ديفيد ريكاردو تحت المجهر: في نقد الإقتصاد السياسي


زكرياء بغور
2016 / 2 / 13 - 08:19     

ديفيد ريكاردو.. اقتصادي بريطاني غني عن التعريف. يعتبر ريكاردو أحد أهم أعلام التيار الكلاسيكي، و ثاني أهم مرجع في الإقتصاد السياسي بعد آدم سميث. بل إني أستطيع الجزم بأنه قدم إسهامات أكثر تأثيرا من تلك التي قدمها آدم سميث نفسه في الإقتصاد السياسي. لطالما كان ريكاردو من أكثر منظري علم الإقتصاد الذين تأثرت بأفكارهم حتى إن اقتصاديين وازنين كان لريكاردو تأثيرا عميقا في نظرياتهم و من ضمنهم كارل ماركس، فعكس ما يدعيه العديد من الماركسيين، كان ماركس قد تأثر ببعض أفكار ديفيد ريكاردو و خصوصا مفهوم الثروة و علاقتها بعنصر العمل.
بدأ ديفيد ريكاردو حياته كمضارب في البورصة قبل أن يتأثر بأفكار كل من آدم سميث و مالتوس و يقرر أن يدلي بدلوه في مجال العلوم الإقتصادية. يعتبر كتاب "مبادئ الإقتصاد السياسي و الضرائب" (1817) المرجع الأساسي لريكاردو في الإقتصاد السياسي، و هو كتاب لا يمكن لمهتم بحقل العلوم الإقتصادية تجاهله أو تجاوزه البتة تنضاف إليه مؤلفات أخرى منها "الثمن الباهض للسبائك: برهان على تلف الأوراق النقدية" (1810) إضافة إلى "مقالة حول تأثير السعر المنخفض للذرة على أرباح الأسهم" (1815). حاول ريكاردو من خلال الكتاب البحث عن حلول للمشكلات المطروحة في عصره مثل التضخم و انخفاض قيمة العملة الورقية و ارتفاع أسعار الذهب في فترة كانت تعرف فيها بريطانيا و بعض دول أروبا ارتفاعا كبيرا في نسبة الإنتاج نتيجة للثورة الصناعية. و قد وصل إلى نتيجة حتمية و هي أن نمط الإنتاج الرأسمالي هو المحرك الأساس لعجلة النشاط الإقتصادي و لا يمكن استبداله بنظام آخر.
يحاول إذن هذا المقال تسليط الضوء على من أعتبره أهم مرجع في الإقتصاد السياسي من خلال توضيح بعض المفاهيم و النظريات التي تطرق إليها و شرحِها شرحا مبسطا يخول لأي قارئ إمكانية فهمها، ثم الانتقال إلى الإمعان في تلك المفاهيم و النظريات من أجل تقديم تحليل نقدي موضوعي لها. ينطلق إذن النقد الذي سأوجهه لأفكار ريكاردو من فكرة مفادها أن الإطار الإيديولوجي لنظرياته كان محددا و مؤطرا ضمن سيرورة فكرية شاملة تم بنائها من أجل تبرير ممارسات الرأسمالية الأروبية خلال تلك الحقبة، و سيتضح ذلك خصوصا عندما سأتطرق لنظرية الأجور.
سيشمل إذن النقد الموجه لريكاردو هنا أربع نظريات محورية هي كالآتي:
1. نظرية القيمة.
2. نظرية السكان (المأخوذة عن مالتوس).
3. نظرية التجارة الدولية.
4. نظرية الأجور.
و تعتبر هذه النظريات الأربع من أهم إسهامات ريكاردو في الإقتصاد السياسي.
نظرية القيمة:
يرى ريكاردو أن قيمة أي منتوج تتحدد بساعات العمل المتطلبة من أجل إنتاجه، فكلما زادت ساعات العمل ارتفعت قيمة المنتوج بحيث أن منتوجا تطلب ساعتين من العمل تكون قيمته مضاعفة لمنتوج تطلب ساعة من العمل. المأزق الذي تموضع فيه ريكاردو هنا هو إغفاله لدور العامل في سيرورة الإنتاج، فقوة العمل عند ريكاردو لا تقدر بساعات العمل مما يمنح الإمتيازات كلها لمن يملك وسائل الإنتاج. يذهب بالتالي فائض القيمة بشكل كامل للرأسمالي كونه من يملك رأس المال. الأدهى من ذلك أن قوة العمل ـ العنصر الوحيد الذي يملكه العامل ـ تصبح جزء ا لا يتجزء من رأس المال بمجرد أن تأخذ حالتها المادية المتمثلة في المنتوج.
