حول القطاع الصحي في مصر


راجي مهدي
2016 / 2 / 3 - 15:18     

حول القطاع الصحي في مصر

المصريون صحتهم تُباع و تُشتري علي طاولة الرأسمالية المصرية ، معذرة ، الفقراء صحتهم تُباع و تُشتري علي طاولة الرأسمالية ، للدقة . فمنذ أن اقتحم الكمبرادور حياتنا في اواسط السبعينيات ، منذ أن وقع السادات علي خطابات النوايا مع المؤسسات الدولية ، منذ أن استولت البيروقراطية و الطفيلية علي حكم مصر و استسلمت للعدو الصهيوني و فتحت مصر لكل ما هو يميني ، أصبح الفقراء فريسة ، وليمة ينهشها كل السماسرة و النهابين .
اذا أردت أن تشاهد مدي وقاحة الرأسمالية ، تجشم عناء الجلوس لبعض الوقت في إحدي الصيدليات ، فإذا كان القطاع الطبي قد تقيح ، فإن قطاع الأدوية أصبح بؤرة سرطانية تعتصر المواطن . الصيدلي و الطبيب أصبحا جزارين ، استلا - في ظل الغياب المتعمد لدولة البرجوازية علي أيدي برجوازية الدولة - سكاكينهما ، و شرعا - الصيدلي والطبيب - في "تشفية " لحم المواطن بدلا من ان يعملا علي شفاؤه .
في الصيدلية تتراكم مئات الأصناف من الأدوية ، كل مادة فعالة تعبئها عدة شركات ، و تصنعها شركات عديدة أيضا . و قبل أن يصل الدواء من المنتج  الي المستهلك المريض ، فإنه يمر بعدة وسطاء جميعهم يحققون أرباحهم من اللحم الحي للمريض . بالإضافة الي ذلك ، فإن جودة الدواء أصبحت حلما صعب المنال ، لأنه منذ أن استولي اليمين علي الحكم و شرع في الهرولة نحو صندوق النقد و الإقتصاد الحر ، و تخلت الدولة عن كل دور كانت تقوم به في عهد عبدالناصر ، فاذا كان عبدالناصر قد انشأ التعليم المجاني و العلاج المجاني فإن السادات قد أتي علي كل ما قام به عبدالناصر ، الدولة التي التزمت بكونها المحرك الاول و الأساسي للإقتصاد من خلال التخطيط و التنفيذ و الرقابة ، تخلت عن مسؤوليتها ، و سلمت قطاعها العام لأبشع عملية نهب تعرضت له مصر منذ عهد اسماعيل خديوي مصر المأفون . سلمت الدولة اذن اقتصادها ضمن الأشياء التي سلمتها في تلك الفترة ، و انطلق القطاع الخاص يعربد ، انطلقت الرأسمالية بعد ان كبح عبدالناصر جماحها الي حد بعيد ، انطلقت تعوض ما فاتها ، انطلقت تبيع لحوم الفقراء المعدمين فوق موائدها ، و لإن كانت وقاحة الرأسمالية بادية في كل ما يمس حياتنا ، فإن وقاحتها تتخذ منحي بشع حين يتعلق الأمر بصحة الناس .
و منذ ان دخل القطاع الخاص سوق الدواء ، و تعددت الشركات و المنتجين و المستوردين ، ظهرت لعبة الدعاية ، لأنه اذا كانت في السوق المصرية عشرات الشركات التي تعبئ الباراسيتامول ، فإن جهدا يجب أن يبذل علي سماسرة الصحة ، الأطباء البشريين . و ظهرت لعبة الدعاية ، و القصص فيها تندي الجبين خجلا ، ألم أقل أن عُهر البرجوازية يتجلي بنقاء حين يتعلق الأمر بصحة الناس . الطبيب لم يعد يصف المنتج الأكثر فاعلية ، إنه يصف منتج الشركة الأكثر سخاءا ، و لأنه أعلم الناس بصحة المرضي فإنه يتعامل مع المواطن من وجهة نظر التاجر . منذ ان تدخل من باب عيادته الخاصة الي أن تخرج ، أنت رهينة لبذاءة قطاع الصحة المنظم علي النمط البرجوازي .
