مظفّر النوّاب: محيي الموؤودات الشعريّة


سلام عبود
2016 / 2 / 27 - 18:55     

في عام 1956 كتب مظفر النواب أولى وأشهر قصائده العاميّة "الريل وحمد"، ثم استكمل كتابتها سنة 1958، بعد قيام ثورة 14 تموز، التي أطاحت النظام الملكي في العراق. بُني مضمون القصيدة على حدث واقعيّ، تعرّف النواب على معايشيه شخصيا، حينما التقى امرأة ريفية في القطار النازل الى البصرة. روت له المرأة قصة حبها لشخص اسمه حمد. وبسبب فشلهما في الزواج، اضطرت الى الهرب من بيت أهلها ومن مدينتها، التي يمر بها القطار كل يوم. هذه الحادثة العابرة كونت الأساس الذي ألهب خيال وعوطف النواب، وجعله يعيد تحويل القصة المحزنة الى قصيدة، ما لبثت أن أضحت ثورة تجديدية في أسلوب ومضمون الشعر الشعبي (العامي) العراقي. وفي وقت لاحق تحوّلت القصيدة الى أغنية شعبية محببة، عمقت من تأثير القصيدة في مشاعر الناس، وجعلتها مؤهلة للخلود في ذاكرة العراقيين التواقة لاستقبال المآسي:
مرينا بيكم حمد واحنا بغطار الليل اسمعنا دك كهوة وشمينا ريحة هيل.
مررنا بكم حمد ونحن في قطار الليل سمعنا دق القهوة وشممنا رائحة الهيل.
في غير مناسبة يؤكد النواب على الرواية الغريبة، التي شكلت الأساس لولادة قصيدته الأولى. ولكن، على الرغم من أن المجتمع العراقي تكوين غرائبي بامتياز، إلا أن كثيرين ربما لا يجرؤون على تقبل رواية اللقاء بالمرأة الريفية، ويميلون الى إنكار تفاصيل الحدث. لأن حديث امرأة ريفية في قطار الدرجة الثالثة عن علاقاتها الغرامية، وهربها من بيت أهلها، فيه قدر كبير من الاجتراء، ربما لا تتيحه علاقات عابرة في مجتمع منتصف الخمسينات العراقي.
ولكن، بصرف النظر عن تفاصيل الحكاية وخفاياها، إلا أن ما أنتجه النواب تاريخيا كان بداية طفرة الحداثة في الشعر العامي العراقي. وهي خطوة فنية عملاقة توازي في حجمها طفرة السياب ونازك الملائكة في مجال الشعر الفصيح.
لقد أردت في هذه المقدمة التوضيحيّة المشاكسة أن أفصل النص عن الحدث، وأن أبين أن النص المبدع أعلى شأنا من الواقع، وربما يكون أقوى من الحقيقة التي أنتجته. ومن المفيد هنا أن نشير الى أمر تاريخي وتفصيلي يتعلق بالأدب العراقي، وأعني به علاقة النص بالقطار. فمن المعروف أن العراق لا يملك شبكة واسعة للسكك الحديدية، سوى خط واحد يخترق العراق طولا، بدءا من البصرة في أقصى الجنوب. يحتل هذا الخط مساحة هامة في الذاكرة الشعبية والأدبية لسكان بغداد وشمالها، وسكان الجنوب العراقي المحاذي لنهر الفرات. وهذا يعني أيضا أن الجنوبيين من سكنة ضفاف دجلة لا يملكون العلاقة ذاتها مع القطار، نظرا لبعدهم عن خط سيره. وربما لهذا السبب أيضا لعب القطار دورا مميزا في قصص البصريين. لقد ساهم القطار في خلق عدد من النصوص القصصية المبكرة المتميزة، منها قصة "القطار الصاعد الى بغداد" لمحمود عبد اللطيف، المكتوبة عام 1953، والمنشورة ضمن مجموعة "رائحة الشتاء" عام 1997. وقبل ذلك كتب فؤاد التكرلي أبرع قصصه القصيرة "العيون الخصر"، التي تتحدث عن رحلة عاهرة شابة من بغداد، في القطار الصاعد الى الشمال. كتبت هذه القصة عام 1950، ونشرت ضمن مجموعة "الوجه الآخر" عام1960. وفي منتصف المسافة بين بغداد والبصرة كتب عبد الرحمن مجيد الربيعي قصته "أبواب الليل، أبواب النهار" عام 1978، وظهرت ضمن مجموعة "الأفواه" الصادرة عام 1979. وفي السكة ذاتها سار عام 1963"قطار الموت" العراقي، الصاعد الى سماوات القتل الجماعي والنفي، محملا بأربعمئة وخمسين سجينا سياسيا، كُتبت عن رحلتهم المرعبة قصص وأشعار وذكريات كثيرة.
