المثقف.. المجال السياسي.. الدنيوية


سعد محمد رحيم
2016 / 2 / 25 - 08:38     

المثقف.. المجال السياسي.. الدنيوية.. تلك ثلاثة مفاهيم إذا ما نظرنا إليها في ضوء مفاعيل علاقة المعرفة بالسلطة، وفي إطارنا التاريخي الحالي، سنرى أنها تتعاطى، بعضها مع بعض، وتتضاد وتتعاضد، في التصوّر النظري، كما في أشكال الممارسة. ففي راهننا، يجد الإنسان، وبالضرورة؛ الإنسان المثقف، نفسه كائناً في المجال السياسي، وهو المجال الذي يُغطي، أو يلقي بظلاله الكثيفة على بقية المجالات الأخرى، لاسيما الثقافة.. والسياسة والثقافة مجالان يتداخلان ويتعاكسان ويتصارعان في العالم القائم المحسوس والمدرك، حتى وإن امتدت لهما جذور وقنوات عبر الإيمان الديني، وبمعونة المخيلة، إلى ما وراء ذلك.. وهنا يحضر مفهوم الدنيوية. والذي نستعيره من الجهاز المفهومي لإدوارد سعيد، حيث استعمله، بدءاً، في كتابه ( العالم، النص ، الناقد ) في مقاربة النصوص الأدبية السردية. قبل أن يحيله إلى نطاق تحليل الخطاب السياسي والفكري. وهذا المفهوم يوازي عنده ويطابق مفهوم العلمانية كما يبرز في أثناء الخوض بقضايا المجال السياسي، والنظرية السياسية.
يتجاوز إدوارد سعيد عند تناوله لمفهوم الدنيوية فكرة الماركسية التقليدية القائلة بأن البنية الفوقية المتمثلة بالنصوص والأفكار والمعتقدات والقوانين والنظريات والأعمال الفنية، الخ، ما هي إلا انعكاس للبنية الاقتصادية التحتية. ومن هنا تنبثق، عنده، القراءة والتأويل والتفسير والرؤى المكوّنة تبعاً لها، من سياق علاقة النص، والخطاب عموماً، وآليات تشكّلهما، بالعالم. فنص الاستشراق، والخطاب الاستشراقي، مثالاً، يرتبطان، بحسب رؤيته، بموجِّهات مؤسسية متآزرة مع مصالح إمبراطورية. وكذلك بقية النصوص والخطابات، فكل منها يتصل بسياق تاريخي زماني ومكاني وبثقافة مولِّدة، وبشبكة علاقات سلطوية، فضلاً عن قوة المتخيل الذي لا ينفك يرتع من الذاكرة، ومن الإشارات المبثوثة في البيئة، في آن معاً. وفي تخطّيه لحقله النصي/ الأدبي يؤشر النقد الدنيوي السياق التاريخي والمرجعيات الصانعة، مفككاً الأوهام، ومعطياً الأحداث والأفكار معنى جديداً، ودلالات مغايرة، ومن خلال قناعة أن النص هو من هذا العالم ومولود من رحمه، ومثقل بإكراهات وتحيّزات وموجِّهات إنتاجه.
من أجل فاعليته لابد من أن يتعرض المجال السياسي لاهتزازات مستمرة يولِّدها ويُديمها الحفر الثقافي النقدي، الرقابة الموضوعية، الأسئلة الصادمة، الكشف عن المستتر والمخبوء.. فلا وجود لمجال سياسي منتج يؤدي وظائفه باتقان من غير وجود مثقفين معارضين. ذلك أن المثقف الحقيقي معارض، وإلى الأبد.
المعارضة ليست عملية هدم لكل شيء.. إنها هدم لما هو ضار، ولما هو زائد كالورم ومعيق، ولما هو فاسد وقبيح.. المعارضة بناء في جوهرها، فهي تهيء شروط إمكان البناء وتمهد أرضيته، وتقوِّم عمليته، وتساهم فيه. ومن غير أن ننسى أن المعارضة نفسها يمكن أن تكون، أحياناً، قاصرة، مفتقرة للكفاءة، أو مغرضة ترتبط بمصالح لا تتوافق ومصالح المجتمع، وقد تكون خائنة حتى.
