الأمير الأعور (ميري كوره) فصل من رواية ( حب في ظلال طاووس ملك) في قيد الكتابة


حمودي عبد محسن
2016 / 3 / 8 - 00:57     

الأمير الأعور ( ميري كوره )
في صباح خريفي استيقظ محمد من منامه. نهض حائرا من فراشه، وعلى حين غرة أصابه أسى عميق. استشعر أن شيئا غريبا حدث في وجهه. لم يكن غريبا أن يحدث هذا في مثل هذا الصباح. إذ يحدث شئ غريب في بداية كل عصر من التاريخ. غطى وجهه بيديه، وشعر باشمئزاز من وجهه الأسمر، ثم مسد لحيته متفكرا بما حدث لوجهه، وتظاهر مع نفسه أنه يستفيق من إعجوبة خفية. أنها حقا ظاهرة عجيبة في صباح خطر، خطر جدا، قد تكون محض صدفة أو قد تكون محض صدفة من خطأ ما. إذ وجد محمد أن وجهه أصبح بعين واحدة. انتابه ضجر شديد من اختفاء عينه الأخرى، وراح يردد مع نفسه:
ـ ما أبشع وجهي بعين واحدة!
كيف سيتحمل الناس أن ينظروا إلى وجهي في كل صباحِ؟
في نفس تلك اللحظة جاءه صدى الناي من بعيد، بعيد جدا. لم يكن يقدر محمد أن يدرك إعجوبته، ولم يكن يقدر أن يفهم صدى الناي جاء ليعزيه في مثل هذا الصباح، بل غرق في تأمل عميق، عميق جدا ـ أن الناي يزدري منه ـ لذلك استشعر بالغضب من صدى الناي. الأن، يسمع صدى الناي يعلو وينخفض في ترنيمته الحزينة في خضرة الصباح. هذا أيضا شئ غريب. حينئذ حرك عينه التي صارت تتبع أفكاره في اضطراب، فرمشت في شئ من الهول، وهو يقول بصوت فيه رنة من الحزن والأسى:
ـ لا شئ، لا شئ، أن الناي يستهجن الصباح.
؛دث هذا في راوندوز ذات مرة في التاريخ. حدث هذا مرة واحدة في بداية عصر جديد، وقد تلاشى صدى الناي. يومئذ وقف الأمير الأب العجوز ينظر إلى عين أبنه الواحدة بارتياب وتوجس خاصة لم يحدث هذا إلا في زمن غابر جدا. لم يقدر الأب أن يتصور أبنه بعين واحدة بينما لم يكن محمد يبالي بهذا التحول، ولم تبد على وجهه سمات الأضطراب، فقد تظاهر كعادته أنه القوي الجبار. عندئذ ركز محمد عينه الثاقبة التي تقدح شررا على عيني والده، ثم غرق في التفكير: أنه يستطيع أن يرى العالم بعين واحدة. في نفس هذه اللحظة داهمته فكرة دون أن تخطر في بال والده أبدا. ساد صمت غريب، مقلق بينهما فيه من الفتور ما يكفي. تبادلا نظرات خائبة، معبرة في نفس اللحظة بالذات. عين محمد كانت تزدري من عيني والده المتعبتين، لذلك كانت عينه تنظر من نفق مظلم وتبحث في عيني والده كما لو أنها لا ترى إلا عيني والده وكأن لا توجد في الدنيا إلا هاتين العينين. حينئذ نضجت فكرة محمد تماما في هذا الموقف الحرج، فسأل والده:
ـ ما رأيك بعيني؟
فرد الوالد بلهجة طيبة:
ـ أنها رائعة، رائعة جدا.
حينها حدق محمد بوجه والده قائلا:
ـ الآن، أنا أمير راوندوز الجديد.
