نفض الغبار عن لينين.. الحقيقي

دانيل تايلر
2024 / 2 / 16 - 14:22     

للينين سمعة سيئة. لا تزال جثته المُحنَّطة معروضة للسياح في موسكو، وذلك لتأليهه من خلال هذا النصب الزخرفي كواحدٍ من النخب السياسية الشمولية في القرن العشرين. واستنادًا إلى الروايات المذكورة عن حياة لينين في معظم كتب التاريخ، فلن نجد إرثًا للينين سوى العنف والقمع والازدراء النخبوي لحقوق الناس العاديين.

لكن المفاجأة أنك، إذا اتطلعت على حياة لينين، ستعلم أنه أمضى معظم حياته ناشطًا مؤيدًا للديمقراطية، وأنه قد تعرض للاعتقال والنفي بسبب نضاله من أجل الحرية السياسية في واحدة من أكثر الدول قمعًا في العالم. لقد وضع حياته بأسرها دائمًا على المحك، واحتل مكانةً في التاريخ كناشط مناهض للحرب مطالبًا بوضع حدٍ لوحشية الحرب العالمية الأولى التي لم يكن لها أي معنى، ومخططًا استراتيجيًا لإحلال السلام.

وعلى الرغم من أنه معروفٌ كرمز لحقارة النخبوية السياسية، إلا أن رؤيته للعالم قد استندت في الحقيقة، عن قناعة لا تتزعزع، إلى أن الطبقة العاملة لا يمكنها تغيير العالم فقط، بل إدارته بنفسها.

لم يكن لينين مجرد داعيًا إلى السلام والمحبة والتفاهم؛ بل كان ماركسيًا. وهذا هو ما وجهه إلى كراهية الحرب والظلم، والإيمان بالطبقة العاملة. بطريقة ما، كان الحكام في عصره يضطهدونه، وقد أيقن الملوك والجنرالات والزعماء في هذا العصر، تمامًا كما أيقن لينين، أن إنهاء الحرب والقمع السياسي يقتضي معركة، لكن انتصار البشرية في هذه المعركة يعني نهاية حكم هؤلاء. هذا هو السبب الذي دفعهم لمطاردته خلال حياته، والافتراء عليه بعد وفاته. ولهذا أيضًا فإن فهمَ أعمال لينين مهمٌ لفهم ما جرى خلال القرن الماضي.

بطل الديمقراطية
كانت الحياة في روسيا في فترة شباب لينين كابوسًا حقيقيًا. كان تنظيم الإضراب يُعد جريمة، وكان تشكيل النقابات جريمة، وكان نشر صحيفة بدون إذن هو أيضًا جريمة. كان الفلاحون المتمردون يُجلدون، وكان العمال يُقتلون، فيما كان النشطاء يتعرضون للضرب والتعذيب والنفي والشنق، أما اليهود والأقليات الأخرى فكانوا يُذبحون بشكل اعتيادي، وكانت المجاعات منتشرة، وكانت حقوق التصويت في الانتخابات شبه معدومة. كانت هذه الإمبراطورية مترابطة جيدًا بشبكة متطورة ولديها ما يكفي من الموارد المالية اللازمة من الشرطة السرية والجواسيس والجلادين.

هذا هو النظام الذي أعلن لينين عن عداوته له. عندما كان في عمر السابعة عشر، نظم مظاهرة تدعو إلى الحرية السياسية للطلاب. وكنوع من العقاب، فُصِلَ من الجامعة وحُكِمَ عليه بالنفي. بدأت حياته تتشكل كمنظم لحركة ديمقراطية، خاطر بحياته وتعرض للقمع والإيذاء من أجل ذلك. ولكنه زاد إصرارًا كما أصبح لديه استراتيجيات أكثر جدية.

وفي غضون سنوات قليلة من تلك الاحتجاجات الطلابية، أصبح لينين ماركسيًا. فعمل على تنظيم العمال داخل جماعات ثورية نشطة، مؤكدًا أن نضال الطبقة العاملة هو مفتاح التغيير الاجتماعي. وكانت هذه الجماعات تعمل تحت مراقبة الشرطة المستمرة وملاحقتها للنشطاء. سُجِنَ لينين ونُفِيَ بسبب هذه الأعمال، ولكن حتى في المنفى خارج روسيا، كان لينين يعمل على تنظيم الحركة العمالية المؤيدة للديمقراطية، مؤكدًا أن الديكتاتورية الروسية بدأت تضعف، وأن الصراع المفتوح من أجل الحرية بدأ يقترب.

في عام 1905، ومع اقتراب الموجة الأولى للثورة الروسية، كتب لينين: “الثورة تنتشر، والحكومة بدأت تفقد سيطرتها.. يجب أن تكون مطالب عمال سان بطرسبورج المتمردين – الدعوة الفورية إلى عقد جمعية تأسيسية على أساس الاقتراع العام المباشر، وعلى نفس قدم المساواة بالاقتراع السري – هي مطالب جميع العمال المضربين”.