الفكرة هنا أن العامل المجد في عمله لا يستفيد من فائض القيمة، و هذا الأخير هو ما يعمق الهوة بين الطبقات المتصارعة حيث يبقى العامل غارقا في بؤسه بينما تزداد أرباح الرأسمالي و يرتفع بالتالي رأس المال في سيرورة مستمرة يرتفع فيها فائض القيمة بشكل أكبر مع تجدد كل عملية إنتاج، لأن قيمة رأس المال تحدد فائض القيمة في النهاية. لا يمكن في حقيقة الأمر تجاهل هذه الفكرة الخطيرة و هذا التبرير الواضح لتجاوزات الطبقة الرأسمالية في حق العمال، و الحل الوحيد بالتالي يتمثل في توزيع وسائل إنتاج الثروة بشكل عادل يضمن استفادة العامل من فائض القيمة بالشكل اللازم.
نظرية السكان:
اقتبس ريكاردو هذه النظرية عن صديقه مالتوس و مفادها أن عدد السكان يتزايد وفقا لمتوالية هندسية في حين يتزايد الإنتاج وفقا لمتوالية عددية، و نتيجة ذلك هو محدودية الإنتاج بالنسبة للسكان كما أن الأجور تتجه نحو مستوى يسمح للعمال بالعيش لا غير مع ارتفاع عدد السكان. الأمر ذاته يحدث في حالة ارتفاع الأجور، لأن العرض في اليد العاملة يكون "مطاطيا" عندما لا تسمح الأجور إلا بالعيش أما إذا ارتفعت الأجور عن هذا المستوى فإن مجموع السكان النشيطين يميلون إلى إعادة إنتاج أنفسهم بشكل أسرع مما يجعل الزيادة في العرض على اليد العاملة يرجع بالأجور ثانية الأمر الذي يدفع السكان الى التوقف عن التزايد فتنخفض نسبة اليد العاملة لترتفع الأجور نتيجة لذلك فيستمر الوضع إلى أن يحصل التوازن بينهما.
لقد أخطأ كل من مالتوس و ريكاردو هنا لسببين؛ السبب الأول هو أن ارتفاع عدد السكان لا يكون دائما مرتبطا بارتفاع الأجر و التاريخ يعج بالأمثلة الدالة على ذلك. بل إن المجتمعات النامية و التي تكون فيها الأجور منخفضة تعرف تزايدا أسرع في نسبة السكان مقارنة بالدول الأخرى (الهند و مصر مقارنة مع اليابان و دول اسكندينافيا مثلا). السبب الثاني يتمثل في أن ارتفاع السكان يسهل عملية تقسيم العمل عن طريق توسيع السوق بتحفيز الإبتكار. فعندما يكون تقسيم العمل متقدما يكون الإنتاج مرتفعا و تكوين رأس المال كذلك و الدخل و هذا يؤدي إلى ظهور ظروف اقتصادية تتلاءم مع ارتفاع عدد السكان. و هذا ما حدث فعلا فانتشرت الصناعات التحويلية و التجارة، بل إن بعض الدول حققت نسبة معاش أعلى من نسبة السكان كبلدان أروبا الشمالية و الغربية.
نظرية التجارة الدولية:
نادى ريكاردو و من سبقه من رواد المدرسة الكلاسيكية بحرية التجارة الدولية دون فرض رسوم على الواردات و الصادرات و ذلك بغية تشجيع ارتفاع الإنتاج و رأس المال و قد أورد ذلك في الباب السابع من كتابه "مبادئ الإقتصاد السياسي و الضرائب" حيث ركز على ما أسماه (نظرية التكاليف النسبية).
يؤمن ريكاردو بأن التجارة الخارجية بين دولتين تعود بالفائدة عليهما معا و قد اعتمدت نظريته على عدة فرضيات سأوردها هنا كما جاءت في المرجع.
1. التجارة الدولية تتم بين دولتين مختلفتين.