هكذا صار الصمت بينهما رهيب. صمت فيه نزعة تأمل، فيه حيرة استثنائية، فيه انشغال تفكير في لحظة وجود مشوش. هذا الصمت كان بداية النهاية حين استولى محمد على إمارة راوندوز، ونصب نفسه حاكما مطلقا يتوق إلى مجد عظيم، فقد نفى والده ووالدته إلى قرية اكوبان، وجعلهما يقيمان في قلعة دمدم. الآن، قد حان الوقت له ليخرس كل شئ، الآن، راح يحدق في البعيد مضيقا عينه بنظرة زائغة، قاسية، فقد اتقد شئ ما في ذهنه فجأة، فهو يمتلك قدرات هائلة في الحكم، ويمتلك تركيز قوي في الرؤية وبعد النظرة. الآن، هو مخلوق بشري استثنائي في غفلة من التاريخ كأنه يتوعد كردستان. إذ أول ما فعله بكونه محارب عظيم أن قتل عمه تيمور خان صلبا، وقتل عمه يحى أيضا صلبا بعد أن سجن الأثنين فترة قصيرة. الآن، أدرك هو بالذات نبوءة الصباح، وأدرك نبوء الناي ليبلغ العالم عن ظهور سفاح في راوندوز وسيملأ كردستان رعبا في آناء الليل، في نقاء الفجر، في قيظ الظهيرة، وليحل عالم مظلم يجثم عليه البطش، ويأن من صراخ الموت حيث بدأت تنفجر في هذا العالم ينابيع الدماء من الأجساد.
الآن، تهامس الناس أن الأمير مثير للإعجاب، مثير جدا في النور والظلام. آنذاك سدوا أفواههم آملين بمعجزة الأمير الكبرى. إذ أن الأمارة لا يمكن أن تستغني عن قدراته الهائلة في الذبح والقتل أمام أعين الناس. أنه يحتاج فقط مجرد إلى وقت قصير كي يثبت جدارته الكاملة التامة في أرساء الأمان. لذلك توافد عليه شيوخ دين، وإقطاعيون من أرجاء الإمارة لتقديم الولاء والطاعة. لم تمض فترة من الزمن حتى صار هؤلاء الأكابر يحلون الألغاز المستعصية للأمير الشاب لتكون قوانين الحياة والموت في الإمارة. هذا لا يكفي على الاطلاق، إذ لابد من براعة أخرى لتوسيع نفوذ الإمارة لاسيما وأن الأمير تثيره برك الدماء، وتثيره الأجساد التي تتلقى طعناة قاسية متواصلة وتلقى وسط برك من الدماء صارخة في صيحات الموت. أجل، هؤلاء الأكابر صاروا يصدرون الفتاوى البسيطة والمعقدة المتعلقة بالتكفير والتحريم وسن شرائع الوجود ـ الأمير حقا مثير للإعجاب. لذلك رحوا يتملقونه باستعجال:
ـ يا باشا، يا صاحب العين الثاقبة ذات بعد النظر، أنت المؤهل الوحيد لإراقة دماء الكافرين.
يا أمير الأمراء العظيم، يا من تؤجج المخاوف والرعب في نفوس الأسياد الخاملين،
أنت الوحيد العظيم تسمو حاكما مستبدا مطلقا سفاحا ببرك الدماء والنار والحديد.
حينئذ أصبح الأمير محمد باشا الراوندوزي مشهور جدا. ذات مرة جاءه خبر بأن أخاه المفضل قطف ثمرة رمان من بستان دون أن يأخذ السماح من مالكه. استشاط غضبا ، وقال:
آتوني به إلى هناز
حضر أخوه بين يديه مرتعبا. سأله الأمير بكل هدوء:
ـ بأي يد قطفت الرمانة؟
استغرب أخوه دون أن يدرك معنى السؤال لكنه أجاب بصدق:
ـ بيدي اليمنى.
تمعن به الأميرأ وهو يمسد لحيته، ثم قال:
ـ ضعها على هذه الصخرة.
ثم فيما بعد التفت الأمير إلى سيافه، وقال بخفوت:
ـ اقطع أضابعه.
آنذاك اشتهر الأمير الشاب في قطع الأصابع والأيدي والأرجل والأعناق، واشتهر أيضا في فقء وقلع العيون، ولم يجرأ أحد على سرقة دجاجة أو ماعز أو خروف، وصار اللصوص يلقبونه ـ الأمير القطاع. لكن هذا الأمير الذي اشتهر في زمانه الأمان ارتكاب مذابح مثيرة وهائلة بالفلاحين الذين اكتواهم الفقر، وهم يهمسون في قراهم:
ـ الأمير الأعور ( ميري كوره ) محارب عظيم.
