ما الذي يعيق قيام الدولة المدنية في العراق؟


سعد محمد رحيم
2016 / 3 / 8 - 08:16     

إن معظم القوى العراقية الداخلة فيما يُعرف بالعملية السياسية تقول بالدولة المدنية، ولكنها لا تُحدد ماذا تقصد بهذا الاصطلاح، وما هي تصوّراتها عنه، وإن كان لديها مشروع متكامل لبناء مثل تلك الدولة، أو لا.
طُرحت بعد انهيار حكم صدام واحتلال العراق ربيع 2003 فكرة تأسيس الدولة العراقية على أسس مدنية. وفي خطاب النخب الثقافية والسياسية، المتنورة تحديداً، صُوِّر قيام هذه الدولة كما لو أنه الحل الأنجع الوحيد الذي سيضع حداً لأزماتنا الاجتماعية والسياسية الموروثة منها والمستجدة. وهذا التصوّر إذا ما عانيناه للوهلة الأولى، بموضوعية وتجرد، يبدو وكأن لا بديل له. وخلال ثلاث عشرة سنة من تعثر آليات عمل الدولة القائمة، الفاقدة لهوية سياسية واضحة، والمنخورة بالفساد واللاكفاءة في الأداء، والمتهمة بهدر المال العام، والفشل في تحقيق الحد الأدنى من وعودها، ابتعدنا كثيراً عن ممكنات قيام هذه الدولة ( وقطعاً ليس إلى حد اليأس ) بعد أن استفحل الإرهاب، وجرى استثمار سياسي دنيء في سوق التخندقات الطائفية والعرقية، وباتت الحدود هشة أمام تدخلات دول الجوار، والدول التي ما وراء دول الجوار في شؤوننا الداخلية ومسائل أمننا القومي، حتى تدوّلت محنتنا بمباركة بعضنا، وعلى الرغم من بعضنا الآخر.
لا دولة مدنية من غير سلم أهلي ـ اجتماعي، ومن غير شيوع قيم التسامح وقبول الآخر المختلف، وتحديد هوية الأفراد، بدءاً، بعدِّهم مواطنين متساوين أمام القانون، وهذا يعني وجود قوانين نافذة تحقق مبدأ العدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص للجميع بغض النظر عن انتماءاتهم العائلية والطبقية والجندرية والقبلية والمذهبية، ووجود سلطة منتخبة تحمي المجتمع في ضوء تلكم القوانين عبر مؤسسات مدنية حديثة، وتحتكر وسائل العنف، وتتحمل مسؤولية تنمية موارد البلاد، وضمان رفاه المجتمع وسعادته وتقدّمه.. غير أن الدولة المدنية، فضلاً عمّا ذكرنا تحتاج إلى شيء آخر في غاية الأهمية، وهو المجتمع المدني الذي يحمل قيم مدنية، ويتحلى بحس جمالي مرهف، وثقافة عصرية تُترجم في سلوك مهذب، وعلاقات سليمة وشفافة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات القائمة، وتعامل راقِ مع البيئة، وهذا كله يُعبّر عنها مؤسسياً، وفي شكل تقاليد وأعراف وقوانين. ولا نحتاج إلى أدلة كثيرة لنقرر بأسف وأسى أن دولة بمثل هذا التوصيف، ما تزال، عراقياً، بعيدة المنال، وأن مجتمعاً بهذه الدرجة من التحضّر ليس أكثر من صورة حلمية تراود الأذهان.
لا تتخلق الدولة المدنية ببساطة مع خلع الثوب الديني الطائفي عن إيديولوجيتها وممارساتها، على الرغم من الضرورة القصوى لهذه العتبة الأولية، بل أن ذلك يحدث عبر تزويدها بمنظومة فاعلة من الديناميات التي تجعل منها راسخة ومنتجة وقادرة على استيعاب مشكلاتها وحلِّها. وهذه الدولة في الأحوال كلها لابد من أن تكون ديمقراطية تضمن الرقابة الدائمة على التنفيذ، ومراجعة ما تحقق ونقده، وتصحيح الأخطاء، وبطبيعة الحال مع ضمان حرية الرأي والتعبير، وفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بعضها عن بعض، وتداول السلطة،.
منذ تأسيسها اتخذت الدولة العراقية الحديثة وفي معظم مراحل تقلباتها شكلاً معلمناً بشحنة مدنية كانت تخفت أحياناً وتتعزز أحياناً، بحسب عقلية الفئات الحاكمة ورؤاها، وإجراءاتها على الأرض. وكانت شروط مدنية الدولة غير كاملة في تلكم المراحل، دوماً وبإطلاق. فترك فشلُ تلك الدولة في النهاية رد فعل ضار في لاوعي الأفراد والجماعات ضد العلمنة. وعلى الرغم من أن نظام التعليم قد عرف تقدّماً نسبياً حتى نهاية سبعينيات القرن العشرين، في الأقل، وساهم في إشاعة ثقافة مدنية عند شرائح واسعة من المجتمع، إلا أن ذلك النظام التعليمي الذي حُجِّمت آفاقه بالصبغة الإيديولوجية للنظام السياسي الحاكم ما عاد بمقدوره بث ثقافة مدنية عصرية في عقول الناس تتساوق وموجبات العصر الحديث لا سيما بعد الحروب المتوالية، وبعد عملية حصار قاتلة جوّعت المجتمع وعزلته وأهانته، فبدأت أولى خطوات تشرذم المجتمع مع التراجع نحو ترييف المدن وإشاعة قيم البداوة، والانكفاء في الهويات العشيرية والطائفية. ومن ثم كان الاحتلال الأجنبي قوة معززة أخرى لذلك التشرذم بسياسات مصممة قادت إلى هذا المآل سواءً كان ذلك بقصد سيء، أو نتيجة قصر نظر وغباء. ومع تهديم البنى التحتية للدولة نفسها، وحماقات سلطة الاحتلال في إدارة شؤون الدولة، وترسيخها لمبدأ المحاصصة الطائفية، وفتح الحدود أمام قطعان الإرهابيين للتسلل إلى الداخل العراقي، والتدخلات الاستخبارية وغير الاستخبارية للدول في الشأن العراقي، والفساد الذي استشرى في مفاصل الدولة، صارت المسافة بين حلم الدولة المدنية العراقية وتحقيقها أبعد بما لا يُقاس.
