل جدلي بين النظرية الماركسية والتي تشكل الأصل ثم إضافات لينين نتيجة فهمه العميق لها في مرحلة الامبريالية وهي الفرع. ويظل أهم مجال أبرع فيه لينين هو التنظيم الحزبي اللينيني والذي جعله مجالا للتطبيقات المادية الديالكتيكية.

ثانيا: ملاحظات على مستوى المنهج:

عندما نتحدث عن شكل ومضمون موضوع ما، فإن ذلك لا يعني أن المضمون أهم من الشكل أو العكس، بل أن شكل ومضمون الشيء هما عنصران مترابطان ومتناقضان في علاقة ديالكتيكية في نفس الوقت، كما لا يمكن لأحدهما أن يوجد من دون الآخر. كما أننا عندما نميز بين الشكل والمضمون فذلك لغرض التحليل واستخلاص الجوهر. كما أنه من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار خلال تحليل أية ظاهرة العلاقة بين الأصل والفرع وبين الجزء والكل، وكلها قضايا ديالكتيكية وفي تطور مترابط في كل موضوع قد نطرحه للنقاش. وموضوعنا هنا هي أصول النظرية الماركسية وتطوراتها شكلا ومضمونا وأصولا وفروعا وجزئا وكلا.

عندما تطرقت في ورقتي المشار اليها الى "أيديولوجية" الحركة العمالية العالمية، فالمقصود بذلك "النظرية الماركسية"، وإذا ما راجعت الجزء الثالث من بؤس نقد السيد أحمد شركت في الفقرة السابعة ستجدني قد استعمالت عبارة "النظرية الماركسية" وعندما أشير إلى أن هذه "الأيديولوجية" هي من انتاج ماركس وانجلز ولينين، فالمقصود هي ان النظرية الماركسية اللينينية هي من انتاج هؤلاء المعلمين الثلاثة أساسا انطلاقا من ما أتاحته لهم ظروفهم المادية التاريخية ومعرفتهم العلمية الدقيقة بهذه الظروف، حتى وان لم نقحم اسم انجلز في التسمية، ولم نقحم أيضا اسم ستالين فيها، فالنواة الصلبة أو جوهر الماركسية اللينينية هما ماركس ولينين، أما انجلز وستالين وعلينا أن نضيف أيضا أعمال كل من روزا لوكسمبورغ وماوتسيتونغ لإضافاتها الغنية الحاسمة للنظرية مما يجعلها تشكل مكملات عضوية طبيعية للنظرية الماركسية اللينينية بل امتدادا وتطويرا طبيعيا لها.

وليس في الامر أي تناقض أو غرابة أو ابتعاد أو تحريف للنظرية، فالتحكم في فهم العلاقة الديالكتيكية القائمة بين الشكل والجوهر والعام والخاص والكل والجزء وصراع ووحدة الضدين، وحلول النقيض مكان نقيضه، ونفي النفي تجعل الفاعل الماركسي اللينيني متمرس على استعمال متطلبات الصراع الطبقي ورسم السياسات البروليتارية في مواجهة السياسات البرجوازية. فيمكن الانطلاق من أفكار ماركس والوصول الى تطبيق أفكار ستالين أو اللجوء الى انتقادات روزا لوكسمبورغ لتحريفية برنشتاين من أجل العبور الثوري عبر نظرية الحرب عند ماو تسيتونغ والوصول الى اشكال الاستيلاء الثوري للبروليتاريا على الدولة عند لينين. فرصيد كل هؤلاء الثوريين متاحة أمام الماركسيين اللينينيين للاعتماد عليها كأرضيات متكاملة مترابطة متداخلة تدخل ضمن النظرية الماركسية اللينينية، لبناء حزب الطبقة العاملة الثوري.

