صورة -سلفي- للغمّان!


سلام عبود
2016 / 3 / 18 - 18:48     

1
شدّة الخيبة، وجسامة الكارثة، جعلتا البعض يتساءل بمرارة: هل نحن ثيران؟
وعلى الرغم من أنّي لا ألوم أحدا على قسوة تعابيره، إلا أنني أميل الى تخفيف الجانب الفطري من السؤال، وأتساءل بدوري قائلا: هل نحن "غـُمّان"؟
أرجو أن لا يخدش سؤالي حياء أحد، أو يُشعره بالنقص ويحمله على الانفعال. فقبل أن نتحسس حياءنا، الشخصي أو الوطني، دعونا نكون منضبطي المشاعر وطيبين، كما كنا خلال السنوات العشر الأخيرة، وكما كنا خلال السنين الثلاثين التي قبلها، والخمسين التي قبلها، والأربعمئة التي قبل قبلها، والثلثمئة التي قبل قبل قبلها. دعونا نذهب الى حاكم محايد، عابر للطائفية، اسمه قانون اللغة، نحتكم اليه، لكي نعرف معنى كلمة "غمّان"؛ هل هي شتيمة أم إطراء؟ هجاء أم مديح؟ خير أم شر؟ وفي طريقنا سنتعرف على الثيران أيضا. طبعا ليس الثيران كلها، ثيران الطواحين حسب.
تجمع مصادر اللغة على أن أشهر معاني الفعل "غمّ" و"غمم" خمسة: الستر، الحر، البَرَد (الحالوب)، الغيم، وأكثرها شيوعا وأهمية: الحزن والكدر، وهي صفة ثابتة في الشخصية العراقية.
لكن تأويل الغمّان بالحزانى ربما لا ينطبق على الاستخدام العامي للكلمة، الذي يعتبر "الأغم" صفة ذميمة. فالحزن العراقي ليس تعبيرا للذم، بل هو توصيف محايد لواقع حال. أي هو توصيف للكارثة الوجودية الأبدية القائمة. إن نفي وجود علاقة مباشرة بين الفعل "غمّ" العامي وبين "غمّ" الفصيح، لا ينفي وجود اشتقاق مصدري من الفعل "غمّ" الفصيح في العامية العراقية. فالعامية تقول: "عيشة كلها همّ وغمّ"، وتعني مليئة بالحزن والكدر، وقد تعني شدة الكدر. وهنا تتطابق العامية والفصحى، ويتطابق القول مع واقع الحال.
لكن كلمة "غُمّان"، جمع "أغمّ"، ليس لها وجود في الفصحى. فمن أين أتت هذه الصفة العجيبة؟
لا أحد يعرف المصدر الحقيقي للكلمة. لكننا نعرف أوجه استخدامها واشتقاقاتها كافة. فالفعل "غمّ " يعني: إشارة صامتة، أو مصحوبة بكلمات، من طريق رفع الكف في وجه المتلقي، مع فتح أصابع الكف، وإنزالها في الهواء، قرب رأس المتلقي، مصحوبة أحيانا بعبارة " غمّة اتغّمك" أو "الله يغّمك". وهي ليست لعنة كما يبدو من ظاهرها، لأنها أقرب الى صيغة التحقير والاستصغار، تشير الى خفة عقل المتلقي، وخيبة أمل مرسل "الغمـّة"، جراء تصرف معيب أو فشل سلوكي.
وفي أحوال كثيرة تستعمل العامية تعبير "أُمّداك"، بدلا من "غمّة تغمّك". وهو تعبير مبهم الأصول تماما، لكنه يشبه سابقه في المعنى والقصد، ويؤدي الغرض التحقيري نفسه. وقد تُستبدل تعابير أخرى، قريبة في المعنى والدلالة، بالتعبيرين السابقين، مثل "طاح حظك"، أو "سليمة تكرفك". وكلها ترمي الى الغرض عينه، بمستويات وتنويعات مختلفة.
بعض المصادر انفردت بتفسير لافت، يقول بأن الغمّ نوع من اللبس في فهم المرء للأشياء، وهو أيضا عدم المقدرة على الوصول الى مخرج ما في أزمة معينة. وهذا قول قريب جدا من حالنا الراهنة.
وإذا قبلنا بهذا التفسير تكون كلمة "غمّان" مفهومة بعض الشيء. فنحن - أعني العراقيين - على سبيل المثال، لا الحصر، "غمّان" أصيلون، إذا نظرنا الى الأمر من زاوية الفشل في الوصول إلى مخرج. وهو مأزق العراقيين كافة، باستثناء اللصوص والسياسيين والمطيرجيّة.