2. تنتقل عوامل الإنتاج بحرية بين فروع الإنتاج المختلفة و المناطق المختلفة داخل الدولة.
3. التبادل يتم بالنسبة لسلعتين فقط.
4. الدولتان تكونان على قدر واحد من الأهمية الإقتصادية.
5. لا يجب فرض تكاليف النقل و التأمين بين الدولتين.
6. دالة الإنتاج متجانسة و هي من درجة واحدة.
7. المنافسة الكاملة داخل الدولة و فيما بين صناعاتها.
8. توجد تقنية واحدة لصنع السلعة و تختلف من دولة لأخرى.
الشرط الوحيد بالنسبة لريكاردو هنا هو وجود اختلاف في سعر السلع بين الدولتين لتكون الفائدة متبادلة، بحيث أن كل دولة تتفوق في إنتاج سلعة معينة تستفيد بتصديرها و تستورد سلعة أخرى بالموازاة و هذا هو مبدأ "التبادل الداخلي".
مشكلة هذا الطرح هي مشكلة أخلاقية حيث يفترض أن الدولتين اللتان تقومان بالتبادل التجاري دولتان على نفس مستوى القوة الإقتصادية مما يطرح إشكالات عميقة بخصوص الدول الضعيفة اقتصاديا و يجعلها دولا استهلاكية لا تخولها اقتصاداتها مجابهة الرأسماليات الكبرى. نتيجة ذلك هي اتساع الهوة الإقتصادية بين الدول. المشكلة الأكبر و الأعقد هي أن الدول ذات الإقتصادات الضعيفة ستضطر إلى القيام بتنازلات اقتصادية و سياسية في سبيل اشباع حاجياتها من السلع المستوردة. تتمثل التنازلات الإقتصادية في السماح للدول المصنعة باستغلالها كأسواق استهلاكية و كمجالات للإستثمار بتكاليف أقل (يد عاملة منخفضة الأجر و مواد أولية بتكاليف أقل)، أما التنازلات السياسية فتتمثل في قبول الدول الضعيفة اقتصاديا بالتدخل في سياساتها الداخلية و التحكم في قراراتها المصيرية و هو ما نعيشه حاليا بشكل جلي.
نظرية الأجور:
سعى ريكاردو لتحديد حد توازن ثابت يستقر عنده مستوى الأجر في تقلباته في مدة قصيرة فصرح بأن مستوى توازن الأجور يتعادل مع الحد الأدنى الضروري للحياة أي أن مستوى الأجور يتحدد بما يعادل قيمة المواد الضرورية لمعيشة العامل في الحد الأدنى.
تعتبر هذه المقاربة لمفهوم الأجر مقاربة إمبريالية استغلالية بامتياز. و هنا سأعود لاستحضار مفهوم فائض القيمة. إذا كان الحد الأدنى للمعيشة هو ما يحدد أجر العامل، فهذا يعني أن الأجر لا يتحدد بالمجهود المبذول في عملية الإنتاج (قوة العمل) أي أن كل مجهود زائد عن الحد الطبيعي و الذي يشكل بالنهاية فائض القيمة فهو لا يعود على العامل بمنفعة بينما يعود على الرأسمالي بكل المنفعة. إضافة إلى ذلك فإن تحديد قيمة الأجر بالحد الأدنى للمعيشة لا يعطي العامل هامشا لتحقيق الرخاء فتتركز الثروات في يد ملاك وسائل الإنتاج و أي ارتفاع في الأجر فهو مشروط بارتفاع مسبق للحد الأدنى للمعيشة أي أن وضعية العامل لا تتغير حتى مع ارتفاع أجره.
أستنتج هنا أن ديفيد ريكاردو و رغم الإسهامات العبقرية التي قدمها لعلم الإقتصاد لكنه ظل متمركزا تحت مظلة الفكر الليبرالي الرأسمالي الذي كانت تقوده بلاده بريطانيا آنذاك و صاغ كل نظرياته في كنف هذا الفكر و لخدمة مصالحه ضاربا بعرض الحائط كل الأسس الأخلاقية التي كان هو نفسه يتغنى بها حين قال: "إن أي عمل يعتبر منافيا للأخلاق، ما لم يصدر عن الشعور بالمحبة للآخرين".