الماركسية الثورية ليست هي نفسها الماركسية الأكاديمية - الفصل الثالث - حوار مع جورج لابيكا


حسان خالد شاتيلا
2016 / 2 / 2 - 23:32     

 
                         في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم
                                   حوار مع جورج لابيكا
                        أجرى الحوار وقدَّم له حسان خالد شاتيلا
                                         
                                    الـفــصـــل الـثــالـث
                                     الماركسية الثورية ليست هي نفسها الماركسية الأكاديمية     
                                  أولا: الفـلسفة لـن تنتهــي مـن فـــهم العـــالـم
 
1/ عندما يتحدث "معلِّمو" الماركسية عن فرضية القطيعة الأبستمولوجية مع الفلسفة والأيديولوجيا حسب ما تحدَّث عنها الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير، فإنهم لا يأتون على ذكرٍ الثورة وتغيير العالم، كما لو أن نظرية المعرفة كما يَستخلِصها هذا المعلم أو ذاك من أعمال ماركس تُغني عن التطرق إلى تغيير العالم. ويشير هؤلاء إلى أن التوسير في أعماله يقرأ لدى ماركس قطيعة مع الفلسفة وخروج منها إلى العلم. لكن التوسير لا يلبث أن يقع هو نفسه أسير الأيديولوجيا. والسؤال هو: هل الأبستمولوجيا أو نظرية المعرفة ضرورية لتغيير العالم؟ أي أننا نستطيع تغيير العالم دون قراءة ألتوسير، لأن نظرية المعرفة في أعماله، أسوة بغيره من معلّمي الماركسية، أصبحت سجينة الجامعات، والماركسية الأكاديمية، حيث أُغْلِق على الماركسية في مبحث أبستمولوجي، في ما هي أداة تهدف إلى تغيير العالم. ولا سيما أن أعمال ماركس وإنجلز خلوٌ من أية نظرية للمعرفة. إن العثور على الابستمولوجيا في أعمال ماركس وإنجلز يأتي عبر قراءة تحليلية لاستنتاج نظرية للمعرفة في أعمالهما. ناهيك بأن الحديث عن ماركس في الأكاديميات يُعنى بوجه خاص بتجاهل أن تغيير العالم هو الأصل في أعمال ماركس وإنجلز. وهنا تَظهر مقاربتان لتغيير العالم: إما أن تكون معرفة العالم ضرورية لتغييره، وإما أن إدراكه يأتي عبر تغييره. إذ ليس من معرفة بالعالم ما لم يبدأ العمل من أجل تغييره. وهاتان المقاربتان مختلفتان إحداهما عن الأخرى بصورة جوهرية في أعمال ماركس والماركسية من بعده. إننا لا نفهم  العالم  إلا  عبر  تغييره.  أما أن نفهمه من أجل تغييره فإنه يتحول حينئذ إلى مقاربة مثالية وأكاديمية في آن.
 * * * هذا التمييز مناسب. لأننا عندما نبدأ بالتفكير الأبستمولوجي كي نفهم، فإنما يعني ذلك أننا لن ننتهي أبدا من فهم العالم، الأمر الذي يَدْفَع بالتغيير إلى الخلف، والتغيير على هذا النحو يتراجع. والفهم ليس هو الطريق إلى العمل والتغيير، وهذا يعني أن العادة السرية، أو الفلسفة، كما يقول ماركس في الأيديولوجيا الألمانية. تستمر ولن تنال أبدا الحب الحقيقي. فالفلسفة لن تنتهي أبدا من التفكير.
 
2/ إذا ما نحن نظرنا إلى أعمال ألتوسير بالطريقة نفسها التي يَنظر هو فيها إلى ماركس، فتقصَّينا ما وراء الأسطر عما فكر به ألتوسير دون أن يقوله، أو ما كان يملي عليه التفكير دون أن يُفصِح هو عنه، فإن ما لم يقله هذا الأخير هو حبه للفكر والمعرفة إلى حد الولع. حتى أنه نسي الطبقة العاملة، كما تقول أنت، جورج لابيكا، عندما تُسَجِّل أنت على ألتوسير ذلك، وتذكِّرنا بأنه اعترف بذلك لدى نيله درجة الدكتوراه في أميان.  هذا ما يُمكن أن ننتهي إليه إذا ما طبَّقنا على ألتوسير الطريقة التحليلية التي يطبِّقها هو نفسه على ماركس. الأمر الذي يقودنا في نهاية الأمر إلى القول بأن ألتوسير يسوعي النشأة والتربية، وتلقى تعليمه في المدارس اليسوعية، وأحب المعرفة محبة اليسوعيين لها.
3/ أريد في الحقيقة عندما أتحدَّث عن صديقك ألتوسير بهذه الطريقة أن أحرضك، عسى أحمُلك على الكلام للدفاع عنه. فأنت تمتنع منذ وفاته عن الحديث عنه.
*** كلا، أنا اَلقيت محاضرة في المعهد الفلسفي، وقد بقيت مسجلة صوتيا، وأنا لم أعد إليها بعد ذلك. كما أنني لم أقرأ عمله الأخير"المستقبل يستمر طويلا" L’Avenir dure  longtemps  لأن هذا العمل لا أهمية له من الناحية الفلسفية. والواقع إن فكر ألتوسير رافقه كثير من اللهو والتسلية الجامعية، حيث تَظهر الماركسية لدى البعض وكأنها مجرد صدفة عابرة في تاريخ الفكر الإنساني. إني أرى أن إلقاء محاضرة، على سبيل المثال، حول مسألة القطيعة الأبستمولوجية لدى ألتوسير لتقصي ما إذا كان ماركس يقول بمثل هذه القطيعة أم لا، مسألة لا تستحق مني الاهتمام لأن ذلك لا يعدو كونه تمرينا كسواه من التمارين. صحيح أن مبحث القطيعة الأبستمولوجية لدى ألتوسير هي أفضل بكثير من مبحث العدم لدى هيدجر، إلا أن المبحث مع ذلك يبقى أكاديميا. وأنا أتابع الآن هذه الأبحاث بصورة ما انفكت تتقلص، لأن مثل هذه المقاربة تحول دون تغيير الواقع. وسوف نعود إلى هذا الموضوع لاحقا.
 
