الرسالة الأخيرة - 2 -


بهاءالدين نوري
2016 / 3 / 3 - 13:11     



القسم الختامي من مذكرات بهاءالدين نوري-
( الجزء الثاني غير المنشور) ينشرهنا في ثلاث حلقات

قلت إنني بدأت عهدي بالنضال السياسي في صفوف حشع وقضيت زهرة شبابي وعشرات السنين من عمري في خدمته واندمجت معه أشد ما يكون الاندماج، وضحيت كثيراً من أجله، ولست نادماً على ما فعلت. كما إنني لست نادماً على هجره بل كان علي أن أهجره قبل ذلك التاريخ لأنه لم يعد بمقدوري التعايش مع التشكيلة القيادية التي بسطت السيطرة الكاملة على الحزب، وسارت به إلى نفق مظلم لم يخرج منه إلى الآن. اني خرجت من صفوف حشع احتجاجاً على تصرفات قادته غير المؤهلين للقيادة وليس تعبيراً عن أي تغيير إزاء نظرية كارل ماركس من حيث الجوهر. كنا نعيش في بلد يسوده الفقر والبطالة والتخلف ويحكم من قبل نظام ملكي رجعي شبه إقطاعي وشبه رأسمالي خاضع للاستعمار، وغارق في فساد شامل إدارياً وسياسياً واقتصادياً ومعزول عن شعبه، يضاف إلى ذلك أن عائلتنا تعاني الفقر والحرمان وضنك العيش بعد أن نقلنا والدي إلى المدينة في 1941، فهل من الغرابة في شيء أن ينجذب أمثالي إلى الحزب الذي تبنى فكرة تأسيس نظام اشتراكي قائم على مبادئ العدل والمساواة بين المواطنين.
وقد مررت بعد انتمائي إلى حشع بمرحلة "الدروشة" شأن سائر زملائي في الحزب، واستمر ذلك سنوات غير قليلة، كنا مناضلين متفانين ودراويش حقيقيين لا لشيوخ الطريقة القادرية أو النقشبندية بل لشيوخ القيادة الشيوعية الحاكمة في موسكو، التي كان لها شرف إقامة أول نظام من النوع الذي حلمنا به ولـ"أنبياء" الشيوعية في العالم ماركس وانكلس ولنين وستالين، هؤلاء القادة المعصومين من الأخطاء ـ حسب تصورنا. وكان من واجبنا أن نتفهم ونطبق ما كتبوه لكي نضمن الوصول إلى الهدف المنشود الذي كنا نتصور بأنه قريب المنال. ففي أعقاب الحرب الكونية الأولى انتصرت ثورة أكتوبر وفي أعقاب الحرب الكونية الثانية تأسس معسكر اشتراكي مكون من الاتحاد السوفيتي ومن بلدان بولونيا ورومانيا وهنغاريا ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وشرق ألمانيا وألبانيا. وفي 1949 انتصرت الثورة الشعبية العظمى في أكبر بلد من حيث السكان، في الصين. وحُسب ذلك انتصاراً بالغ الأهمية، بل أكبر انتصار بعد ثورة أكتوبر وأقوى تعزيز للمعسكر الاشتراكي العالمي، وكان انتصار الصين بالفعل عنصر إلهام كبير جداً، إضافة إلى انتصار الدولة السوفيتية في الحرب العالمية الثانية، فاتسع نفوذ وهيبة الاتحاد السوفيتي، وتنامت الحركة الثورية العمالية والتحررية في جميع بلدان العالم، وتضعضع وضع النظام الرأسمالي وخيمت أجواء الخوف والقلق على الكثيرين من حكام الولايات المتحدة وغيرهم.
وقد تُوجت انتصارات الحركة الشيوعية العالمية بنهوض وانتصارات شعوب المستعمرات الناهضة ضد السيطرة الاستعمارية في شتى بقاع الأرض، وفي المقدمة منها شعوب الهند، الذي اعتبره الإنكليز تاج الإمبراطورية البريطانية والذي أفلح في انتزاع الاستقلال عام 1947. وأصبح القرن العشرون قرن انهيار النظام الكولونيالي في العالم، وتباينت البلدان المستعمرة عن بعضها من حيث طريق التحرير، فمنها من حصل سلمياً، ومنها ما اضطر على حمل السلاح وتقديم التضحيات الجسيمة من اجل الاستقلال، كما حدث في الجزائر وفي فيتنام. وقد كانت للثورة الفيتنامية المسلحة خصوصيتها، فهي بدأت خلال الحرب الكونية الثانية ضد المحتل الياباني، وواجهت بعد الحرب الاستعمار الفرنسي وسجلت نصراً كبيراً عام 1954، واعترفت فرنسا بالهزيمة عقب معركة (ديان بيانفو) وتأسست جمهورية فيتنام الشمالية.
