الأفكار و الوعي نتاج للظرف المجتمعي


أحمد محمد منتصر
2016 / 2 / 8 - 06:27     

انحصرت تبريرات الباحثين و المهمومين بالتغيير في مُعضلة اجتاحت أذهانهم و أصابت تفكيرهم بالشلل , و بالتالي تقلّص مفهوم التغيير في مصطلحي الوعي و الأخلاق , بينما في حقيقة الموضوع هناك ما هو أعمّ و أشمل لكافة المصطلحات وهو المجتمع , أو يمكنني القول أنه لصعوبة البحث في المجتمع ككُّل نظراً للتعددية المفرطة أصبح مفهوم الإختزال مقبول , من المقبول أن يتم تحليل مخزون الوعي و الأخلاق للأفراد و لكن ليس من المقبول هو التغاضي عن الوعي المجتمعي الذي يربط الأفراد ببعضهم البعض , الأجدي هو دراسة المجتمع ككُّل لا يتجزأ بأخلاقه و وعيه السائد .
" الشعب لا يمتلك وعي " هذه هي الإجابة التلقائية الناتجة عن تحليل سطحي لكل من يُسأل هل بتغيير ؟ " لو الجميع مُتحلّون بأخلاق سيصلح المجتمع " و هذه أيضاً إجابة كسابقتها , و الحقيقة التي يغفلها كل من يرددون هذه الإجابات أن الوعي و الأخلاق كليهما مرتبطين كنتِاج مُسببات أخري , الحاجة و العَوز و البيئة الإجتماعية و المستوي الطبقي كل هذه مُسببات كافية لإختلاف الوعي الفردي و أيضاً إختلاف الأخلاقيات من فرد لأخر .
إذا نظرنا إلي الحصيلة المستمرة عبر تاريخ التطور الإنساني و بالضرورة التطور المجتمعي , سنجد أن المجتمع بتطوره يُضفي عملية التأقلم مع أفكاره و وُعيه المُشكّل نتاج للتطور الحادث وفقاَ لظروفه , ظروف المجتمع المعيشية هي العامل الرئيسي المتحكم في تعديل و تغيير مسار أفكاره , فبنظرة للوراء حيث مجتمع المشاع و الحياة البدائية لم يعرف الإنسان الإستقرار قبل الصيد , أشبع إحتياجات الحياة الأساسية أولاً ثم بتغيير ظرف المعيشة من الصيد إلي الزراعة و وجود المياه عرِف الإنسان الإستقرار .
الآن في القرن الحادي و العشرين نحن نُقرّ بحقيقة أن الأفكار هي أفكار الطبقة السائدة , و الوعي الجماعي للمجتمع هو وعي السيادة المجتمعية وكل هذا وفق منظومة قائمة علي صراع , منظومة تُغذي المجتمع بأفكاره , متغلغلة في كل بقعة من بقاع الكوكب تفرض سيطرتها هنا و هناك من خلال ما تدعيه من - حرية – فحرية في الإنتاج لحرية في الإتجار و التداول حتي نصل إلي حرية تبجحات المنظومة و حرية إعتداءها علي أفرادها و إستغلال آدميتهم في بقاء المنظومة .
إذا أردنا أن نتحدث عن تحرر الفرد , فلا يوجد إنسان مُحرر فالشعوب هي من تحرر أنفسها , ولا تحرر للشعوب إلا من خلال نسف منظومة القتل المتبجح للإنسان و كرامته و إنسانيته , تلك المنظومة التي كانت نتاج تطور السلطوية عبر التاريخ الإنساني , فمن العبودية انبثق ذلك الجنين الملعون المُسماة بـ " الرأسمالية " , فمع التطور الصناعي و إنفتاح السوق العالمية التي أنمت بلا شك التجارة و الملاحة و المواصلات البرية , وهذا النمو أوسع بدوره الصناعة أكثر فأكثر , فبالتالي لم يعد نمط الإنتاج آنذاك - الإقطاعي – قادراً علي مواكبة التطور السريع لطبقة صاعدة – البرجوازية - فوق عرش الإقطاع , و ها نحن الآن نعيش في زمن التقدم العلمي و الصناعي و التكنولوجي المهول , نعيش في ظلال منظومة لم تبقِ علي أي رابطة بين الإنسان و الإنسان إلا المصلحة البحتة , أغرقت القدسية للورع الديني في أغراضها الأنانية المجردة من العاطفة , و حوّلت الكرامة الشخصية إلي قيمة تبادلية , و أحلّت حرية التجارة الغاشمة وحدها محل الحريات المثبتة و المكتسبة التي لا تُحصي , بكلمة أحلّت إستغلالاً مُباحًا وقحاً مباشراً محل الإستغلال المُغلّف بأوهام دينية مُسبقاً .
فمن يتحدثون الآن عن أن التغيير الحقيقي يبداً بتغيير الأفكار , كيف تتغير الأفكار في ظل منظومة ليست متحكمة فقط في قوة السلاح و المال , بل متحكمة بوسائل التربية و الإعلام و دور العبادة , بل بلغت سطوتها إلي نزع حجاب العاطفة عن العلاقات العائلية و قصرتها علي علاقات مالية بحتة , منظومة حوّلت الطبيب و رجل القانون و العالم و الكاهن إلي أجراء في خدمتها و خدمة ما ترتضيه من إطار للتعايش .