هكذا احاط الدجالون والمنافقون والمنتفعون الأمير الأعور كي يزدادون ثراء وكي يحملون الألقاب ـ شيخ، سيد، بك، أغا ـ على حساب الفلاحين الفقراء. الفلاحون راحوا يتقاولون همسا عن المجد الجديد، ويسردون قصصا في الليل العميق: ذات ليلة من صيف قائظ نهض الأمير محمد من كابوس مرعب حيث الناي العجيب كان يعزف في السماء. آنئذ استشعر محمد بالاضطراب، وهو يصرخ:
ـ أواه، أيها الناي الغريب يا من تهدد إمارتي، ستموت!
لكن هذا الصوت الذي ايقظه من نومه لم يكن صوت الناي العجيب بل كان بكاء طفلة رضيعة تبتغي حليب أمها، فهجم على مهدها متأججا كالوحش، ورفعها بيديه، وقد خرج من طوره الجبار حيث أعماه الغضب وشراسة نفسه ليكون أشد رعبا، أشد قسوة، ويرميها إلى الوادي العميق مدمدما:
ـ لا أحد يزعج نوم الأمير.
ثم رجع إلى فراشه ليغط في نوم هادئ هانئ في آناء الليل. لم تمر لحظات، وقد عاد صدى الناي مجددا. كان صدى الناي يلاحقه في منامه ويعكر عليه نوم الهناء. كان النوم يهرب منه خاصة وقد أصبح هذا الصدى أشبه بدمدمة تقرع في رأسه. عندما نهض في الصباح مغتاضا صرخ بغضب:
ـ اسكتوا الناي.
عندئذ قرعت الطبول في ابتهاج مدوية في أرجاء الإمارة:
نداء إلى أبناء الأمة الكرام، نداء، نداء.
الأمير يحرم عزف الناي في الليل والنهار،
ويحرم رقصة (ره هشبه له ك) في الأفراح.
ثم قرعت الطبول في أرجاء الإمارة مجددا كي لا يسود الهدوء، وكي لا يهنأ الفلاح في راحة بال، لكن هذه المرة قرعت طبول الموت متتالية، وتعالت الأصوات مع إيقاع صدى الطبول:
ـ الأمير لا يهدأ دون قرع الطبول.
الكل كان يصغي في ارتباك. الكل لا يستطيع أن يستسلم للنوم في هناء. الكل يفهم أن مصيبة ستحل في زمجرة، في زلزلة. الكل مرغم أن يكون جاهزا في عدته للغزوات. غزوة ستلي غزوة في كفاءة متقنة، وقدرة كاملة. الآن، احمرت عين الأمير متوهجة مثل لهب بعد أن تم كل شئ على أحسن حال في راوندوز. ها قد انتجت أسلحة طعن من خناجر وسوف، وانتجت أسلحة بارود من بنادق ومدافع، فتعالت فتاوى شيوخ الدين تجيز قتل الأخوة الأيزيديين. كان كل شئ مبارك ونال رضا السلطان في الاستانة التي تمتد مخالبه إلى كل بدعة غارقة في الأذى والوجع والموت. فجأة اختلطت عند الأمير أصوات متشابكة تدعوه إلى الظلم، فلم يعد يميز بين الصوت الناعم والصوت الخشن. آنئذ صرخ كالمجنون كأي طاغية:
ـ آتوني بمرآة صغيرة!
هرع مرافقوه خائفين يبحثون له عن مرآة صغيرة. جاءوا بها فرحين. نظر الأمير إلى وجهه في المرآة، وجد عينه ما تزال واحدة، واكتشف أن وجهه فيه آثار جدري. ابتسم، ثم وضع المرآة في جيبه، وكلما اشتاق أن ينزر إلى وجهه أخرجها من جيبه، يتأمل فيها، وينظر إلى العالم من خلالها. بعد لحظة قصيرة صرخ بصوت فخور:
ـ زحف، ابادة تامة على إمارة بهدنان.