بيد أن ما لا يمكن فهمه- من قبلي كـ "أغمّ" أصيل- هو كيف استطاع الشاعر أحمد عبدالحسين مثلا، أن يقود الشعب "الأغمّ" في ساحة التحرير، بالحماسة والثورية ذاتها، التي طالب فيها الشعب العراقي بالخروج صفا واحدا لتأبين وتمجيد وتخليد"شهداء" عصابة "بلاك ووتر"، في بيانه الشهير إثر حادثة 31 اذار 2004؟ بناء على ذلك، هل يجوز لنا أن نعتبره القائد الضرورة لـ"غمّان" العراق؟ وهل سيقوم بإبدال عصابات "بلاك ووتر" بالجيش العراقي بعد استلامه الحكم مثلا، وأؤكد على كلمة "مثلا"؟ كيف استطاع ذلك وعلى مقربة منه نرى جيش مقتدى الصدر، الذي يملك ربع نواب الكتلة الحاكمة ووزراء الدولة، يطالب بالاصلاح والاعتصام والاقتحام؟ أما مريدو الصدر، بروليتاريا المدن الرثة، فيرفعون " نعال السيد" شعارا، يضعونه بديلا من دولة، يحتل كبار قيادييهم جزءا عضويا من عفونتها المرعبة!
باعتباري عراقيا "أغمّ"، لم أستطع فهم وتفسير هذه الصورة المتداخلة، الملتبسة، التي لا مخرج منها.
لقد فهمت الى حد مقبول ماذا يعني الفساد. لكني لم أفهم شيئا من المشهد الثوري المعادي للفساد. والله العظيم لم أفهم شيئا!
أصحاب شعار المدنية المتحمسون، نسوا أن أيهم السامرائي والنجيفيين وحازم الشعلان وعلاوي ودملوجي وصفية السهيل والجلبي وصدام مدنيون أيضا. يصر فريق "المدنية" على أن الحل هو نزع العمامة وليس نزع الفساد، ويصر على إحلال مشروع تحاصص السلطة بالتساوي قطعة قطعة، كأساس للعدالة الإجتماعية، بدلا من تحقيق نظام المواطنة والمشروع الوطني الديمقراطي. الناطق الرسمي باسم جماعة علاوي، حيدر الملا، يدين تصريح الصدر، الذي دعا فيه الى مساءلة نوابه. جاء الاعتراض باسم الدستور الحبيب، والقوانين الدولية الحبيبة، و"حتى لا تضحك علينا الأمم" الحبيبة. جماعة العراقية، التي تخشى أن يسألها "الغمّان" يوما عن حازم الشعلان وأيهم السامرائي وغيرهما، تريد محاكمة دستورية تستند الى دستور مزوّر، وتريد الاحتماء بالأعراف الدولية، التي ربما تكون أعراف داعش أو أردوغان أوالوهابية أوالدولة الهاشمية أو قطر، أوغيرها.
المجلس الإسلامي الأعلى يبدو لنا أكثر الأحزاب شفافية وأمانة ونزاهة في عراق اليوم، العراق الجديد جدا. فقد هدد علنا برفض التغييرات الإصلاحية ما لم تشمل توزيع وتقاسم مقاعد الدولة الشاغرة، والمناصب الإدارية، التي لم يتم تحاصصها بعد، والتي تزيد على أربعة آلاف وظيفة عليا. نظرية المجلس الأعلى الحسابية تقول: " إمّا عدالة في تقسيم الأسلاب، أو مواصة السير في سياسة الغمّان!"، والمجلس، من دون شك، لا يرتضي لنفسه أن يكون أحد الغمّان. وهذا حق طبيعي له، كفله دستورنا الحبيب.
الماكي يريد تغييرا أيضا. لكنه يريد تغييرا ثوريا إجتثاثيا، يستأصل به من خارطة الذاكرة العراقية المثقوبة، الملأى بالغمّان القتلى والأحياء، أحداثا أمنية جسيمة مترابطة: الموصل، سبايكر، الهروب الإرهابي الجماعي من سجون حصينة، تبخر الجيش العرمرم بقضه وقضيضه. أما العبادي، الذي أنفق عاما كاملا في عملية تحرير الأنبار ولا يعرف كيف يختتمها، لم يقل لنا حتى هذه اللحظة، كقائد أعلى للقوات المسلحة، من سلـّم الرمادي لداعش؟ وكيف جرت عملية التسليم يا قائد القوات؟ لكل هذه الأسباب قرر العبادي تحقيق ثورته الإصلاحية الجذرية "الضرورية"، من طريق حرق مرحلة "المحاصصة اللاتكنوقراطية"، والانتقال بالعراق الى مرحلة السعادة القصوى: "المحاصصة التكنوقراطية الثورية".
أمام هذه الأسئلة المحيّرة، أجد نفسي مجبرا على العودة الى ما أورده "المعجم الوسيط " حينما قال إن "غمّ"، التي تعني في ما تعنيه التباس الأمر، وانتفاء المقدرة على الوصول الى مخرج، قد تعني أيضا، إذا تعمقنا أكثر في البحث، "الغمامة". والغمامة: ستر من قماش يوضع على عين الثور وهو يدور في الساقية أو الطاحون.
أرجو أن يكون "مجمع اللغة العربية" مخطئا في تفسيره الأخير!
2

ولكن ماذا سنفعل لو أن "مجمع اللغة العربية" لم يكن مخطئا.