وإذن، ما الذي يحول، اليوم، دون إرساء قواعد رصينة لدولة مدنية، وطنية بالمعنى السياسي والأخلاقي، وعالية الكفاءة في إدارة طاقات المجتمع والبلاد ومواردهما، وتنميتها؟.
أعتقد أن أولى العلل التي يمكن تأشيرها بهذا الصدد هي قصور النخب السياسية بخاصة في فهم ماهية الدولة المدنية والمجتمع المدني، وضعف النخب الثقافية والسياسية المؤمنة بهما ومحدوديتها، وهشاشتها التنظيمية المؤسسية، وعدم وضوح برنامجها المدني، ونخبوية خطابها، ولا فاعلية الاستراتيجيات الدعائية والإعلامية التي تستخدمها في الترويج لأفكارها. فلم تجرِ نقاشات واسعة ومعمقة، من خلال وسائل الإعلام، وأمام الجمهور، بين النخب السياسية والثقافية حول فحوى الدولة المدنية وعناصرها، والمعترضات التي تواجهها، ومدى توافر شروط إمكان تشكّلها، وكيفية تخليق هذه الشروط وإنضاجها.
ومنذ مستهل ثمانينيات القرن الماضي، وحتى وقتنا الحاضر، أخذت الثقافة المدنية في العراق تُضمر، وشحب المظهر المدني المتحضر للمدن الكبيرة والصغيرة، بعدما راحت الواجهات الثقافية والحضارية لها تختفي تدريجياً، فتفتقد المدينة للمعايير التي تعطيها مشروعية التسمية. في مقابل أن العلاقات المدنية القائمة على سلطة القانون التي تكفل الحقوق والواجبات، وعلى التبادل الإيجابي المرتبط بقيم الإنتاج المادي والمعرفي، الداعمة لفكرة المواطنة والولاء الوطني أستبدلت بقيم المغالبة وجني الثروة بلا جهد يُذكر وبطرق غير مشروعة في إطار اقتصاد بات ريعياً أكثر وأكثر، حتى تقلص هامش مجتمع الإنتاج الحقيقي إلى حد مخيف، لتنتعش مع انتشار مظاهر العنف والإرهاب البنى ما قبل الدولتية، قبلية ومناطقية وطائفية وعرقية، فصار الولاء لها عند شرائح كبيرة من الناس قبل الولاء للوطن والدولة ومصيرهما ومستقبلهما.
واليوم تعمل المؤسسات والبنى ما قبل الدولتية تلك في موازاة عمل الدولة، وبالضد منها أحياناً، حتى باتت الجماعات المتخندقة والمنعزلة والمسلحة في الظاهر أو خفيةً، والتي تشعر بالتهديد بعضها من بعض أقوى من الدولة نفسها، وتمتلك قنوات نفوذ في مؤسسات الدولة وتستطيع شلّ آلياتها المدنية وتفعيل آليات تحقق لها مصالح فئوية وجماعاتية ضيقة. وهنا، تزداد عزلة الجماعات بعضها عن بعض، وتضيق حدود الهوية. وحين يحبس الأفراد أنفسهم في إطار هويات ضيقة تتوسع احتمالات التفتت والتصارع والخراب ويغدو السلم الأهلي، ناهيك عن مصير البلاد، في مهب العاصفة. ومن هذه الثغرات الكبرى في جدار الدولة العراقية تسلل الإرهاب ووجد له مراتع وحاضنات في أمكنة عديدة، حتى بات عائقاً آخر، أخطر من المعيقات الأخرى، يحول دون تمدين طابع الدولة وفلسفتها وتوجّهاتها، أو يمنح السياسيين المناوئين لمدنية الدولة الذريعة في تأجيل إنشائها.
في هذا المناخ الخانق والمسموم يجد مروجو ثقافات الكراهية والتصارع والعنف فرصتهم في تسويق بضاعتهم، تلك البضاعة الرديئة التي تصاب بالتلف في المناخات الصحيّة، لكنها الآن تسعى لطرد البضاعة الأخرى؛ الوطنية، المدنية، القائلة بالديمقراطية الحقيقية والتنمية والتقدّم، من سوق السياسة والثقافة المتخلفة التي يعمها التشوش والارتباك والفوضى.
من الضروري أن نحلم بدولة مدنية، غير أن هذا لا يكفي. ومن المجدي أن نرفع أصواتنا من أجلها، غير أن هذا، أيضاً، لا يكفي. ومن الواجب أن نشيع ثقافتها حيثما تمكّنا. وأن نكشف عن القوى المعيقة لها. وأن نحتج باسمها، ونديم زخم المطالبة بها، مؤمنين بأن ثمة أمل على الرغم من كل شيء.