هكذا زحف جنوده متدافعين، متزاحمين على حرير، وكلك، ثم الشيخان، وهم يغتصبون أموال الأيزيديين وأراضيهم وممتلكاتهم، ويسرفون في القتل، ويستبيحون الفتيات والنساء. لم تبق قرية إلا وأوقدوا عليها النار وأبادوها. لم تبق أرض إلا وعاثوا فيها الخراب. لم يبق بستان زيتون إلا وأحرقوه. أسرفوا في القتل أينما حلوا. سبوا الفتيات والنساء واقتادوهن إلى أسواق النخاسة في مدن سوران. أبادوا قرى كاملة، ذبحوا الجميع بالرغم من مقاومة الأيزيديون إلا أن جند الأمير كانوا يتفوقون عليهم بالعدة والعدد والعتاد. تلك كانت مقاومة لا جدوى منها، فانسحبوا من نجا منهم إلى الوديان وقمم الجبال والمغارات والكهوف، واختفى بعض منهم بين الأشجار الكثيفة البرية والأدغال والأحراش، وهم يسمعون دمدمة الزاحفين:
ـ غنيمة، غنيمة، غنيمة.
يومئذ احتشد الأيزيديون في يوم ربيعي كي ينجو من الإبادة عند جسر الموصل الذي يربط طرفي دجلة الفائض في هدير صاخب سريع. أجل كان هذا الجسر هو الوحيد الذي عبره يصلون إلى شاطئ الأمان، لكن والي الموصل أزال الجسر وقطع طريق النجاة، فهتف الأيزيديون:
ـ لنحتمي في تل كوينجق ونقاوم وندافع عن الأطفال والنساء.
حشوا بنادقهم للاستبسال لكن في تلك اللحظة المشؤومة جاءت زخة مطر من غيمة سوداء فأفسدت البارود وتعطل مفعول البنادق، حينها فاطئهم فرسان الأمير وحدثت المذبحة دون غوث، دون رحمة، دون شفقة، وأهل الموصل يرون من شرفات بيوتهم كيف تضرب الأعناق، وتنزف الدماء، فهذا جندي ينتزع وليدا رضيعا من صدر أمه، ويذبحه أمام عينيها، ثم يضع السيف على صدرها، وينفذه من ظهرها. ذاك جندي يسحب طفل من حضن أمه وهو يبكي بصمت، بشهقة راجفة دون صوت، ثصرخت أمه:
ـ لا تقتله.
اندهش الجندي، وقد تشتت أفكاره، وهو يراقب أمه التي راحت تتوسل:
ـ لا أريد أن يقتل أمامي.
تأملها الجندي ثم ضحك وقال:
ـ ماذا تريدين؟
ردت الأم بخفوت:
ـ اقتلني قبله، لا أتحمل أن تذبحه أمام عيني.
حينئذ رأى الطفل أمه تذبح أمام عينيه قبل أن يذبح هو أمام جريان نهر دجلة، وتحت غمامة السماء السوداء. أجل، لم ينج أحد من الأيزيديين حن هذه المذبحة حتى الأم التي أخذت برأس صبيها ، ووضعته في حجرها وهي تناغيه دون غيث، حتى ذلك العجوز المتمرغ في الدماء الذين نسوه جند الأمير وهو يأن في جراحه، وهم يفتشون في جيوب القتلى عن غنيمة. بعد لحظات سمع أحد الجنود آنينه، فعاد إليه قائلا:
ـ ماذا تريد؟
فقال العجوز أشبه بالتمتمة:
بئس بكم، ألم تشبعوا من الدماء؟
فغرس السيف في صدره وهو يقول:
ـ ما رأيت مثل هذا قط!