لا مفر إذن أمامنا! نحن غمّان. يجب أن نعترف للملإ، ومن دون خجل، أننا غمّان بجدارة حينما نطيل السكوت على باطل، وحينما نشارك في صنع باطل لا نرتضيه في قرارة أنفسنا، ولكن نتستر عليه، وقد نصنعه تقية، أومصانعة أو تذللا، أو تملقا، أو أنانية.
لكن الأغمّ الحقيقي هو من يسرق شعبه وبيته وأهله ويفقرهم. الأغمّ الحقيقي هو من يبدد ثروة عظيمة صنع الآخرون بمثلها، وحتى بأقل منها، مدنا عامرة، ودولا آمرة. الأغمّ الحقيقي هو من يستورد ويستجلب الى بلاده إرهاب العالم كله، في الوقت الذي تقوم دول أقل ثروة وتاريخا منا بتصدير الارهاب الينا وتنفيس مجتمعاتها بذكاء. الأغمّ هو من يجلب بنفسه مستعبدا جديدا لكي يحرره من مستعبد قديم. الأغمّ هو من "ينجز" ثلاثة انتخابات من دون أن ينجز تعدادا سكانيا واحدا خلال عشر سنوات. الأغمّ هو النائب أو السياسي الذي لا يعرف عدد منتسبي قواته المسلحة الوطنية، ناهيك عن اللاوطنية. الأغم هو من يشارك، بوعي أو من دون وعي، في لعبة تحريك وتجميد الجبهات المواجهة للارهاب، على حساب دماء ومصائر أبناء المناطق المحتلة. الأغم السني التكفيري هو من قتل ضحايا سبايكر ومن بارك الجريمة صمتا وتشفيا، لكن الأغمّ الشيعي "الجاهل" هو من أرسل "متدربين" الى منطقة قتال وصراع طائفي محتدم، لكي يقعوا في أيدي عصابات حاقدة. الأغمّ هو من يوزع ميزانية الدولة على عشائر لا نعرف من هي، ولمن تمنح ولاءها؟ وكم عددها وعدد مسلحيها، وكيف يتم تسليمها المبالغ والأسلحة؟ وعلى أي إيصال قبض وقـّعت؟ الأغمّ هو من يحوّل ساحة بيته الى زريبة تعافها أنفس الخنازير، معتقدا أنه أحد البناة! بناة الزرائب السياسية القذرة. الأغمّ هو من يسرق مليار دولار من دون أن يسأل: ماذا أفعل بها؟ أين أحفظها أو أنفقها؟ اللص الأغمّ هو من لا يعرف أن سرقاته ستذهب، رغم أنفه وأنف كتلته، الى بيوت المال الأجنبية وسماسرة التصريف وغسيل الأموال، ولا يتبقى له سوى أن يستجدي حصته الضئيلة في نهاية كل شهر، عند الحاجة! الأغمّ من يضنّ على شعبه بخبراته "التكنوقراطية"، كأيهم السامرائي، ويستبدل اللصوصية والسرقة بالعلم. الأغمّ هو من يخطط ويسهّل لأعدائه مهمة محاربة خصومه، ولكن على أرض بيته، وبين أفراد أسرته، وفي غرفة نومه. الأغمّ هو من يدنّس كرامة شعبه ويثلمها، بدلا من أن يعليها ويصونها. الأغمّ هو من لا يدرك أنه أغمّ وفاسد ولص قذر بالمقاييس الدينية والاخلاقية والسياسية والمهنية كلها.
3
حينما فرغت من كتابة مقالي أحسست أنني حقا أحد الغمّان الأصلاء والأوفياء.
من سيقرأ مقالي؟ أنا واثق تماما أنه لن يصل الى يد من هو في عوز حقيقي الى التنوير. سيقرأه أهل البيت، متابعو الحوار المتمدن، الذين لا يقرأون سوى مقالاتهم. ستتم قراءته من قبل أناس يعرفون مثلي، وربما أكثر مني، تفاصيل الواقع وسبل الخروج منه وطرق التفاعل معه. وهذا يعني أننا مهما مارسنا من أفعال التحريض لن نصل إلا الى شخص مفعـّل بالأساس، لا يحتاج الى عنصر خارجي يقوم بتفعيله، بينما يستطيع أغبى معمّم أو طائفي أوعرقي أن يصل بيسر تام الى آلاف البشر المنومين مغناطيسيا.
تفعيل المُفعـّل ضرب من سلوك الغمّان أيضا، يشبه الهذيان.
بعضهم يقول، ربما يكون بعض الكلام مفيدا لمن يعتقد أنه ليس من فصيلة الغمّان وهو غارق، حتى قمة رأسه، في مهمّة تدوير حجر الطاحون لصالح "أغمّ" جديد.
ربما، أقول ربما، يتوجب على الثورة أن تبحث لها عن أرض ناطقة تنثر فيها بذورها، وعن مصنع وطني تنتج فيه أسلحتها. الثورة الأصيلة تلك التي تبحث عن ناكر للذات يحمل رايتها، وليس عن متطفل "أغمّ"، يحمل آلة تصوير "السلفي"، لكي يخلـّد بطولة مجانية، كما لو أنه ثور طاحون في فيلم هزلي، وليس ثائرا في معركة حياة أو موت.