لنوسع قليلاً النطاق الاجتماعي ـ الثقافي لمفهوم المثقف، من جهة أولى، ليشمل كل أولئك المتعلمين الذين تشغلهم هموم الثقافة والسياسة، ويطرحون آراءهم في المسائل الرئيسة لمجتمعهم والعالم بالكلمة المنطوقة والمكتوبة المبثوثة عبر وسائط الإعلام المختلفة وأشكال الثقافة من فنون وآداب وعلوم إنسانية واجتماعية.. وفي مقابل أن نقلِّص، من جهة ثانية ذلك المفهوم، في ضوء توجهات مقالتنا هذه ليشير إلى المثقف الناقد المعارض والتنويري الحامل لقيم الحرية والعدالة والسلام والتنمية المركّبة.
ولابد من الاعتراف بأن لكثر من المثقفين، مهما حسنت نواياهم، وتنقّت ضمائرهم، أوهامهم كذلك، تلك التي ينكِّل بها الواقع التاريخي في النهاية.. ولهم فائض انفعالاتهم، أحياناً، وهو الذي يطيح بأسوار العقلانية والرؤية الموضوعية لديهم. فهم كائنات ناقدة، وموضوعة ينبغي تعريضها للنظر النقدي القاسي.
منذ عقود، وحتى قبل تأسيس الدولة العراقية، انخرط المثقف العراقي في ملابسات المجال السياسي وتداعياته على الرغم منه.. كان عليه أن يمارس دور الشاهد، ودور المحتج، ودور الرائي، لأنه وعى مبكراً أن مصير وطنه ومجتمعه مرهون بشكل عضوي بمآلات ذلك المجال.
لست مع أولئك الذين يتحدثون عن لا فاعلية المثقف العراقي في مجالنا السياسي المتخم بالأزمات والبلايا. وما يطرحه المثقفون الآن عبر وسائل الثقافة والإعلام المختلفة تبقي القضايا الرئيسة التي تهمنا ساخنة دوماً أمام أنظار الناس والعالم.
صحيح أن ما يقوم به المثقف العراقي الآن لا يكاد يرقى إلى ما يجب أن يقوم به من دور ووظيفة. ولكن، وفي الأحوال كافة، لا غنى عمّا يحققه.. أن نبقى نكتب ونؤشر ونقول ونصرخ، حتى وإن كان بالحدود الدنيا، خير ألف مرة من أن ننزوي يائسين خلف نافذة موحشة، ونراقب بصمت موجع مقهور.
تُطال تجاذبات المجال السياسي وتأثيراته، اليوم، معظم العائشين في المجتمعات المعاصرة.. وهذا المجال مسيّر بمنظومات رقابة وسيطرة وتحكم.. بآليات إقصاء وإدماج، وعلى وفق استراتيجيات محددة بمصالح طبقية ودولتية قومية. فهو شبكة معقدة من علاقات السلطة، ومن خطابات مشبعة بالإيديولوجيا هي إفراز لتلك الشبكة، وقوى موجِّهة لها. ولذا فإن هذا المجال لا يتأطر في ضمن جزر قومية معزولة، بل يتعداها إلى العالم كله.. فالرأسمالية بقواعد أنشطتها الجاعلة من العالم سوقاً واحدة، أو مجموعة أسواق متداخلة، وبصبغتها العولمية الما بعد حداثية فجرت المجال السياسي وعولمته، حتى بات كل طرف، مهما كان هامشياً، يدرك أن مصيره يتشابك مع مصائر الآخرين، وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً من غير أن يأخذ بنظر الاعتبار ما يحدث حوله، وكيف يفكر الآخرون الأقوياء ويخططون ويطبقون، في المراكز المتروبولية الحديثة، وبأي توازنات قلقة للقوى المتصارعة.