فيما بعد انتهى كل شئ. كان هذا هو الرعب في سطوة الموت. كانت هناك لحظات صمت من الوقت. صمت مشؤوم. إذ ما عادت هناك حياة للأوجه الشاحبة، الوديعة الدافئة. صرخة الاحتضار لم تجد غير الصمت في أعماق الزمان إلا أن هدير دجلة استمر في صراخه وهو ينوح، آنئذ تعكر ماءه، ثم بعد ذلك جاء صدى الناي الكئيب الحزين كأنه في بكاء، يحوم صداه مثل طائر فوق عشرة آلاف جثة مطروحة فوق التراب، عشرة آلاف أيزيدي قد ذبحوا فوق تل كوينجق. هذا هو الرعب، ثم صار الصدى ترنيمة الموت فوق بساتين الزيتون المحروقة. هذا هو الرعب في التاريخ الأسود الكئيب. الترنيمة صارت هذيان ، ثم صمت: لم تعد هناك حياة. وجوه ساكنة في براءتها. كان صدى الناي الحزين يصلي من التاريخ:
أرواح نور ترفرف في السماء
مثل نجوم لوامع تتألق بيضاء
أجساد فوق تل كوينجق كنداء
شمس تشرق فوقها دون انتهاء
منيرة وضاحة طالعة حسناء
صفراء في نورها في السماء
ماذا وراء الأمير غير البلاء
ارتكب أكبر جريمة شنعاء
ويح له من قصائد الشعراء
الأمير الأعور في ألسن هجاء

شمس تشرق فوق القتلى في النهار
شمس تغيب فوق القتلى في انبهار

أرواح نور ترفرف في السماء
مثل نجوم لوامع تتالق بيضاء

وفيما بعد تلهف الأمير أن ينظر إلى وجهه في المرآة. أخرج المرآة من جيبه، ونظر فيها. رأى وجهه قاسيا مريبا صارما. أنه وجه مجرد فارغ من أي حلم إنساني. أنه يعكر الصمت أيضا أما عينه التي تنظر إلى البعيد من خلال المرآة، فوجدها لا ترى إلى الموت. عينه وحدها قادرة فقط أن ترى الموت. عينه راغبة في الموت. أنها مجرد ترى رغبة في القتل. ها هي عينه ترى قرية كبيرة في كردستان مسالمة آمنة مبتهجة ، زاهية في أفراحها ـ سبعة أعراس في آن واحد ـ أشاح بوجهه عن المرآة: الفرح لا يعجبه. استغرق قي صمت مشوه. خلال فترة وجيزة تعتمت نظرته في الظلم، وقد فاجأه صدى الناي من بعيد. هذا يوجعه. صرخ بأعلى صوته:
ـ ما أسم هذه القرية.
أجابه أعوانه بذعر:
ـ إنها قرية ختارة يا أمير الأمراء.
تمتم بصوت متكسر:
ـ أنا أبحث عنها في الليل فأجدها في النهار.
لم يتمالك نفسه، ولم يتوان الصبر، وقد هز رأسه بغضب، وقال:
ـ هجوم.
صارت أصوات جنده تقطر دما وهم يقتحمون القرية بسيوفهم التي راحت تضرب، وتشق الرؤوس، وتهوى على الأذرع التي تقاوم. كان أهل ختارة يقاومون بشراسة. الرجال والنساء والصبايا كانوا يقومون بشراسة: رجل ببندقيته يقاوم. هذه امرأة بخنجر تقاوم. هذا صبي بحجارة يقاوم. الكل كانوا يقاومون الغزاة القساة من أجل قريتهم التي أحبوها، وأطفال يبكون في وجه الموت، وهم بين أزيز الرصاص وصدح السيوف. اشتدت المعركة فلم يبق الختاري عصا إلا وقاوم بها، ولم يبق فأسا إلا وقاوم بها، ولم يبق مسحاة إلا وقاوم بها الغزاة، وأهل ختارة يهتفون:
ـ لا عيش، لا عيش إلا ختارة.
فهذا شيخ كبير بكى حتى اخضلت لحيته دما، فما بقاءه دون أبناءه، وهذا صبي لم ينبت الشعر في شاربيه كانت ترفسه أقدام الغزاة ،وهو يصيح ما أصنع بالحياة دون حبيبتي، وهذا طفل يخرج من بين الأرجل باكيا يبحث عن أمه، وتلك أم تنحني على وليدها كي تقيه الموت، فتتلقى صعنة مميتة في ظهرها لتسقط فوق وليدها مثل نجمة سماوية تنيره بحنان. هكذا صاح أهل ختارة: غدر جند الأمير ألأعور، غدر، غدر. كانت وجوه الكره لجند الأمير الأعور قد شاهت تماما بدماء الأيزيديين. لم تنج عروس من السبي. أوثقوهن برباط، واقتادوهن إلى راوندوز بينما كانت تلك العروس بفستانها الأبيض تضم مذهولة تائه منديل عريسها الأبيض المخضب بالدماء إلى صدرها. أضرم الغزاة النار في المعابد، وردموا الآبار، وسلبوا الممتلكات، وانسحبوا بغنائمهم كي يبتهج بها الأمير الأعور.