لكن المستعمر الأمريكي لم يترك الفيتناميين ليعيشوا بسلام، بل حل محل الفرنسيين ونقل قواته إلى فيتنام الجنوبية، وخاض حرباً طاحنة لسنوات، ومُني في النهاية بشر هزيمة، ورفع يديه مستسلماً. وكان لهذا الانتصار التأريخي صدى واسع وألقى الرعب في قلوب كافة قوى الاستعمار والاستثمار، ولكن هذه الانتصارات ضد الاستعمار وضد الاستثمار الرأسمالي لم تقترن بتعزيز دور المعسكر الاشتراكي كما كان يفترض. على العكس من ذلك فإنه كان متزامناً مع التدهور المستمر في وضع النظام السوفيتي، ارتباطاً مع استمرار تفاقم الأخطاء التي رافقت مسيرة الثورة منذ بداياتها وطيلة عمرها حتى يوم السقوط. ويعود ذلك إلى ما اصطلح على تسميته بالنهج الستاليني أو "الستالينية".
وهنا أجد من المناسب أن أتطرق ببعض الكلمات إلى "الستالينية".
كان جوزيف ستالين أحد قادة الحزب البولشفي الذي قاد ثورة أكتوبر 1917، وحل محل لينين بعد وفاته في 1924، وبقي يقود الحزب والدولة حتى 1953، حيث توفي بجلطة دماغية. واستلم بعده نيكيتا سرگيفيج خروشيوف قيادة الحزب والدولة وهو الذي كشف عن أخطاء ستالين لأول مرة، في المؤتمر العشرين للحزب عام 1956، ووجه لها الانتقاد الصريح وبذل جهداً مخلصاً لإصلاح ما تركت تلك الأخطاء في وضع الحزب والدولة ومن هنا ظهر مصطلح "الستالينية" نسبة للراحل ستالين. وواصل خروشيوف مساعيه الإصلاحية لإنقاذ النظام الاشتراكي من عيوبه الكبيرة حتى عام 1964 حيث أفلح أنصار الستالينية داخل الحزب، وقد غدوا التيار السائد في الحزب وقيادته، في تدبير عملية شبه انقلابية، إذ اجتمعت اللجنة المركزية للحزب في غياب السكرتير وقررت إزاحته وتنصيب بريجنيف سكرتيراً للحزب. وكان ذلك انتصاراً حاسماً للتيار الستاليني ونهاية لعملية الإصلاح في تلك الفترة.
ترى ما هي الستالينية؟
هي نهج فكري في الحركة العمالية والشيوعية متطرف قدم الأساس الأيديولوجي لأسلوب التعامل التنظيمي داخل الحزب الشيوعي والتعامل السياسي داخل الدولة والمجتمع، حيث يقود الحزب السلطة السياسية. وقد ساد هذا النهج الحزب البولشفي الحاكم في روسيا السوفيتية ومر في تطوره بعدة مراحل وأدى إلى نخر الكيان الحزبي وتآكله تدريجياً وسقوط الدولة السوفيتية التي كانت طوال عشرات الأعوام واحدة من أعظم دولتين في العالم ونداً للدولة البرجوازية الأقوى في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الستالينية تميزت بخصائص فكرية ـ تنظيمية ـ سياسية ـ عدة أشير أدناه إلى الأهم منها:
1 ـ تأليه القائد وتغذية عبادة الفرد، كما كان سائداً آلاف السنين المنصرمة، حيث كان الملك صاحب السلطة المطلقة والحاكم المتفرد في اتخاذ القرارات. ولا تزال بقايا هذا النمط من الملكية سائدة في العديد من البلدان العربية وغير العربية. وبديهي إن أسلوب القيادة الفردية كان ويبقى هو المعتمد في أنظمة كهذه، سواء كانت ملكية إقطاعية أم رأسمالية دكتاتورية كما كان في ألمانيا وإيطاليا واليابان قبل وأثناء الحرب الكونية الثانية.
