الجنرال والدولار


سامح نجيب
2016 / 3 / 15 - 22:26     


أزمات الدولار لها تاريخ طويل في مصر. فمنذ ستينات القرن الماضي والحكومة المصرية وبنكها المركزي يواجهان موجات متكررة من النقص في العملة الصعبة، وعدم التمكن من الحفاظ على قيمة الجنيه المصري، وانتشار السوق السوداء، والاضطرار للرضوخ في نهاية المطاف بتخفيض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، وغيره من العملات العالمية.

والملفت للنظر هو أن تحول السياسات الاقتصادية في مصر لم يؤثر كثيرًا في تكرار مثل تلك الأزمات المالية. فمصر في الستينات وحتى الثمانينات كانت تتبع سياسة اقتصادية تعتمد على دور رئيسي للدولة وقطاعها العام في الاستثمار، وسياسة إحلال للواردات، وتوسيع السوق المحلي كوسيلة للتصنيع، ورفع معدلات النمو الاقتصادي. وقد تحولت سياسات الدولة بالكامل منذ تلك العقود إلى سياسات الليبرالية الجديدة المعتمدة على تقليص دور الدولة كمستثمر، والاعتماد على القطاع الخاص، وسياسة تنمية الصادرات، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، والاندماج في الأسواق العالمية كطريق وحيد للتنمية ورفع معدلات النمو الاقتصادي. وظلت الأزمات المالية تعصف بخطط الحكومات المتتالية سواء في ظل رأسمالية الدولة أو في ظل الليبرالية الجديدة.

بالطبع مصر ليست وحدها في مواجهة الأزمات المالية والانخفاضات الحادة في قيمة العملة المحلية. وسيخرج علينا الخبراء الاقتصاديون في برامج الفضائيات ليتحدثوا عن انهيار الروبل الروسي والريال البرازيلي وتخفيض قيمة اليوان الصيني وبالطبع أزمة الليرة التركية. وما من شك أن هناك سياقًا عالميًا للأزمة التي يشهدها الاقتصاد المصري. فالصادرات الصينية على سبيل المثال انخفضت بنسبة 25.4% من فبراير 2015 حتى فبراير 2016. وقد خفض صندوق النقد الدولي توقعاته بالنسبة لنمو التجارة العالمية بأكثر من 0.5%. وهناك هروب كبير للاستثمارات الأجنبية في كثير من الأسواق الناشئة، وسط تكهنات بدخول الاقتصاد العالمي في كساد جديد، ربما يكون أعنف وأطول من الكساد الكبير الذي اجتاح الرأسمالية العالمية في 2008.

ولكن الأزمة المصرية، والتي يمثل قرار البنك المركزي بتخفيض قيمة الجنيه مجرد أحد انعكاساتها الأولية، ليست مجرد جزء من أزمة عامة في الاقتصاد العالمي بشكل عام والأسواق الناشئة بشكل خاص. فمصر ليست البرازيل أو الصين، بل أنها بعيدة كل البعد حتى عن تركيا. هناك تاريخ من الفشل الاستثنائي من قبل الدولة الرأسمالية المصرية في تحقيق تحول حقيقي في الاقتصاد المصري، سواء على مستوى إحلال الواردات أو زيادة في الصادرات أو طفرة في السياحة أو في جذب الاستثمارات سواء في المجالات الانتاجية أو الخدمية. هذا الفشل تظهر مدى فداحته عندما تقارن بين أداء الاقتصاد المصري ومختلف الاقتصادات النامية الشبيهة من حيث الحجم والتاريخ. أي نظرة سريعة على البيانات العالمية المقارنة لمعدلات نمو كل تلك القطاعات وغيرها، تُظهِر أزمة هيكلية ذات طابع خاص.

حتى ستينات القرن الماضي كان هناك تقاربًا نسبيًا بين كثير من الدول النامية، سواء في بنية اقتصاداتها أو الفجوة المشتركة بينها وبين الدول الصناعية المتقدمة. ولكن منذ ذلك الحين وهناك تباعد بين دول نامية تحولت إلى مراكز كبرى وصاعدة للتراكم الرأسمالي، وبين دول فشلت فشلًا زريعًا في تحقيق ذلك. والرأسمالية المصرية خير مثال على ذلك الفشل، سواء في مرحلة إحلال الواردات، أو في مرحلة تشجيع الصادرات والاستثمارات الخاصة. أصبح الآن هدف الرأسمالية المصرية ودولتها الفاشلة ليس اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة بل محاولة اللحاق بماليزيا وتركيا وتايلاند وحتى فيتنام وبنجلادش.