اتخذ جلّ من كتب في هذا الموضوع القطارَ وسيلة للخلق الفني، باعتباره رحلة سردية متحركة، وبيئة اجتماعية مصغرة. لكن قطار النواب لم يكن وسيلة خالصة، بل كاد أن يكون كيانا فاعلا، مشاركا في صناعة الحدث أيضا. فقد جعل النواب منه عنصرا ناطقا، يعبّر بصراخه عن ألم الفراق، وحرقة العشق.
في واقع مشحون بالقسوة والصرامة والصراعات الحادة والغرائب ولدت قصيدة مظفر النواب، التي أخذت منحيين: عامي أولا، وفصيح حينما طال ابتعاد الشاعر عن الوطن. يحمل المنحيان، كلاهما، بصمتهما الخاصة المميزة. فقد مالت قصيدة النواب الفصيحة الى الطول- طول الجملة وطول النص- والى التحريض الخطابي، الموجه الى مستمع مترهل، يدعي الثورية وهو يتثاءب في سرير المهمشين. وهي، في الأعم، قصيدة هجومية ثائرة، تنال من خصمها من طريق تسفيهه، ومن طريق رسم صورة هجائية، تجريحية، هزلية وتدنيسية. قصيدة ظاهرها هجوم خشن لا يبقى للخصم شيئا، وباطنها انكسار مرعب، يكاد لفرط عمقه وذوبانه في هتافات المستمعين، يبدو نصرا متوهما.
أما قصيدته العامية، وهي عامية جنوبية، مطعمة بلهجة بغدادية وفصيحة أحيانا، فقد كانت متعددة الأغراض. قصائد حب خالصة مثل "الريل وحمد" و"زرازير البراري" و"نكضني" (انهكني)، أو قصائد التحريض مثل "مضايف هيل" و "عشاير سعود"، ومنها ما يجمع بين الغزل والتحريض مثل "سفن غيلان ازيرج".
في قصائده العامية يتخذ النواب من مركزية المفردة أساسا للترابط اللغوي وتداعياته الذهنية، أو لنقل يجعل المفردة وسيلة جذب مغناطيسيّة تلم حولها أطراف النص الشعري، بصوره وأخيلته ووسائل خطابه. ففي كل قصيدة نجد تركيزا للقاموس اللغوي، يكثف من ترابط المشاهد والصور ويصنع وحدتها الشعورية. في (زرازير البراري) تحتل مفردات الخلط القسري (الغصب) قوام القصيدة ومفاتيحها السريّة: "تنسحن"، "تنمرد"، تنعجن". وهي صور متنوعة لفعل واحد، يتمحور حول خلط الأشياء ببعضها وجعلها قواما واحدا، خاضعا لأقصى أنواع الضغط. السحن لدق وتكسير المادة الصلبة وطحنها، والمرد لهرس المواد اللينة والرخوة، والعجن لخلط السائل بمسحوق دقيق. وربما تكمن هنا، في هذا التنويع اللغوي الهادف الى استنطاق المفردة، فكرة النواب اللغويّة، التي تُشبّه العاميّة بالطين الحريّ (النقي) والفصحى بالحجر. بيد أن المفردة هنا، رغم تفردها وقوتها الدلالية الصادمة، لا تعمل بذاتها منفردة، بل تفتح الباب لمرور طائفة آخرى من زمر المفردات، تتلاقح في ترابط وثيق مع بعضها، كأن تكون العين وملحقاتها في قصيدة (زرازير البراري): "كت (انهمار) الدمع، الجفن، عيونك، غمض". ثم تتفاعل المفردات معا لتوليد صورة شعورية في بيئة لغوية منتقاة بحساسية عالية. كأن تكون، على سبيل المثال، بيئة بريّة نموذجية: جنح فراشة، زرازير البراري، السحر، عوسجة بر، النده (الندى)، كطرة (قطرة)، مطر، النباعي، تفيض، الكمر (القمر)، نهر، ورد، عنابة، دفو (دفء)، برد، الماضي الجدب، زهرات بيض من الوفه (الوفاء)، سواجي (سواقي) من الحنين. يقود هذا القاموس المنتخب الى حدوث تصعيد عال للحنين ولوعة الشوق وقسوة الهجر، يخلق بتفاعله الوحدة التعبيرية للنص ومداها الشامل. وفي "عشاير سعود" تكون مفردات الإضاءة والاشتعال قوام الفعل الشعوري والمرئيات، ومفتاح خزائن الروح: جدح الحوافر، زهر النجوم، تتجادح (تتقادح)عيون الخيل، عيون الزلم بارود، تبرج (تبرق) نار، نجم ذويل، عيون مشتعلة، نجمة، الشمس، بنادقنا تطرز الليل، تضوي. باتحاد المفردات وتفاعلها، من طريق التنويع في مزج مفردتي الخيل والعين، يُنتـَج تصعيد عال للغضب والتحدي: صهيل الشكر (صهيل الخيول الشقر) ، عيون الخيل، جدح (قدح) الحوافر، عيون الزلم، مهرك، تشوف، كحلنا، عيون مشتعلة، عين الذيب، تنام. هذا التفاعل الشرطي بين جماعات، أو زمر المفردات، يعطي للنص ترابطا عضويا داخليا، وكثافة عالية، شديدة التركيز، تتبادل الحركة فيه دائما من الخارج: المحيط الطبيعي، الى الداخل: مجرى الدم والروح. بهذه الطريقة ينتظم عقد مجاميع الكلمات والصور فتتآلف في وحدة عنقودية مترابطة، ومتحركة. لذلك قد تبدو بعض القصائد شديدة القسوة ومغرقة في الكآبة في أعين القارئ الغريب على وجه خاص. لكنها ملمح مألوف في الوجدان العراقي. فليس غريبا على ذائقة العراقيين تصعيد الأخيلة العنفية المرتبطة بالدم. لقد مدنا أيضا أبرز شعراء العراق في العصر الحديث، محمد مهدي الجواهري، بمنظومات شعرية دموية مماثلة.
يقول النواب: "خلي الدم يجي طوفان كلنا نخوض عبريّة (عابرين)". في هذا النص تحريض علني يدعو للخروج على سلطة الدولة العاجزة أو المتقاعسة. سببه في نظر الشاعر أن "حكام المدن دفله". وشجرة الدفلى في العراق رمز شعبي للغش والمظاهر الخادعة والنفاق. لو قدر لنا أن نعمم هذا المشهد عقائديا لعثرنا على صورة مجسمة، ثلاثية الأبعاد، للطبيعة المكونة لمزاج تلك المرحلة السياسية. لكم يشبه هذا المشهد مأزق الشيوعيين القاتل: التأرجح بين الحاكم والمحكوم، وخسارة الطرفين! وكم يشبه حيرة زعيم الثورة عبد الكريم قاسم، الذي سعى عبثا للوقوف في وجه صراع الكتل المتناحرة، مرة بالتقريب وأخرى بالتضييق، فكان مصيره الموت!