2 ـ غياب الديمقراطية سواء في حياة الحزب التنظيمية الداخلية أو في حياة المجتمع الاعتيادية. ويعتمد أسلوب الحكم المخابراتي في التعامل مع المواطنين. وقد تجري الانتخابات الصورية دون منافسة حقيقية حرة، ويُأخذ ما يسمى بالديمقراطية الموجهة أو الديمقراطية البروليتارية.
3 ـ توجيه النشاط الفكري ـ التثقيفي باتجاه تغذية الجمود العقائدي، وبهدف تحويل النظرية الماركسية إلى ما يشبه عقيدة دينية لها أنبياءها وأولياؤها وكتبها المقدسة التي ألفها هؤلاء، ويجب التمسك ببنودها والبحث عن الحلول لجميع المشاكل فيما كتب فيها، تماماً كما يتعامل رجال الدين مع الكتب السماوية، وقد حددهم ستالين في أربعة أشخاص هو آخرهم وخاتم الأنبياء.
إن النهج الستاليني في الحكم لم يكن شيئاً جديداً ولا من ابتكار ستالين شخصياً، بل كان امتداداً لنهج الأنظمة الإقطاعية (أمبراطورية روسيا القيصرية نفسها والإمبراطورية العثمانية والهنغارية ـ النمساوية ونهج كمال أتاتورك بعد الحرب العالمية الثانية) والرأسمالية (ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية.... الخ) والدول البرجوازية التي تبجحت بديمقراطيتها (بريطانيا وفرنسا وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية) فإنها طبقت هذا النهج السياسي قبل ستالين إذ أذاقت شعوب المستعمرات الأمرين ومارست إرهاب الدولة المنظم ودبرت عشرات الانقلابات العسكرية في مختلف البلدان ومارست أسلوب الحكم المخابراتي إزاء شعوبها حيث اقتضت مصالح الرأسمالية الحاكمة. ولم يندر إن قامت المخابرات بجرائم غير مسبوقة باغتيال رئيس الدولة المنتخب (اغتيال جون كندي بالستينات) واغتيال أخيه روبرت كندي الذي رشح نفسه للرئاسة واغتيال أولف بالما (رئيس الوزراء السويدي الاشتراكي المسالم) لأن سياسة هؤلاء لم ترق لبعض الأوساط المتنفذة في أمريكا!
إن النهج الستاليني مرض مزمن خطير أصاب جسم النظام الاشتراكي السوفيتي منذ ولادته وعبر تطوره ولكن تأثيره السلبي تجلى خاصة في سني ما بعد الحرب الكونية الثانية. وقد لازم هذا المرض النظام وسبب إزهاق أرواح بريئة بين الكوادر وألحق أضراراً جسيمة بقضية الثورة الاشتراكية، وأدى في النهاية إلى إسقاط النظام الاشتراكي السوفيتي ومن كان في ركبه. وكانت إزاحة خروشيوف وتنصيب بريجنيف في 1964 بداية لتسريع وتيرة تآكله خلال سني وجود بريجنيف على رأس السلطة. وعندما استلم گربچوف منصب زعامة الحزب والدولة أدرك المرض ووضع برنامجاً – بيروسترويكا - لمعالجته وسار خطوات بالتنفيذ لكنه كان مخطئاً في تقدير قوة الخصم من أنصار النهج الستاليني، تماماً كما أخطأ خروشيوف، فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم وهزم في معركة الإصلاح وحاول الستالينيون داخل الحزب إزاحته بانقلاب عسكري غير إن الشيوعي المرتد بوريس يلسن تلقف الكرة وقفز إلى الحكم. بذلك سقط النظام السوفيتي سقوطاً تاماً. وما إن استلم يلسن السلطة حتى تحول جهاز المخابرات السوفيتية السابق (ك گ ب) من حارس سابق للستالينية إلى حارس مخلص للرئيس الجديد ووثق الصلات معه حتى أقنعه بالتنحي عن السلطة ليحل محله الرجل المهيأ من ك گ ب فلاديمير بوتن الذي يحكم منذ سنوات وإلى الآن تارة باسم رئيس الدولة وتارة باسم رئيس الوزراء.