بالطبع كل تلك البلدان التي تحولت أو في طريقها للتحول إلى مراكز تراكم رأسمالي ذات شأن، هي نموذج فقط للرأسمالية ودولتها. فكل تلك البلدان لم تحقق تلك الطفرات إلا من خلال استغلال بشع للطبقة العاملة وللفقراء. والنمو الذي تحقق فيها يتسم بدرجات كبيرة من التفاوت العنيف بين المناطق الجغرافية المختلفة مع خلق لطبقة من البليونيرات المحتكرين لمفاصل تلك الاقتصادات.

وهي بالتأكيد ليست هدفًا أو نموذجًا لمن يريد نظامًا قائمًا على العدل الاجتماعي ومن يريد تجاوز الرأسمالية باستغلالها ونهبها وقمعها وأزماتها وفوضى أسواقها.

ولكن حتى هذا الهدف الرأسمالي قد فشلت في تحقيقه الرأسمالية المصرية ودولتها فشلًا استثنائيًا. كلنا نتذكر يوسف بطرس غالي وخططه البلهاء لتحويل الاقتصاد المصري ل”نمر على ضفاف النيل” مثل النمور الأسيوية. وقد جاء الجنرال السيسي وملأ قلوب وعقول كبار الرأسماليين المصريين بأنه سيكون قادرًا على تحقيق تلك المعجزة المستعصية. ولكنه سرعان ما انكشفت حدوده، حيث بدد منح ممولي انقلابه الخليجيين في مشاريع “عملاقة” فاشلة، وكل خطوة يأخذها تزيد من العجز في الميزانية وتبدد ما تبقى من إحتياطي النقد الأجنبي. بل أنه ضاعف من مشتريات السلاح فبلغت قيمة مشتريات السلاح التي تعاقد عليها الجيش المصري 1.475 مليار دولار عام 2015 مقارنة بـ 686 مليار دولار عام 2010 على سبيل المثال!

وقد جاء انهيار أسعار البترول كالضربة القاضية، حيث تقلصت المنح الخليجية وانخفضت الملاحة في قناة السويس، وكل ذلك الاستثمار والإنفاق في قناة السويس ومحورها لا يمكن أن ينجح سوى مع نمو سريع في التجارة العالمية وفي الملاحة والحركة عبر القناة، وهو كما شرحنا أعلاه عكس ما يحدث في الواقع. وبالطبع كلما تعمقت الأزمة كلما أصبح سؤال من سيدفع ثمن الأزمة أكثر إلحاحًا. وهو السؤال الذي جاوب عليه السيسي منذ اللحظة الأولى. جماهير عمال وفقراء مصر هم من يدفعون ثمن فشل النظام وطبقته الحاكمة. تخفيض قيمة الجنيه في بلد تتجاوز قيمة الواردات فيه أضعاف قيمة الصادرات يعني زيادات مؤكدة في أسعار السلع والخدمات الأساسية ويعني استشراس الدولة في تشريد العمال والموظفين وفي إلغاء ما تبقى من دعم. وهو يعني أيضًا استرضاء كبار الرأسماليين المصريين بكافة الوسائل بما في ذلك تلك المصالحات الإجرامية مع كبار لصوص عصر مبارك.

ولكن ما لا يفهمه السيسي وجنرالاته ومعهم شركاؤهم من كبار رجال الأعمال، أن إحدى المعارك الأساسية لثورة 2011 كانت تتمحور حول مسألة من يدفع الثمن؟ الجنرالات والبليونيرات الذين لم نرى منهم سوى السرقة والنهب والاستغلال والفشل والقمع والقتل والسجون؟ أم غالبية الشعب المصري من موظفين وعمال وفلاحين وفقراء؟ لقد أوضح السيسي إجابته بسياساته الاقتصادية وبارتباطه العضوي بكبار رجال أعمال عصر مبارك. والسؤال الملح اليوم هو كيف سيرد عمال وفقراء مصر على هذا الهجوم العنيف على مستوى معيشتهم وهذا الإفقار الممنهج؟ كيف نبدأ بتغيير موازين القوى بحيث يدفع هؤلاء الجنرالات والعصابات الفاشلة والتي تحتكر السلطة والثروة في مصر ثمن جرائمهم وفشلهم التاريخي؟