عند كل مفترق تغيير إجتماعي لنظام التعايش في المجتمع , يتحول عندها المجتمع إلي جنين ينتظر أن تُشق عليه البطن لكي يخرج إلي النور و يبدأ فترة نموه بإسقاءه كل الأفكار التي تبقيه علي قيد الحياة طالما يحيا في كنف أمه التي أنجبته , هكذا تلك المنظومة الوضيعة التي يُسقي منها كل فرد من تعاليمها و أفكارها و أخلاقها , فأخلاقها قائمة علي الإستغلال , كل فرد يُربي أنه إذا توافرت لديه الفرصة لابد أن يستغلها بدون النظر لأبعاها , علي حساب من ؟ فرد آخر يشقي مثلك ؟ لا تنظر فقط استغل ثم استغل ثم استغل , و لكن لماذا تستغل ؟
تلك المنظومة المحتكرة لكل آليات التملّك و الإنتاج في أيدي عدد من أفرادها و ممثليها في مؤسسات حكمها لم تنجح فقط في تسطير و تشكيل حياة لها قائمة علي الإمتيازات الإجتماعية علي حساب الظروف الغير عادلة التي تتوافر لباقي أفراد المجتمع , بل نجحت في إخضاع أفرادها أن يكونوا باحثين دائماً للحصول علي إمتيازات معيشية ولكن , إمتيازات هؤلاء تكون علي حساب حياة و واقع و معاناة هؤلاء , فمثلاً - أفراد البوليس – هؤلاء نحسبهم من أقذر نتاجات المنظومة و لكن إذا نظرنا للأمر سنجد أنهم أفراد تواجدوا في بيئة تخلقها تلك المنظومة بقوانين ما فارتضوا لأنفسهم أن يكونوا ذوي إمتيازات وفق ما ترتضيه المنظومة .
مثلما نجحت المنظومة في إغواء أفرادها و التحكم بحالة الوعي الجماعي و المزاج الجماهيري , أيضاً نجحت في إضفاء و إرساء ممثليها كداعمين لها عن طريق الدين و المؤسسات الدينية المختلفة , فأخضعت الدين و أحكامه و تفسيراته وفق سيرورة المنظومة , و بالتالي أصبحت فكرة الدين و قدسيته مُتخطاة علي الأقل من المنظومة ككل , فأصبح المجتمع يتقبّل ماهو مُباحاً مجتمعياً بغض النظر عن ما هو حلال أم حرام دينياً , ففي الجمهورية المصرية ذات الهوية الإسلامية المرفقة بدستورها القائم يتم تداول الخمور في التجارة و إقتصاد الدولة يُحصّل الضرائب من الخمور والخمور مُحرّمة إسلامياً , و هناك في مملكة الظلام و الرجعية – السعودية – منشأ الدين الذي أضحد العبودية ما زال الملوك و حاشيتهم يتباهون بإقتناء العبيد , فمثلما استطاعت المنظومة من تصريف منتجاتها المادية و تحويل المجتمعات إلي سوق إستهلاكية لزيادة رأس المال , استطاعت أيضاً تثوير و تسويق أفكارها
فمن الوهم الشديد إعتقاد و إرجاع التغيير المجتمعي إلي التغيير الفكري , أو تناقل الأفكار يؤدي إلي التغيير الجذري المجتمعي , فمخزون الأفكار نتيجة عن الظروف المجتمعية التي يحيا بها المجتمع , فلننظر كم من التنويرين و مُدعي التحرر الفكري و القدرة علي النقد , ماذا نالوا مع أول صدام حقيقي مع السلطة الحاكمة أو مؤسسة من دواعم الحكم , السجن أو الهروب هو المثوي الأخير , لذلك لابد أن نقف علي أرضية واحدة للصراع و إختلاف دوائر الصراعات و النزاعات القومية في مختلف بقاع الأرض يصبّ في النهاية في دائرة الصراع الطبقي , ذلك الكوكب المتناحرة حكوماته علي إحتكار الموارد الطبيعية و البشرية , شعوبٌ تنعم بالحد الأدني للرفاهية الإنسانية علي حساب شعوبٌ تعيش علي المعونات و شعوبٌ أخري لا تري حبة القمح , شعوبٌ تحيا في ظلال حكومات الإحتكار العالمي بينما شعوبٌ تطرب أذنيها صوت المدافع و الرشاشات , أغرقوا عالمنا بالحروب الأهلية و القبلية و الميلشيات الدينية المسلحة و و بذور الطائفية العفنة , أصبحت قارة بأكملها مصدر للأمراض و الأوبئة جرّاء حرمانهم من وسائل العيش , لا حل للتغيير الجذري سوي نسف هذه المنظومة التي تحيا علي أنقاض المعدومين , الخلاص الوحيد هو تقرير الشعوب لمصيرها المسلوب بواسطة حفنة من المخططين لأحلامهم و عالمهم القائم علي أشلاء القتلي جرّاء القصف أو الغرقي جرّاء الهروب .
في النهاية يُبرهن تاريخ الأفكار أن الإنتاج الفكري يتحول بتحوّل الإنتاج المادي , فالأفكار التي سادت عصراً من العصور لم تكن قط إلا أفكار الطبقة السائدة , بمعني أنه عندما يجري الحديث عن أفكار تُثوّر مجتمعاً بأسره , يُعبّر فحسب عن واقع وهو أن عناصر مجتمع جديد قد تكونت في عقر المجتمع القديم , و أن انحلال الأوضاع المعيشية القديمة يواكبه انحلال الأفكار القديمة , فلا شك أننا بحاجة في النهاية إلي نسف حقيقي و جذري لعلاقات إنتاج و ملكية متوارثة و أفكار سائدة متوارثة , فرُب ثورة تقودها فئات الغالبية المطحونة المنتظمة في طبقة سائدة تكون القطيعة الأكثر جذرية مع علاقات الملكية المتوارثة , ولا شك في أن تقطع في مجرب نموها بجذرية أشد , صلتها بالأفكار المتوارثة .