إن القرن العشرين كان على امتداد تاريخ البشرية، قرن تغيرات غير مسبوقة من شتى نواحي الحياة العلمية ـ التكنيكية، والسياسية والجغرافية وغير ذلك ونشير بين أحداثه إلى: وقوع حربين عالميتين لأول مرة في التاريخ + انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية + انهيار النظام الكولونيالي ـ الاستعماري في العالم + تأسيس أول منظمة عالمية من نوعها في التاريخ ـ عصبة الأمم بعد الحرب الأولى والـ UN التي ضمت تسعين دولة إلى صفوفها بعد الحرب الثانية + غزو الفضاء الخارجي وإدخاله إلى ميادين النشاط البشري + صنع التلفاز المحلي والبث الفضائي + صنع الكومبيوترات والأنترنيت + انهيار النظام السوفيتي الذي كان يشكل إحدى القوتين العظيمتين في العالم ...الخ.
وأكثر ما أثار انتباهي هنا هو انهيار النظام الاشتراكي السوفيتي بعد انتصار الثورة بسبعين عاماً وبعد أن كرر بعض المنظرين استحالة عودة المجتمع البشري من الاشتراكية إلى الرأسمالية. إن ما حدث من انهيار النظام الاشتراكي طرح أمامنا عدة أسئلة : هل إن هذا الانهيار معناه إن النظام الرأسمالي وجد ليبقى إلى الأبد؟ هل كان الانهيار آخر كلمة لتأريخ المجتمع البشري؟ أم إن ما حدث كان جولة في اللعبة وستليها جولات قادمة؟
إن الانهيار لم يكن بسبب هجوم عسكري من الخارج ولا انقلاب أو انتفاضة شعبية، وكان بالإمكان تلافي الانهيار فيما لو أفلح خروشيوف أو گربجوف في الإصلاح. معنى ذلك أن الانهيار كان ناجماً عن تراكم أخطاء ذاتية ارتكبها الحزب وخنق الديمقراطية في الحياة التنظيمية والاجتماعية فضلاً عن التخبط في البرمجة الاقتصادية مما سمح لمسؤولي الحزب والدولة بالتصرف دون أي رقابة بالسرقة والارتشاء وما هو أسوأ. وكان عشرون عاماً من بقاء بريجنيف في منصب زعامة الحزب والدولة أسوأ فترة في تاريخ الدولة السوفيتية، إذ تحولت دوائر الدولة ومقرات الكادر الحزبي إلى معامل لتفريخ الرأسماليين الجدد فيما كان البعض من المسؤولين منشغلين بإلقاء المحاضرات الفارغة حول تجربة التطور اللارأسمالي في بعض بلدان العالم الثالث. بديهي أن انهيار النظام السوفيتي كان تعبيراً عن فشل للتجربة الروسية في الثورة الاشتراكية. لكن ذلك ليس دليلاً على أن مبدأ القيام بالثورة خاطئ من أساسه. ويُخبر التأريخ بأن الثورات الفاشلة والمنتكسة في هذه الدنيا كانت كثيرة ومتكررة. كم من الثورات فشلت ضد الأنظمة الإقطاعية في قرون ماضية؟ ومع ذلك أسقطت في نهاية المطاف الأنظمة الإقطاعية كلها أو في طريقها إلى السقوط. إن أفكار لينين التي اتخذ منها قوانين للثورات الاشتراكية في العالم (كتاب شيوعية الجناح اليساري) قد تكون صائبة بالنسبة إلى ظروف روسيا في تلك الفترة التي مرت بها ولكن لينين أخطأ إطلاقاً في تعميمها على الثورات الاشتراكية في العالم أو تعميمها على روسيا في كل زمان. فالقرار الذي يصح أتخاذه في هذا البلد قد لا يصلح لبلد آخر أو لزمن آخر لأن الظروف في تغير مستمر. إن تجربة ثورة أكتوبر الاشتراكية ستتكرر وتنتصر حتماً ولكن ليس بذلك الشكل القديم بل عبر صناديق الاقتراع وفي ظروف مستجدة مغايرة لظروف ثورة أكتوبر.
إن النظام السوفيتي وسائر الأنظمة التي وجدت في فلكه قد سقط، ولكن الأحزاب الشيوعية لا تزال تحكم بأسلوب ستاليني في دول يقطنها خمس سكان كوكبنا ـ الصين وفيتنام وكوريا الشمالية في آسيا وكوبا في أمريكا اللاتينية. فهل إن هذه الأنظمة في طريقها إلى السقوط أيضاً أم أنها تستفيد من تجربة سقوط الدولة السوفيتية؟
أبدأ من كوريا الشمالية التي تشكل نموذجاَ شاذاً بين الدول المعاصرة، فهي تخضع لنظام استبدادي يجلس في قمته حاكم نصف مجنون شغوف بالتآليه المستمر، كما كان أبوه وجده ويعاني شعبه من الجوع والحرمان بعد حوالي سبعين عاماً من سيطرة هذه العائلة ـ الشيوعية ـ شبه الإقطاعية. إن بقاء نظام كهذا سيكون من أغرب معجزات القرن!