لكن الخطر هنا يكمن في شخصنة النظرية الماركسية اللينينية بشكل مفرط بدل منحها طابعا موضوعيا. فمن نتائج الشخصنة المفرطة تمزيق وتشتيت وحدة الحركة العمالية وضرب تماسكها بسبب صراعات إيديولوجية جانبية. لذلك أحبذ تجاوز الشخصنة نحو موضوعية الوحدة الماركسية اللينينية. وأفضل تعريف النظرية الماركسية اللينينية على أساس موضوعي يتجاوز الشخصنة ويمكن كافة الماركسيين اللينينيين من الوحدة والتجمع على أساس أرضية صلبة. فكيف نعرف الماركسية اللينينية موضوعيا؟

ترتكز الماركسية اللينينية على ثلاث مكونات رئيسية وهي، أولا، الاقتصاد السياسي ثم ثانيا، الاشتراكية العلمية وتعلم الصراع الطبقي ثم ثالثا، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. ويوجد هذا الجوهر الموضوعي للماركسية اللينينية في صلب الأفكار التي طورها ماركس ولينين على الخصوص، مع إضافات وتفسيرات وتطبيقات باقي الثوريين. فالماركسية اللينينية ليست إيديولوجية دوغمائية جامدة، بل تشكل منظومة توجيهية حية من أجل تفعيل الحركة العمالية. وتكمن القاعدة الخلاقة للماركسية اللينينية في الديالكتيك المادي أساسا.

وتتمثل الفلسفة المادية في الاقتصاد السياسي في انتاج وإعادة انتاج الحياة المباشرة والتي تتكيف على أساسها العملية الاجتماعية بكاملها، السياسية والذهنية ونظرة الانسان للحياة وللعالم. كما أن مجموع علاقات الإنتاج المادية تشكل القاعدة الاقتصادية التي تقوم على أساسها البنيات الفوقية القانونية والسياسية والأيديولوجية.

وتتناول الماركسية اللينينية قضايا الاقتصاد السياسي عبر منهج الديالكتيك الماركسي من خلال التطبيق الواعي لهذا المنهج من اجل اكتشاف القوانين الموضوعية الكامنة في قاعدة العلاقات الاجتماعية بين الأشخاص في ظل الرأسمالية.

كما تتناول الفلسفة المادية الصراع الطبقي والاشتراكية العلمية كقانون موضوعي يحدث آثاره في سيرورة مستقلة عن إرادة الأشخاص. فكل استغلال واضطهاد لمجموعة من العمال يقود بشكل تلقائي الى ردود أفعال ضد هذا الاستغلال والاضطهاد. بينما تسير الإنسانية جمعاء تاريخيا نحو التحرر وانهاء الاستغلال والاضطهاد وبناء مجتمع تسوده الحرية والمساواة متمثل في المرحلة الشيوعية العليا.

ويلعب المنهج الديالكتيكي هنا دورا أساسيا في خدمة الأداة السياسية للطبقة العاملة وفي اختيار الاستراتيجية والتاكتيك الماركسي اللينيني كتطبيق واعي للمنهج الديالكتيكي من أجل بناء الحزب البروليتاري وفي نفس الوقت دفع وتطوير الصراع الطبقي البروليتاري نحو مستوى أعلى.
باختصار فإن الديالكتيك المادي يشكل النظرية والمنهج العلمي الذي بواسطته يشتغل الماركسيون اللينينيون من أجل تغيير العالم بطريقة ثورية. ولا يمكن دراسة وبلورة قوانين التطور الاجتماعي، والجوهر المتناقض لكافة الظواهر والتفاعل بين العوامل الذاتية والموضوعية الا على أساس مادي ديالكتيكي.

إن الديالكتيك المادي يمنح للفكر الإنساني قوة استيعاب نتائج التجارب العلمية والتاريخية ومعرفة العلاقات والتطورات المعقدة للواقع وتغييرها. وتكمن القاعدة الطبيعة الخلاقة للماركسية اللينينية أساسا في الديالكتيك المادي كنظرية وكمنهج.

إن الابتعاد عن الغلو في شخصنة الماركسية اللينينية والبحث المتواصل عن جوانبها الموضوعية هو فقط ما يمكنه أن يوحد الماركسيين اللينينيين المغاربة. أما لجوء الكثيرون الى الشخصنة المفرطة للماركسية اللينينية فيشكل نوعا من التصفوية والطائفية المتمحورة حول ذات الزعيم. وقد سبق لكارل ماركس في الثمانينات من القرن التاسع عشر، أن انتفض ضد شخصنة الماركسية عندما لا حظ الاقتتال السياسي وسط الحركة العمالية الفرنسية بين طوائف سياسية ماركسية حول من يمثل افضل الماركسية، فقال قولته المشهورة: إذا كانت هذه هي الماركسية..."فمن المؤكد انني، لست ماركسياً"!!