كان توق لينين لانتصار الديمقراطية، ورغبته في التنظيم والنضال من أجل ذلك، يعني أنه، مثل العديد من الناشطين المؤيدين للديمقراطية منذ ذلك الحين وقبله، قد أمضى وقتًا في السجن، كما نُفِيَ خارج وطنه. ولكنه، مع المنظمة الاشتراكية التي كان يقودها، كان قد صار أكثر تصميمًا على انتزاع الحرية السياسية والاقتصادية على الرغم من أن النظام الذي يحاربه صار أكثر جنونًا وعنفًا.

إنهاء جميع الحروب
لا تزال الحرب العالمية الأولى واحدة من أكبر الأعمال الوحشية التي ارتُكِبَت ضد الإنسانية من أي وقت مضى. لمدة أربع سنوات، غرقت الكثير من دول العالم في الغاز السام، وانتشرت الخنادق والأسلاك الشائكة على أراضيها، وتحطمت برصاص البنادق وقصف المدفعية، قُتِلَ الملايين من الناس وشُوِّهوا. لقد استنزفت الرأسمالية قارات بأكملها بميلها عديم المنطق لكل هذا العنف واسع النطاق.

كانت الطبقات الحاكمة، وحتى الديمقراطي منها، تعتقل المحتجين المناهضين للحرب، وتوجه تهم التحريض على الفتنة والخيانة لأي شخص يشارك في الحملات المناهضة للحرب. أما الآن فتُذكر الحرب الآن باعتبارها كارثة لم يكن ثمة طائل منها. لم تنكشف وحشية الحضارة الأوروبية بشكل أكثر وضوحًا مثلما انكشفت في هذه الحرب. ولكن في ذلك الوقت، أشادت جميع الشخصيات السياسية المرموقة تقريبًا في أوروبا بالحرب، بما في ذلك الاشتراكيون “المعتدلون” الذي سعوا لاحتلال مكانة رسمية في ذلك المجتمع المهذب. كان اتخاذ موقف مناهض للمذابح الجماعية أمرٌ غير قانوني ولا شرعي.

في ظل هذا المناخ، تقدم لينين صفوف النضال، ليس فقط ضد الحرب، ولكن ضد النظام الذي جعل من الحرب أمرًا لا مفر منه. دعا لينين، وقام بتنظيم، العصيان والتمرد ضد نظام الحرب المناهض للديمقراطية بشراسة، ودعا الجنود إلى استخدام أسلحتهم، ليس ضد إخوانهم المُضطهَدين في البلدان الأخرى، ولكن ضد الحكومات والأحزاب في جميع البلدان.

عندما بدأ الجنود بالتآخي مع جنود الجيوش المعادية أثناء الحرب (تبادل الأحاديث ومبادلة الهدايا ولعب كرة القدم بين الخنادق)، أعلن القادة العسكريون أن من يقوم بذلك سيُتهم بالخيانة ويكون عرضة للاعتقال. كتب لينين بإثارة كبيرة عن هذا التمرد ضد العنف اللا ديمقراطي البغيض قائلًا: “التآخي هو طريق السلام… لا يعمل هذا المسار من خلال الحكومات الرأسمالية، أو من خلال التحالف معهم، ولكن ضدهم… وهذا الطريق هو بداية كسر الانضباط البغيض داخل ثكنات السجون، وانضباط الجندي وطاعته العمياء لضباطه وجنرالاته، هو كسر الانضباط للرأسماليين”.

كان إيمان لينين بالطبقة العاملة هو الذي دفعه إلى النضال من أجل الديمقراطية ومناهضة الحرب، وتحفيز المقاومة والتمرد ضد النخب السياسية أينما ظهرت. وكان هذا – الماركسية الأصيلة – هو الذي جعله قائدًا للثورة الروسية عام 1917، والتي أزاحت الحكومة المؤيدة للحرب من خلال حركة جماهيرية ضخمة بقيادة الطبقة العاملة المنظمة.

لينين اليوم
بعد مرور قرن من الزمان، لم تُهزم الرأسمالية بعد، ولا نزال نعيش في عالم تُعد الوحشية والحروب هي روتينه العادي. ليست الديمقراطية بمفهوم هذا العالم إلا مجرد خدعة. تُنفق المليارات سنويًا على الطائرات المقاتلة وبناء السجون ومعسكرات اللاجئين.

إن النضال من أجل الديمقراطية الحقيقية، ووضع حد للاضطهاد والعنف، وتحفيز العصيان والمقاومة، والإيمان بقوة وإمكانات الطبقة العاملة، هذه الأمور خطيرة بالفعل على أولئك الذين يؤيدون العنصرية ويدافعون باستماتة عن الرأسمالية كما كانت من قبل بالنسبة للقياصرة في عهد لينين. هذا هو السبب الذي جعل من حياة لينين رواية مرعبة بالنسبة للدوائر السياسية الحاكمة، ولذلك على كل شخص يريد أن يناضل ضد الحرب والقمع والظلم أن يعيد قراءة حياة لينين مرة أخرى على محمل الجد.