والوضع في الصين الذي يقدم ثاني اقتصاد في العالم من حيث الإنتاج الإجمالي، لا يبعث على الثقة والاطمئنان، بل العكس هو الصحيح. ولا أعرف شيئاً عن وضع فيتنام وكوبا ولكنني أعتقد إنهما يواجهان نفس المصاعب التي تواجه الصين، ولكن لم يفت الأوان للبدء بإصلاحات تدريجية مدروسة ومبرمجة يمكن أن يرجح كفة الميزان لصالح تذليل الصعوبات وإنقاذ النظام من خطر الانهيار. أما السير في طريق شبيه بما كان في بلاد السوفيت فإنه لن يقود إلا إلى نفس النتيجة.
ومهما كان الأمر وأياً كانت مصائر الأنظمة التي لا يزال الشيوعيون يديرونها فإن الصراع الطبقي بين الطبقتين العمالية والرأسمالية يبقى طالما بقي التملك الفردي الرأسمالي لوسائل الإنتاج. فالأسلوب الرأسمالي في الإنتاج القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو الأساس المادي لاستغلال الإنسان للإنسان، للصراع الطبقي في المجتمع البرجوازي، ولا حل لهذه المسألة أبداً إلا بتبديل أسلوب الإنتاج الرأسمالي بأسلوب اشتراكي، أي بإعادة الملكيات الفردية لوسائل الإنتاج إلى أصحابها الشرعيين، إلى المجتمع البشري المعني. وقد صاغ كارل ماركس نظريته الاشتراكية العلمية على ضوء الظروف الواقعية الملموسة التي أفرزها تطور المجتمع الرأسمالي منذ بداية المرحلة وإلى حين ما عاصره في القرن التاسع عشر. إن الإنتاج الرأسمالي يخلق الخلل في عملية الإنتاج والتوزيع، فالإنتاج يأتي من عمل جماعي لشغيلة العمل اليدوي والفكري، ولكن التوزيع يكون مختلاً إذ يستحوذ رب العمل الرأسمالي على قسط كبير منها كأرباح فيما يوزع القسط الآخر على المنتجين العمال في شكل أجور يومية. وهذه اللاعدالة في المجتمع لا تنتهي إلا بانتصار الطبقة العاملة، التي لا تخسر من سقوط الرأسمالية سوى القيود المكبلة بها ـ على حد تعبير ماركس.
إن سقوط النظام السوفيتي عقب سبعين عاماً من وجوده وضع علامة الاستفهام على النظرية الماركسية ـ اللينينية والفكر الشيوعي والاشتراكي بوجه عام، وهذه مسألة طبيعية وفرصة ذهبية أمام المدافعين عن النظام الرأسمالي ليقولوا للناس:
أرأيتم كيف سقط النظام الشيوعي؟ ألم نقل لكم إن الماركسية ـ اللينينية خاطئة؟ والعديد حتى من الشيوعيين أنفسهم تساءلوا مع أنفسهم وفيما بينهم عما إذا لم يكن سقوط النظام السوفيتي سقوطاً أيضاً لتلك النظرية التي كونت الأساس الأيديولوجي للنظام؟ أنا أدلو بدولي في الإجابة على هذا السؤال، فأقول: إن اللينينية، أي الأفكار والمقولات الرئيسية المصاغة من قبل لينين لإغناء أفكار ماركس، كانت تسمع بلهفة من لدن الشيوعيين في روسيا وفي الأماكن الأخرى، وكانت تؤخذ كجزء مكمل من تعاليم ماركس وأنگلس لأن المقولات اللينينية اقترنت بالانتصارات الكبيرة التي أحرزها البلاشفة، وتعزز هذا التصور إثر انتصار السوفيت على الهتلرية في الحرب الثانية، بيد إن الحياة كشفت بعدئذ عن شيء مغاير في ظروف ما بعد الحرب. ويعود ذلك إلى أسباب، من أهمها الجمود على أفكار لينين وعدم مواكبتها للتطورات المستجدة ولا يعرف أحد فيما لو بقي لينين على قيد الحياة لجمد على أفكاره غير المتلائمة للظروف المستجدة. كما جمد عليها ستالين، أم كان يبادر إلى تعديلها، ولم يكتب للزعيمين السوفيتيين خروشيوف وگربچوف أن يحققا الإصلاح