في هذا الخضم، وفي إطار هذه الخريطة السياسية الواسعة والمتشعبة والمعقدة، يجد المثقف الفرد نفسه، موقعاً ودوراً ووظيفة، ذرة غاية في الضآلة، لا حول له ولا تأثير.. فمهما عاين وحلل وقال وفضح فإن النظام الكلياني العولمي يبدو وكأنه لا يأبه به، ويمضي في سبيله بعزم جبار.. وفي الوقت نفسه فإن المؤسسات الإيديولوجية للرأسمالية، بمثقفيها العضويين المتخصصين، المسوِّغين لحركتها وممارساتها، يسعون بالمقابل لانتزاع الشرعية عن المثقفين المعارضين بحجة عدم التخصص، وقلة المعلومات المتوافرة تحت تصرفهم، وطوباويتهم التي لا تتلاءم مع واقع العالم.. فقد روّجت الثقافة الرأسمالية لفكرة الاختصاص الدقيق، وبذا ليس من حقك إبداء رأيك في القضايا الكبرى والصغرى ما لم تنل شهادة جامعية عليا حول القضايا والمشكلات التي تراها وتلمسها وتحس بعقابيلها. أو أن ما تتحدث به بشأنها لا قيمة له لأن لا شرعية ( علمية ) لك، ها هنا، تمنحك حق الكلام. وبحسب هذه النظرة ليس من حق أشخاص من أمثال برتراند راسل، وناعوم تشومسكي، وإدوارد سعيد، وتزفيتان تودوروف، وأمين معلوف التطرق إلى المخاطر التي تواجه المجتمعات الحديثة، أو نقد سياسات الدول الكبرى، أو الدعوة إلى خلق عالم أفضل، على الرغم من خبرتهم وذكائهم ومتابعتهم الدقيقة لما يجري، طالما كانوا لا يحوزون التأهيل العلمي، باختصاص دقيق، حول تلكم القضايا والمشكلات.
وهو يتحدث عن إدوارد سعيد ويستشهد بمقولاته، يتساءل نيكولاس دوت بويار: "ما هدف المثقف ووظيفته في حداثة تمزِّقه وتقذف به في عالم من التجاذبات؟" فيجيب: "أن يتصرف ضد التيار مرة أخرى. يلعب المثقف في المجال السياسي دور الوسيط، يؤسس اتصالات، ويقيم روابط بين الثقافات والبشر، ويعزز نزعة إنسانية عقلانية: "يجب على المثقف أن يرى الآفاق البعيدة، ويتوفر على الفضاء الضروري لمواجهة السلطة، لأن الخضوع الأعمى للسلطة يبقى في عالمنا أسوأ التهديدات التي تخيّم بظلالها على الحياة الفكرية النشيطة والأخلاقية".
إننا نتكلم هنا عن ارتحال المثقف مثلما ينظر إليه إدوارد سعيد.. ارتحاله عبر الثقافات والحدود والذي يتسم بـ "رؤية شاملة تقيم علاقات وروابط خارج الحواجز. يرفض.. الاستسلام لاختزال حقل معرفي واحد".
مع هذا المنحى نحن نتحدث عن مثقف لتفكيره بعد كوني. فعلى مثقفنا وهو يكتب عن إشكالية الثقافة الوطنية، أو يقف في ساحة احتجاج، أو ينتج عملاً فنياً جمالياً، أو يدلي برأي في قضية محلية، أن يستحضر ما يقع خارج حدِّه الآني بوجود الآخر وفاعليته، وبوساطة عقل محاور، متسامح، متنبه، حذر، ومعارض لحظة تغدو المعارضة ضرورة.
يتحرك المثقف ( هذا ) في أفق العلمنة. وفي سياقنا العراقي، بالإقرار أن الخلاص يكمن في الدولة المدنية التي أركانها مبادي المواطنة والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية والتنمية. أي أن أفق العلمنة هو الذي يحدد ويلوِّن ويوسم قناعات المثقف وآرائه ومواقفه وممارساته، أي موقعه ووظيفته العضوية.. العلمنة المرتبطة بالدنيوية بما يتجاوز الجغرافية القومية في الرؤية، والعرق والثقافة المنكفئة على ذاتها.
سأخلص في النهاية إلى توصيف للمثقف الذي تتوافر شروط إمكان وجوده، في فضائنا الثقافي. وجوده المتسق مع ضرورات الواقع والعصر، والذي بمقدوره أن يكون مؤثراً بضمير ثقافي؛ أن يقول من موقعه المستقل الناقد، المحلي والكوني، المنفي والعابر للحدود، الأخلاقي والمقاوم/ المعارض، الموضوعي، الرؤيوي ـ الحالم، ما يراه حقاً وعدلاً.