لم تكن جدة قصيدة النواب محصورة في نظام توظيف المفردات، بل تعدتها الى تجديد أشكال بناء الصورة الشعرية: "سرجنا الدم عله (على) صهيل الشكر (الخيول الشقر)". هنا يرسم النواب صورة غير نمطية: الدم يمتطي صهيل الخيول الشقر، في مزيج فريد لحركة الغضب، صوتا ولونا وانفعالا. وهي صورة عقلية خالصة، ولكن بمفردات شديدة الحسيّة. بهذه الطريقة الحاذقة يتمكن التصعيد، الذي يصنعه تشابك المفردات، من إنتاج وحدات تعبيرية جديدة، لم تكن مألوفة في الشعر العامي من قبل، جعلت من عامية النواب، عامية مجددة، ومثقفة، ولكن من دون ترفـّع أو استعلاء.
في السنة الثانية لثورة 14 تموز كنت تلميذا في الصف الثالث الابتدائي. ولكن، رغم صغر سني، شهدت لسبب جغرافي خالص، معارك سياسية كثيرة حدثت في مدينتي الجنوبية الفقيرة العمارة (ميسان). موقع بيتنا القريب من "قصر المتصرف" ومن بناية مركز اللواء، ساعدني على رؤية كثير من الأحداث السياسية الكبيرة والمثيرة. من هذه الأحداث اليوم الذي زحفت فيه الجماهير الغاضبة نحو بيت المتصرف لتطويقه، رافعين الحبال وهم يصرخون بصوت جماعي غاضب: "عدنا (عندنا) مصرّف (متصرف) خاين ونريد سحله بالحبال". كان المتظاهرون يريدون من المتصرف أن يسلمهم شخصا متهما بقتل أحد الفلاحين الشيوعيين لصالح إقطاعيي المنطقة. وكان المتصرف يحاول اقناعهم بأن ما حدث جريمة سياسية يتوجب أن تقوم السلطة، وليس الناس، بالتعامل معها قضائيا. هذه الصورة المرعبة لم تزل منحوتة في مخيلتي، وربما في مخيلة كثيرين أيضا. وأبشع ما في الصورة هو أنني كنت أرى الناس من الأسفل، بأشكال مخروطية، بسبب طولهم، وأسمع الصراخ من دون أن أرى جيدا أو أعقل. المتصرف ومعه بعض الشخصيات الحكومية، أبرزهم مدير التربية، سعوا من شرفة بيت المتصرف الى تهدئة الناس، ولكن من دون جدوى. ظلت الجموع تزداد، والغضب العارم يتصاعد بشكل جنوني، ولم تعد مطالب الغاضبين تقتصر على سحل المتصرف الخائن، بل توسعت لتشمل كل من كان يقف معه في الشرفة من الخونة. لا أعرف كيف انتهى الأمر. فبعد ساعات طويلة ورهيبة من الكر والفر، بدأ الناس بالتفرق، وانسحب حاملو الحبال. بعد مرور خمسة عشر عاما على وقوع حادثة الحبال، فسّر لي "أبو عبدالله" المشهدَ الملتبس. و"أبو عبدالله"، سيد عبد الواحد الهاشمي، خال التشكيلي الفقيد محمد الهاشمي "حمادي"، أحد الأصدقاء الطيبين، ممن كانوا في قلب تلك التظاهرة الجنونية. وهو كادر شيوعي متقدم في محلية العمارة، شغل مسؤولية ما عرف بالعمل الوطني، أي تمثيل الحزب في لجنة الارتباط مع البعث في مرحلة التحالف، أرسِل مع غيره من كوادر الحزب الشيوعي لتهدئة الجماهير الغاضبة، التي تطوق قصر المتصرف. لكنه تعرض للعنف الجسدي من قبل الجموع الثائرة، المستفزة، ظنا منهم أنه أحد المندسين. لم تكن الجموع الثورية تصدّق أن المتصرف أحد رجال ثورة تموز، وأن الخائن الآخر، مدير التربية، الذي يقف الى جواره، هو الدكتور حسين قاسم العزيز، المؤرخ الماركسي المعروف، صاحب أطروحة (البابكية)، ومؤلف ( موجز تاريخ العرب والاسلام )، والذي يُعدّ رائد منهج البحث التاريخي على أساس مادي جدلي في العراق. تجربة الحبال علمتني أن العنف قوة عمياء، لا قائد لها سوى نداء الدم.