المنشود ـ كما أسبقت ـ وكان ثمن ذلك باهظاً جداً: عودة النظام الرأسمالي إلى روسيا الاشتراكية، والدرس المستخلص من ذلك هو إن الأفكار والنظريات الخاصة بالمجتمع البشري تظل بحاجة إلى التعديل والتجديد تبعاً لحركة المجتمع نفسه وتغيراته في شتى نواحي الحياة، فالتغيرات التي طرأت على المجتمع البشري منذ ثورة أكتوبر 1917 وحتى ثمانينات القرن العشرين كانت نوعية وكبيرة وكانت تتطلب التجديد في النظرية ولم تصمد أفكار لينين أو القوانين العامة التي صاغها للثورات الاشتراكية، إزاء أعاصير الزمن، وانتهى الأمر باندحار اللينينية الستالينية، لكن أفكار ماركس التي تتلخص في حتمية سقوط النظام الرأسمالي كما سقط قبله النظام الإقطاعي والعبودي، لا تزال محتفظة بكامل حيويتها، لأنها قائمة على أسس صحيحة، قائمة على استغلال الإنسان للإنسان. وهذا الاستغلال يحتم وجود وتواصل التناقض والتصارع بين الطبقتين ويحول دون توفير العدالة الاجتماعية في ظل هذا النظام، كما يؤدي إلى سقوط أحد طرفي الصراع في نهاية المطاف. والطبقة العاملة لن تسقط لأنها هي التي تنتج الخيرات المادية التي تضمن إدامة حياة الناس وإدامة الطبقة البرجوازية نفسها خلال المرحلة البرجوازية، لكن سقوط الطبقة الرأسمالية وزوالها من الوجود لا يؤدي إلى شيء سوى زوال كبار الأثرياء المستغلين وتغيير شكل إدارة الدولة، ولا يخسر العمال من ذلك إلا القيود المكبلون بها على حد تعبير ماركس.
إن البشر لم ولن يعيشوا أبداً بدون الصراع، لكن الصراع لم يكن بادئ ذي بدء بين الطبقات المستغِلة والمستغَلة، بل كان ـ في بداية تكون المجتمع البشري وتمايزه عن الحيوانات الأخرى نوعياً، صراعاً بين الإنسان والطبيعة، حيث كان البشر يعيشون في المرحلة الانتقالية بين الحيوان وبين الإنسان، وكانوا يعتمدون في تأمين طعامهم على الصيد وافتراس الحيوانات أو على جمع الثمار البرية بين الأشجار والنبات، وكذلك الصراع بين القبائل البدائية المختلفة التي كانت تتقاتل من أجل الاستحواذ على أفضل مناطق الصيد والثمار، وكان الأضعف عرضة للإبادة أو يهرب بعيداً، ولم تتوفر المستلزمات لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان إلا بعد توصل الناس إلى الزرع وإلى تربية المواشي والدواجن، حيث أصبح بمستطاع المرء أن ينتج ما يفيض ولو قليلاً عن حاجته لإدامة الحياة، وبالتالي غدا بإمكان الأقوى أن يسيطر على الضعيف للتصرف بفائض منتوجه، وهكذا فإن بدايات الانقسام الطبقي في المجتمع البشري تعود إلى تعلم الإنسان ممارسة العمل وتطويره وطبعاً إلى جانب الصيد وجمع الثمار البرية كمصدر مضمون للطعام، والانقسام الطبقي الذي أباح للقوي استعباد الضعيف والتعامل معه كتعامله مع ماشيته، أوجد هذا النوع من الصراع الذي نسميه بالصراع الطبقي دون أن يلغي الصراع القبلي، فالتشكل القبلي في تلك الحقبة كان ظاهرة اجتماعية طبيعية وضرورية لأن الإنسان الفرد كان عاجزاً عن حماية نفسه من بطش الحيوانات المفترسة الأقوى والقبائل الأخرى المجاورة، والأرجح إن الانقسام الطبقي حدث بالدرجة الرئيسية في المجتمعات الزراعية المستقرة نسبياً، بخلاف التجمعات المنشغلة بتربية المواشي المعتمدة على رحلة الصيف والشتاء. كان مسار التطور في تجمعات الراحلة مختلفاً إلى حد.