و فيما بعد انتهك جند الأمير حرمة القوش ـ وريثة السلام والمحبة ـ ليحل فيها الفزع، فقد استباحوا الكنائس، فها هم ينحرون الشماس على المذبح المقدس، ويذبحون المعمرين والرجال الأتقياء في اليوت، ويسحلون أجسادهم الظاهرة في الأزقة، ويصرخون:
ـ كفرة، كفرة.
لم يكتفوا في ذلك، بل راحوا يضربون العجائز ويسبون الفتيان بعد أن يجردوهن من الثياب، ثم يطاردون الناس الأبرياء إلى الجبال، يحاصروهم، ويهجمون عليهم مقطعين أوصالهم دون رحمة، وهم يصيحون بأعلى أصواتهم:
ـ أين الكنائز، الكنائز؟
استرشدوا إلى الكنائز بعد أن قتلوا الأب جبرائيل دنبو رئيس الدير وسبعة كهنة، وثلاثة راهبات، وألحقوا الموت والوجع والألم بأهل ألقوش، ثم وقفوا يتطلعون إلى الكنوز التي بحثوا عنها فاغري الأفواه، مدهوشي العيون دون أن تستحي نظراتهم، فقد كانت الكنوز تحتوي على صليب فضة، كأس ذهبي ومخطوطات عن الخلق ومسيرة التاريخ ووصايا إلى الخير، وملابس طرزت بالقربان. أجل، لم تستحي أبدا عيون القتلة أن ترى كنزا يؤدي إلى سمو الانسان وصفاء الروح وطهارة الجسد.
آنئذ أرسل جند الأمير الكأس الذهبي المقدس وقافلة من السبايا كغنائم حرب إلى أميرهم القابع خلف أسوار وقلاع راوندوز، فابتهج جدا، فها هو ينظر إلى عينه الفارغة الصماء الشريرة التي لا ترى إلى الرعب من وجهه اليابس الجامد. لا شئ في عينه إلا أن يرى الرعب يسود الأرض في كل مكان. فيما بعد انتهى كل شئ في الموتـ وهو الرعب. الآن يسمع صدى الناي من داخله الذي فيه قلب متحجر يعود إلى عذر الهمجية. عندئذ اغمض عينه ثم فتحها كما لو أنه يتلاعب في نظراته الساحة في الدماء. في تلك اللحظة ارتسمت على حافة الكأس المقدس عبارة مرئية جدا: أنت مهزوم. صرخ مهتاجا ثائرا وهو يصرخ: احرقوهم.
ثم فيما بعد، تثاقلت الأيام على الأيزيديين التي لم تعد تحتمل في مواجهة عتاة الظلام، وهواجس الموت. أجل، شعب الأيزيديين لمت به المحن والمذابح المروعة إذ حتى النجوم في عليائها عتمت نفسها خجلا من المهالك التي ارتكبها الأمير الأعور على الأرض. في ذلك الوقت احتشدت العوائل في لالش كي يستجدون بريق نور في الخلاص من البطش الذي يطاردهم في كل مكان، وكي يسرفون في التأمل والأمل من أجل النجاة. وحش بدائي ظهر لهم في كل مكان متعطش للدماء. نعم، الأيام تمضي بلا حساب في الزمن الدامي البطئ الخطى. كان جند الأمير يقتربون كي يوشحون لالش بالموت. أنهم يقتربون بوجوههم الغليظة، فاحتوى الأبرياء الخوف الرهيب. خوف جزاؤه الموت. تلك كانت أحلك لحظات أثناء حمرة الشفق التي ظهرت في السماء بعد الغروب فوق الجبال التي تواجه المعبد. استعجل الأطفال والنساء والشيوخ ليدخلوا نفقا مظلما باردا مثقل الهواء قرب العين البيضاء. أزاحوا صخرته التي كانت بمثابة باب سري، واندسوا في جوف النفق الذي كان يسمى نفق قرقوري. تلك كانت لحظة مبهمة المصير، تمحي العيون من النظر إلى بهاء لالش الغارق في الهدوء. انحشروا في النفق طالبين منه النجاة. ذلك كان أمر مروع جدا. أمر مروع أن يتصور المرء أنه يختفي من شبح الموت الذي يطارده. أمر مروع أن يتصور المرء أن ينتهي الروع في نفق الظلام، وفي غضون أيام. كانوا يغمضون عيونهم في نفق البؤس كي يطردوا الظلام. كانوا يكتمون أنفاسهم كي يطردوا الرعب. كانوا يبكون بصمت. كانوا هم الأبرياء إن أرادوا أن يتحدثوا بكلمات يهمسون فقط من خلال الأذان. كان الهمس هو الوحيد يواسي النفس في جوف الظلام.