ثالثا: أهمية تقييم التجربة الاشتراكية الأولى في الاتحاد السوفياتي تحت قيادة الرفيق ستالين:

علينا أن نأخذ في حسباننا قبل الاسترسال، بأن تقييم الموجة الاشتراكية الأولى انطلاقا من تبلور الأفكار الثورية الأولى عند ماركس الى غاية تدبير الدولة السوفياتية في عهد ستالين، يجب أن تقوم على معايير علمية دقيقة تجعلنا عند تقييم الفرع أي الوضع الناتج عن الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي وخاصة تحت قيادة ستالين، ان نقارنها مع الأساس أي مع طموحات النظرية الماركسية وهو الأصل، فمدى نجاعة الفرع مرتبط بمدى انسجامه مع طموحات الأصل. وانطلاقا من هنا يمكننا الحديث أيضا عن العلاقة بين النظرية والتطبيق، فهل الممارسة العملية للاشتراكية في الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين جاءت متطابقة تماما مع النظرية الماركسية كما تبلورت لدى المنظرين الاشتراكيين الكبار ماركس وانجلز ولينين؟ أم أنه علينا أن ننسى تلك النظريات الاشتراكية على ضوء الاكراهات الجديدة المتولدة في الواقع السوفياتي والتي عبرت عنها تطبيقات الاشتراكية الجديدة؟. فهل تطبيق الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ما بين 1924 الى غاية 1953، متطابق تماما مع النظرية الماركسية اللينينية؟ وهل هذا التطبيق التاريخي للاشتراكية هو النموذج الوحيد الممكن للاشتراكية؟ قد نتفق بأنه ليس في الإمكان أكثر مما كان، خصوصا أمام التحدي الأكبر المتمثل في محاولة تطبيق نظام اشتراكي متقدم جدا في بيئة اجتماعية متخلفة جدا كما كان الشأن في المجتمع الروسي انطلاقا من سنة 1917، وأيضا تحدي الحرب الأهلية والتدخل الخارجي الذي دام حتى سنة 1928، وأيضا عمليات التخريب التي طالت البنيات التحتية الصناعية للاتحاد السوفياتي ما بين 1928 و1932، ثم المؤامرات السياسية الدنيئة التي واكبت وتواطأت مع صعود الفاشية في المانيا وتهديداتها المتزايدة بالحرب. ثم ظروف الحرب العالمية الثانية ما بين 1939 و1945. فمن المفروغ منه أن بناء الاشتراكية في ظل هذه الشروط وبمواصفات معينة لا يمكن لأي شخص آخر غير ستالين أن يقوم به. ثم ان السؤال الذي يمكن طرحه هنا، هل كان النموذج الاشتراكي السوفياتي سيكون هو نفسه لو تغيرت هذه الشروط؟ لو ظل لينين حيا مثلا أو لم تكن هناك حربا أهلية أوعمليات تخريبية وتهديدات بالحرب وحرب عالمية ثانية؟

إني أطرح هذه الأسئلة انطلاقا أولا من التناقض الأساسي بين النظرية الماركسية عند المعلمين الثلاثة ماركس وانجلز ولينين، ومسار بناء الاتحاد السوفياتي تاريخيا باعتبارها دولة دكتاتورية البروليتاريا. خاصة وأن دولة دكتاتورية البروليتاريا في إطار النظرية الماركسية ليست سوى مرحلة انتقالية نحو الشيوعية والتي يجب أن تضمحل فيها الدولة بشكل كامل. ولعل أكمل تفسير لطبيعة هذه الدولة الانتقالية هو ذلك الذي قدمه الرفيق لينين في كتابه الدولة والثورة، وهو تفسير مقتبس عن كارل ماركس وفردريك انجلز والمقتبس أيضا عن تجربة كمونة باريز. فالدولة نشأت وتطورت كجهاز طبقي، على البروليتاريا أن تنتزعه من البرجوازية المهيمنة عن طريق العنف الثوري، ثم تستعمل البروليتاريا هذا الجهاز تحت ادارتها المباشرة (ديكتاتورية البروليتاريا) للقضاء على الطبقات وتنظيم حياة المجتمع الاشتراكي من أجل الانتقال في مرحلة لاحقة نحو المجتمع الشيوعي الذي تندثر فيه الدولة كلية.