التداعيات التاريخية المرتبطة بيوم الحبال قادت مظفر النواب الى كتابة واحدة من أشهر وأجمل قصائده العامية التحريضية " مضايف هيل" عام 1959. يقال أن النواب رأى أمرأة ريفية قرب وزارة الدفاع العراقية، تحمل عريضة تريد تسليمها الى الزعيم عبد الكريم قاسم، تتعلق بابنها الذي قتله الإقطاعيون. جاءت المرأة الى بغداد بحثا عن العدل والإنصاف لدى قيادة الثورة، ولكن لم يستمع الى شكواها أحد. لأن الدولة شجرة دفلى، ظاهرها زهر متفتح، وباطنها رائحة كريهة وعصارات لزجة. كان النواب هو المستمع الوحيد، الذي وثـّق أحزان تلك الأم بطريقته الفريدة:
"ميلن (ابتعدن)، لا تنكطن (تنقطن: تقطرن) كحل فوق الدم (كناية عن شدة البكاء). ميلن وردة الخزامى تنكط (تسكب قطرات، تقطّر) سم. جرح صويحب بعطابة (خرقة محروقة لتضميد الجراح) ما يلتم. لا تفرح بدمنا، لا يالقطاعي، صويحب من يموت المنجل يداعي (يطالب بحقوقه)"
لقد شاعت هذه القصيدة لأسباب عديدة أبرزها: صورها التجديدية الفوّارة، وقوة صياغتها التحريضية، النارية، والحساسية العالية في رسم أجواء البيئة الريفية العراقية. وهنا أيضا تبرز موهبة النواب الكبيرة. فهو لا يكتفي بالكتابة عن قضية فلاح، بل يرسم بيئة عاطفية، فلاحيّة خالصة، ثم يضع دماء بطله القتيل فيها، ويجعله يتحرك بيسر في محيطه الطبيعي. لقد ساهم المغزى الاجتماعي للقصيدة في جذب المزيد القراء اليها، لأنها سلـّطت الضوء على بيئة مهمشة، مهملة، ظلت تعيش قرونا تحت تقاليد مالكي الأراضي الجائرين وشدة ظلمهم للفلاحين. كان "الفلاح صويحب"، في القصيدة وفي الواقع، تجسيدا فريدا حيّا للصراع الطبقي بين الفلاحين والإقطاعيين. ومن مفارقات التاريخ المحيّرة أن يقوم "أبو عبدالله" بكشف سر آخر من أسرار معارك الحبال. في ذلك اللقاء المتأخر عرفت، لأول مرة، أن الفلاح القتيل، الذي تعاطفنا معه، المسمى "صويحب" - تصغير كلمة صاحب للتحبيب- لم يكن فلاحا كما اعتقد رافعو الحبال. هو في حقيقة الأمر المعلم الشيوعي صاحب بن ملا خصاف، الذي رأى فيه الإقطاعيون محرضا كبيرا وخصما عنيدا، فأردوه قتيلا. في مناخ الشقاق والنفاق والفوضى الروحية والعاطفية يكون الشعر أحيانا أقوى من الواقع.
في "مضايف هيل" حافظ النواب شكلا على نمط شعري تقليدي معروف، قوامه رباعية شعرية وبيت خامس يتكرر في القصيدة كلازمة. لكنه، رغم اختياره شكلا تقليديا في البناء الخارجي، مارس تثويرا عنيفا في البناء الداخلي للنص، وصل فيه الى قمة التحريض الطبقي:
"حاه...شوسع جرحك! ما يسدّه الثار. يصويحب... وحك (وحق، أي قسما) الدم، ودمك حار. من بعدك مناجل غيظ ايحصدن نار. شيل بيارغ (بيارق) الدم، فوك (فوق) يلساعي. صويحب من يموت المنجل يداعي (يطالب بالحق، أو يثأر)".