و الحق أقول لكم ، ان المؤامرة علي الفقراء عميقة . الطبيب و الصيدلي شكلوا تنظيما مافياويا لا يخلو من الصراع ، الوحدة و الصراع . فالصيدلي لم يعد يشبع من الخصومات ، انه يطمح لقضم كعكة الدعاية ، لهذا فإنه بدلا من أن تسعي نقابة الصيادلة للضغط من أجل إعادة هيكلة القطاع كاملا كي يتخلص الصيدلي من مهنة بائع الدواء ويستعيد مكانته كأعلم أهل الأرض بالدواء من حيث  pharmacologic , pharmacodynamic reactions , metabolism , excretion , etc . فإن النقابة تقاتل من أجل أن تكتب الروشتة بالإسم العلمي ، فالصراع ليس علي صحة الناس ، بل علي كيفية إخضاع جيب المواطن و لمن . ان المريض لا يدفع ثمن انتاج علبة الدواء فقط ، انه يتحمل عبئ الدعاية و التسويق ، يتحمل رواتب المكاتب العلمية التي تدار لأجل الشعوذة و إلباس الباطل ثوبا علميا .
و قد كان التخريب الأبشع الذي استهدف صحة المصريين هو تخريب القطاع العام الصحي ، تخريب الملاذ الرخيص و لكن الآمن للمصريين من المرض . فقد استحدثت في عهد عبدالناصر شبكة تأمين صحي و مستشفيات جامعية و حكومية عامة ضمنت الدولة توفير رعاية صحية متميزة داخلها ، ولعل معهد ناصر القابع علي مقربة من النيل أبرز شاهد علي ما كان . و لكن الذي حدث أنه تم تخريب التأمين الصحي عمدا ، تم تخريب المستشفيات الحكومية جميعها عمدا و أصبحت مجمعات للموت ، أدوات للقتل تُضاف الي قائمة أدوات القتل التي استحدثتها الرأسمالية في حربها علي الفقراء حفاري قبرها . و لعل الاستنساخ او لعلها وحدة المنهج هي التي حكمت ان القطاع العام الصناعي و الصحي و التعليمي تم تخريبهم بذات الكيفية ولذات الغرض . فالمصانع التي خصخصوها حرموها اولا من المواد الخام ، ثم أعلنوا انها تخسر كل عام ، ثم خصخصوها . المدارس والجامعات الحكومية تم سحلها لصالح نظيرتها الخاصة . و المستشفيات الحكومية تُركت نهبا للخراب ، كي يموت فيها المصريون و من ثم يلجأ الناس للمستشفيات الخاصة . و من يلجأ هو القادر اما الفقير فإنه سيموت في هذا الوطن جهلا و مرضا و بطالة . ففي مصر من لا يملك تتضاءل فرصه في الحياة .
ان الامر واضح للجميع، الحل يراه الكفيف ، ما لم تلق مصر بأجندة صندوق النقد تحت حذائها و ما لم تستعد الدولة دورها الإقتصادي و الإجتماعي ، ما لم تكن دولة الفقراء، باختصار ، ما لم تلق مصر بالبرجوازية في مزبلة التاريخ فإنه لن يكون هناك مستقبل .
في القطاع الصحي كما في كل القطاعات ، يتمثل الحل الجذري ، من وجهة نظر المصالح الشعبية ، لا من وجهة نظر الأرباح التي تجنيها الرأسمالية ، يتمثل الحل في تأميم و دمج كل ما هو خاص من شركات الأدوية و دمجها في كيان خاضع للدولة ، الدولة التي يجب ان تسيطر علي الأسواق و تطور صناعتها بما فيها صناعة الدواء و تمارس رقابة علي الانتاج ، علي جودة المنتج الذي ينتج من أجل تلبية حاجت الناس لا من اجل الربح .
الدولة التي يجب ان تطهر مصر من كل ما هو خاص ، مستشفيات او عيادات او صيدليات خاصة . ان الصيدلية لن تكون سوي منفذ بيع لمنتجات الشركة القابضة ، الناتجة عن دمج كل ماله علاقة بصناعة الدواء في مصر ، الصيدلية يجب ان تتحول من وكر للارتزاق الي مكان لتقديم دواء فعال و آمن و مجاني للمريض ، مكان يمارس فيه الصيدلي ما يُفترض انه تعلمه . ان هيكلة قطاع الدواء يجب أن تتم بما يؤدي إلي أن تكون صحة المواطنين هي كل شئ ، الصيدلي في الصيدلية موظف يمارس مهمته التي يؤجر عليها من الدولة . بالضبط كما سيكون الطبيب في المستوصف او المستشفي الحكومي .
ان دولة تقوم بهذا الفعل الثوري ، هي دولة ما بعد تحطيم الرأسمالية ثوريا