توالت عليهم ساعات الليل الكئيب، وتوالت عليهم ساعات النهار المخيف الغريب. لم يستطيعوا أن يعدوا الساعات في الصمت الثقيل. الكل صامت، الكل يترقب ماذا سيجري لهم في هذا العالم الأليم. الظلام لا ينقشع إزاء مأسوري عتمة الليل والنهار في نفق قرقوري، والأمل خادع للتعساء البائسين. فجأة صار خيالهم يسبح في فزع لا نهائي وهم يسمعون أصواتا ماكرة خادعة أشبه بالزعيق فيها نبرة تتمثل باللهجة الأيزيدية، تردد اسماء نساء أيزيديات شائعة عند الأيزيديين بلكنة مموهه:
ـ فاتنة، عائشة، اخرجوا، اخرجوا، جند الأمير انسحبوا.
لكن هذا لم يخدع المختفون في نفق قرقوري من أطفال ونساء وشيوخ الذين يزيد عددهم على المئة، فلم يخرج أحد، وهم يستهينون بالعطش والجوع غير أن الأطفال بدأوا يطلبون جرعة ماء همسا، فخرجت امرأة وبيدها وعاء لجلب الماء من العين البيضاء. حينئذ لمحها أحد جند الأمير، فتجمع الجنود عند مدخل النفق المغلوق ،وراحوا يصرخون كالفحيح:
ـ اخرجوا، اخرجوا.
لم يخرج أحد. راحوا يسمعون هرجا، وأصوات مختلطة تأتيهم من قرب مدخل النفق المغلوق. آنئذ كوم جند الأمير حطبا قرب المدخل، ثم الهبوا النار في الحطب، فشبت النار، تصلي وتحرق، وراح الدخان يتسرب إلى النفق، فأصاب الأبرياء ذهول مفاجئ، وانطلقت الأنفاس المكتومة في اهتياج، وانفجر الأبرياء في الصياح والصراخ والنحيب:
ـ القساة يقتلونا خنقا بالدخان.
هذا هو الفزع الرهيب الذي بدأ يخفق رويدا، وتضعف الأصوات، وتختفي مع الموت الحزين البطئ في فاجعة مروعة. ذلك كان في يوم رهيب.
لا شئ سوى الأحياء يستذكرون الآلام. تلك الألام الموجعة في النفس البشرية التي تعرف كل شئ عن الموت الرهيب. هذا حدث في سهل نينوى، ولالش والعمادية وسنجار وأغلب مناطق بهدنان عام 1832 . أجل، الأحياء يستذكرون تلك الدماء التي نزفت على أيدي جند الأمير الأعور في أيام مشؤومة. أيام صارت استذكر في التاريخ، وتتناقلها الأجيال.
كان الأمير الأعور يحن إلى المرآة ، فأخرجها من جيبه وراح ينظر إلى عينه التي اضمحلت في رؤيا جديدة، رؤيا أن العالم بين يديه، يسحقه ويدمره متى رغب.الآن لديه رغبة أن يبحث عن صدى الناي الذي يهدد كيانه، في خطاب خالد:
ـ أنت مهزوم أيها الأعور.
فصرخ برعب:
ـ آتوني بعلي بك.