لكن ما حدث في الاتحاد السوفياتي خلال 29 سنة تحت قيادة ستالين، وعلى الرغم من المنجزات الاشتراكية الهائلة التي نقلت الاتحاد السوفياتي من العالم الرابع نحو العالم الأول، هو أن جهاز الدولة السوفياتية أصبح أقوى من أي وقت مضى بل أقوى من الدولة التدخلية في العوالم الرأسمالية المتاخمة للاتحاد السوفياتي آنذاك من خلال تطبيقها للكينيزية، وأن تدبير الاقتصاد الاشتراكي أصبح يخضع لنفس المنطق الرأسمالي، والمتمثل في رفع إنتاجية العمال والفلاحين في الكلخوزات والسفخوزات الى مستويات عليا عبر المخططات الاقتصادية الصارمة من أجل ان تستخلص الدولة السوفياتية أكبر فائض قيمة ممكن، يذهب بعضه نحو خدمات التعليم والصحة والمرافق الأساسية بينما يذهب البعض الآخر نحو تسليح الدولة السوفياتية وضمان سير ادارتها السياسية والإدارية وأجهزة الشرطة والمخابرات، بينما يقسم الباقي بين العمال وإدارة الوحدة الانتاجية. انها أشياء ضرورية وواقعية ولا يمكن للدولة السوفياتية ان تستغني عنها نظرا للستار الحديدي العسكري الذي ضربته الامبريالية حول الاتحاد السوفياتي خوفا من تصديره للثورة الشيوعية.

لكن تطور هذا الواقع المادي للاتحاد السوفياتي أنتج شروطا جديدة تسير عكس النظرية الماركسية، فالرفيق ستالين على الرغم من كفاءته كماركسي لينيني ووفائه للخط الثوري واجتهاداته المتعددة المجالات، لا يستطيع بمفرده إعادة هيكلة المجتمع السوفياتي على أسس بروليتارية، فالصراع الطبقي في ظل الاتحاد السوفياتي ازداد ضراوة بل استطاعت البرجوازية الصغرى الانتهازية اختراق كافة أجهزة الحزب البلشفي والتموقع في مختلف أجهزة الدولة السوفياتية، كما استطاعت أن تتحكم في أهم دواليب الدولة كالجيش والشرطة، بل أدى ذلك الى جعل أقرب مساعدي الرفيق ستالين يتآمرون عليه ويتوفقون في اغتياله سنة 1953، لكي يقع الاتحاد السوفياتي بعد ذلك فريسة في يد التحريفية الخروتشوفية والتي انطلقت مع تقديم خروتشوف لتقرير اسري امام المكتب السياسي للحزب البولشفي خلال انعقاد المؤتمر العشرين سنة 1956، مليء بالكذب والتلفيقات في حق الرفيق ستالين، ولكي ينتهي عهد دولة ديكتاتورية البروليتارية بدعوى بلوغ مرحلة الشيوعية واستبدال حكم الطبقة العاملة بحكم الشعب بكامله والذي لا يعني سوى تحكم أقلية بيروقراطية باسم الشعب بكامله في جهاز الدولة ثم نقل الاتحاد السوفياتي تدريجيا نحو رأسمالية الدولة بدلا من الاتجاه نحو الاشتراكية التي أرسى الرفيق ستالين أسسها. إذن فعلى الرغم من عبقرية التطبيق الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي تحت قيادة ستالين الا أن هناك أشياء مزعجة حدثت وربما شكلت أخطاء قاتلة أنهت سريعا هذه التجربة الفريدة.