لذلك، لا غرابة في أن يكون قاموس القصيدة ومفاتيحها اللغوية عظيمة القسوة: دم (تكررت مرات عديدة بصور متنوعة)، سم، جرح، جروح، عطابة، غيظ، ثار، نار، ناعي، ذل، ذيب، موت، خناجر.
يفتحر النواب بالاستقبال الذي حظيت به قصيدته الأولى من قبل الشاعر سعدي يوسف. لكنه لا يكشف الوشيجة التي تربطه بقصيدة سعدي يوسف. بين الشاعرين صفة مشتركة، ولا أعني بها العناد السياسي فحسب، بل أعني رهافة التعبير، ودقة تخصصه الدلالي، وامتلاءه. فالشاعران يميلان الى صناعة قصيدة مُشبِعة ومُشبَعة، خالية من الزوائد التعبيرية الضارة، تمنح القارئ كفايته من المشاعر والأحاسيس والأفكار، الى حد الارتواء والشبع. وهو شبع لا يشبه الشبع من الأكل، الذي يوقع في الكسل البليد، بل يشبه الى حد كبير الشبع الجنسي، الذي يترك وراءه تطمينا، مصحوبا بفراغ محيّر، غامض، تأمليّ، خيّر وحزين. ولا يختلف الشاعران عن بعضهما إلا في طريقة استخدام الكلمة. فسعدي يصنع جملة مشبِعة، هادئة الوقع، بينما يميل النواب الى صناعة كلمة ملتاعة، مشحونة الى حد الانفجار، تشبه الألغام الأرضية، التي تنفجر كلما رفعنا أرجلنا عنها. وأنت تقرأ بصوت عال تخشى أن تنفلق جدران الكلمات في فمك، أو تنفجر في وجهك وأنت تقرأ صامتا أو تقف مستمعا، وربما تثور في دماغك وأنت تتمعن بها متأملا، متتبعا هزّاتها الراعدة في أعماق روحك.
حينما نقرأ قصيدة "كالولي" (قالوا لي)، التي كتبت في بيروت: " واغمّض عود (كلمة اعتراضية للتوكيد، شديدة الدقة، لها معان عديدة منها: على افتراض أن، حينئذ يكون، رغم أنه) اجيسك ( ألمسك) يا ترف (رقيق)، تاخذني زخة لوم، واكلك (أقول لك) ليش وازيت (حرضت) العمر يا فلان"، لا نقوى إلا أن نغمض أعيننا، ونمد أيادينا لملامسة رقة حبيب لا وجود له، فتنهال علينا، من داخلنا المضطرب، وليس من خارجنا، زخات من مطر التبكيت. في هذه الصورة تنتقل المشاعر من الداخل الى الخارج وبالعكس من دون جسور. لأن الحاجز بين الواقع والخيال لم يعد قائما، فقد تم تحطيمه على يد ساحر الكلمات الفريد. الداخل يحرك الخارج، الذي يعيد شحنة التوتر مرة ثانية الى الداخل. سلسلة انفعالية مترابطة، مبنية على فعل وجواب، تخلق بدورها فعلا جديدا، وإحساسا جديدا، مباغتا.
من طريق المفردة المفتاح، وتآلف جماعات المفردات، وخلق البيئة الشعورية الحيّة، والصور العقلية المتحركة، يبرز أمامنا التلاقح الانفعالي بين الخيال والواقع، بين الوهم والحقيقة، بين المحسوسات والمجردات، بين الهجوم المتعالي المكابر والانكسار الباطني الخفي المرعب. إنه ساحر الكلمة النابضة، شيطان المفردة الحيّة، المفعّلة. إنه محيي الموؤودات اللغوية، الذي يجعلك تتوهم أن كلماته المطبوعة على الورق تنبض، تتحرك، وقد تقفز من بين السطور إذا غفلت عن إمساكها. كل هذا الرصيد التجديدي حملته قصيدة النواب العامية، صانعة من نصه مدرسة شعرية كبيرة، لا ينتسب اليها سوى شاعر فرد، اسمه مظفر النواب.