آنذاك وقع أمير الأيزيديين علي بك في الأسر، فاقتادوه إلى راوندوز، ثم رموه في السجن. الآن يقف علي بك في مواجهة لا تنسى أبدا عند الأيزيديين. مواجهة تشبه المبارزة بالنظرات. ذلك لم يروق لصاحب العين الواحدة، فاستشاط غيظا:
ـ اسلم تسلم يا علي بك.
ابتسم علي بك، وقال بصوت وقور خافت:
ـ ألم يقل نبيكم: ( لا إكراه في الدين )، فلي ديني، ولكم دينكم.
استشاط الأمير الأعور غيظا، وشعر بأن كل شئ يهتز ويرتج تحته، فصرخ مرتعبا:
ـ اقتلوه.
اقتادوا علي بك إلى شلال هادر الذي صار فيما بعد يطلق الناس عليه شلال علي بك تيمنا ببطولة هذا الأمير الذى أبى أن يترك دينه من أجل قدح من الدم. قتلوه وعلقوا جثته ثلاثة أيام على جسر راوندوز حتى جاء صدى الناي من بعيد يخاطب الأمير المقهور:
ـ أنت مهزوم يا أعور.
استشاط غضبا وهو يردد:
ـ ادفنوعلي بك وسوا التراب فوقه دون أن يبقى له قبر يذكر.
فيما بعد أيضا، كانت النهاية ـ نهاية سطوة الأمير الراوندوزي. فجأة أحاط جيش الباب العالي راوندوز، ووجهوا المدافع صوب السور والقلاع، وقد تفرقت أيادي البطش بمجرد فتوى بسيطة من شيخ الدين محمد الخطي تحرم محاربة جيش الخليفة محمد الثاني الجالس فوق عرشه في الاستانة. فتوى تقول : ( أن من يحارب جيش الخليفة العثماني غير مؤمن وزوجته منه طالق ). تلك كانت النهاية. لا شئ بعد الآن.كل شئ انتهى. لا مفر للأمير محمد الراوندوزي. استسلم خانعا ذليلا باعتباره رعية من رعايا السلطان العثماني بعد أن صدر بحقه العفو. اقتادوه إلى الاستانة، وبعد مثوله مهانا أمام السلطان قدم الطاعة والولاء لسيده خليفة المسلمين. أمر الخليفة بتقديم الهدايا الثمينة نتيجة لخدماته الجليلة لعرش الخلافة، فرجع مزهوا دون أن يدري أن العثماني يدبر له مكيدة كالمعتاد. أثناء عودته إلى راوندوز استقبله والي سيواس بحفاوة بالغة ليقوده إلى الموت.
لقد مات الأمير الأعور تحت وطأة السطوة ذاتها التي سخر نفسه من أجلها. مات بعد أن اختلق لنسه عظمة ضبابية تلاشت أمام قوة أبطش تماما من قوته الخرافية في سفك الدماء باسم الله. لا أحد يعرف كيف مات هذه الأمير الذي امتدت سطوته خارج إمارته. البعض يقول: ملأو شرواله بالحجر ، ورموه في بحيرة. البعض يقول: سلخو جلده، وشووه على نار هادئة. البعض يقول: ذبحوه على الطريقة الاسلامية لكن قد يكون الأصح أعدموه على الطريقة الحميدة بقطع الرقبة بالسيف. هكذا صار الناس يرددون فيما بينهم: أنه مات، وماتت إمارته، وتلاشت الإمارات واحدة تلو الأخرى دون أن تبنى مدرسة واحدة لتعلم القراءة والكتابة.
هذا هو التاريخ المرعب الذى انتهى بانطفاء عين الأمير الوحيدة بموته عام 1837 بعد أن قتل عشرة آلاف من ختارة، وقتل جميع أهل بحزاني وبعشيقة، ولم ينج من القرى الثلاثة إلا من كان خارجها. هذا الأمير الطاغية الوحشي الذي لا يضاهيه أحد بسفك الدماء قد قتل حوالي مائة ألف أيزيدي في زمانه. لقد مات الأمير الأعور، وماتت مراسيمه الرهيبة المروعة في القتل لكن صدى الناي ما يزال يعزف في ختارة، يعزف في الأفراح والأحزان.

حمودي عبد محسن
07.03.2016