فعلى الرغم من ثراء التجربة التاريخية للاشتراكية السوفياتية الغنية بالدروس، الا أنها تبقى مع ذلك محكومة بالظروف التاريخية التي انتجتها ولذلك لا يمكننا أن نقول عنها أنها تجربة صالحة لكل زمان ومكان. فكما عبر عن ذلك هرقليطس" لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين" دلالة على أن الزمن لا يتراجع الى الوراء، ويعيد نفس الأحداث. فالرفيق ستالين تفاعل مع سيرورة الشروط المادية بالاتحاد السوفياتي كما تبلورت فعلا، ولم يكن بإمكانه بكامل خبرته واستيعابه للنظرية الماركسية اللينينية ولالمنهج الديالكتيكي، أن يفعل أكثر مما قام به. ونظرا لأن أية سيرورة ثورية مستقبلية للحركة العمالية العالمية نحو الاشتراكية قد تحدث في زمان ومكان معين ووفق شروط مختلفة لواقع الاتحاد السوفياتي المشار اليه، فإن النظريات والتطبيقات التي قد تعتمد في الواقع الجديد ستكون مختلفة بشكل جذري عنها.

لقد أكد كارل ماركس على نفس الفكرة في مقدمة كتابه نقد الاقتصاد السياسي حينما قال: " في إطار انتاجهم الاجتماعي لوجودهم، يرتبط الناس فيما بينهم بعلاقات محددة، ضرورية، مستقلة عن ارادتهم؛ وتتطابق علاقات الانتاج هذه مع درجة معينة من تطور قوى الانتاج المادية لديهم. تشكل مجموع هذه العلاقات البنية الاقتصادية للمجتمع، وهي القاعدة الملموسة التي يرتفع على أساسها، البناء القانوني والسياسي، الذي يتطابق مع أشكال محددة من الوعي الاجتماعي. نمط انتاج الحياة المادية يكيف سيرورة الحياة الاجتماعية، السياسية والثقافية بشكل عام. فليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل على العكس من ذلك وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم."

فهناك إذن فرق شاسع بين النظرية من حيث هي رؤية علمية معيارية للأشياء مستنبطة من سيرورة تاريخية طويلة مليئة بالأحداث، وبين محاولة تطبيق تلك النظرية في زمان ومكان معين، وبما أن التطبيق يخضع للشروط المادية القائمة في زمان ومكان معين، فإن العملية تصبح تجربة تاريخية معينة لا يمكن تكرارها. لذلك نستخلص بأن مساهمات الرفيق ستالين الغنية فعلا بالتجارب والدروس وخاصة منها محاولات تطبيق الاشتراكية في بلد واحد، تبقى تجربة تاريخية فريدة يستحيل تكرارها مستقبلا، نظرا لتبدل الشروط المادية في كل لحظة. ولا يعني هذا ألا تستفيد الحركة العمالية العالمية من هذه التجربة التاريخية الغنية في المستقبل، بل تجعلها مرجعا لعدم الوقوع في نفس الأخطاء مستقبلا.

إن ما قلناه عن تجربة الاتحاد السوفياتي في ظل قيادة ستالين كتطبيق تاريخي للاشتراكية، يمكن أن نقوله بالنسبة للثورة الصينية ودور الرفيق ما تسيتونغ في محاولة تطبيق الاشتراكية في الصين. ورغم استيعاب ماو للنظرية الماركسية اللينينية واستيعابه للمادية الديالكتيكية أدت الشروط المادية الداخلية والخارجية وداخل الحزب الشيوعي الصيني الى ان يصبح اقلية داخل الحزب وداخل المجتمع الصيني. وقد ترتب ذلك نظرا لاعتماده على ما سماه بالديموقراطية الجديدة وهي تحالف مكون من اربع طبقات، فقد تحالفت طبقات ثلاث ضد الطبقة العاملة مما أدى الى افشال المشروع الاشتراكي في الصين رغم محاولات ماو المستميتة عبر الثورة الثقافية لاستعادة الزخم الثوري البروليتاري، لكن التجربة انتهت الى الفشل ومباشرة عقب وفاة ماوتسيتونغ سنة 1975 عادت الرأسمالية تدريجيا للصين.

هنا تعتبر أيضا تجربة الصين تطبيقا تاريخيا للنظرية الماركسية اللينينية ولا يمكن ان تعتبر قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان. لذلك من الأصوب التفرقة بين النظرية الماركسية اللينينية وتطبيقاتها التاريخية بإيجابياتها وسلبياتها.