4/ في جوابك سالفا على السؤال عما آلت إليه الماركسية اليوم، أنت تحدَّثت عن الماركسية المدجَّنة في إشارة إلى الأشكال الأكاديمية والتحليلية التي ظهرت في مجال تعليم الماركسية ونقلها. هذه الماركسية هي فلسفة لن تنتهي من فهم العالم، ولن تنتقل أبدا من الفهم إلى الممارسة. هل أنت تَعتَبر مدرسة فرانكفورت شكلاً من هذا التدجين؟ ومن أي نقطة من أعمال ماركس وإنجلز هي انبثقت؟ وما هو السند أو المرجع الذي تستند إليه الماركسية التحليلية. وكيف لنا أن نفنِّد صلتها بالماركسية؟
*** ما بين الماركسية التحليلية ومدرسة فرانكفورت تباين صريح. فالماركسية التحليلية لا تخلو من أهمية. إنها التَمَثُّل الأمريكي لأعمال ماركس وإنجلز. وهو ما أتاح للماركسية أن تجد لنفسها مكانا في عددٍ من الجامعات، طالما يُحْظَر على الماركسية في الولايات المتحدة أن تجد لنفسها مكانا في الشارع. وتأتي أهمية الماركسية التحليلية من صفتها الثقافية، الموسيقى، الفنون التشكيلية، الأدب.
 
5/ كيف تصنِّف إذن فريدريك جيمسون؟
*** جيمسون لا علاقة له بالماركسية التحليلية، وهو ذو اطلاع واسع على الماركسية، إلا أنه يُعنى بالأدب. وفي ضوء دراساته في مجال الأدب يتبين لنا أن افق عمله واسع للغاية، وهو يفكر بمشكلات الأدب عبر رؤية ماركسية. الأمر الذي يُعتبر مفيدا، وأننا في حاجة إليه. وتتأتى أهميته لتفنيده فكرة ما بعد الحداثة من حيث هي كذبة. وجيمسون ليس ماركسيا مكتبياً. صحيح أن المجال في الولايات المتحدة لا يتسع أمامه من حيث هو مثقف، كما هو الحال في أوروبا، للانخراط في الحركة والفعل. إنه ينتمي لجامعة ديوك التي تُعتَبَر بمثابة ملجأ صغير للماركسيين في الولايات المتحدة الأمريكية، بيد أن هؤلاء مغلقون على أنفسهم داخلها.
أما مدرسة فرانكفورت فهي غير ذلك. لقد تابعت التقليد الماركسي كما هو سائد في ألمانيا والنمسا. وكان مؤسساها، ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو في مطلع الأمر ماركسيين بكل معنى الكلمة. إلا أن مدرسة فرانكفورت دخلت في ما بعد في سياق ألمانيا الفدرالية ووقعت تحت تأثيره، ففقدَت بالتالي راديكاليتها، وأَخذت شكلا متعايشا مع المؤسسات الألمانية الحكومية، على حسب ما يترجم عنه هابرماس . وهو، وإن كان يعرِّف دوما بنفسه بصفته الماركسية، إلا أن نظريته في التواصل فَقَدَت أية علاقة لها بالماركسية، بخلاف سابقيه، وبوجه خاص هوركهايمر. وإن أعمال هابرماس معدومة الصلة بتقاليد هايزبورغ في ألمانيا .
 
6/  ما الذي فقدته مدرسة فرانكفورت من الماركسية مع هابرماس في ما يتعلق بالتواصل؟
*** إن هابرماس يحصر مسألة التغيير المجتمعي بالتواصل، ويجعل من التغيير مسألة تواصل فقط. إنه على هذا النحو يلتقي بالخطاب السائد الذي يتحدث عن التواصل والنقاش والحوار عبر الأنترنيت. وأنا لا أَقول إنه يوظِّف التواصل كأداة لخدع الناس، كلا، لكنه يُخْضِع بعض ظواهر مجتمعنا للتواصل، الأمر الذي يقوده بدوره إلى معالجة الصراع المجتمعي على نحو محض ثقافي، كما يظهر في كتابه "العلم والتكنولوجيا كأيديولوجية". بيد أني، بالمقابل، أُنوه بكتابه "المادية التاريخية" الذي ينطوي على أهمية بالغة. وما من شك في أن رواد مدرسة فرانكفورت أكثر أهمية من عدد من المثقفين الفرنسيين الذين كانوا خلال فترة ما ماركسيين بدون شهية، ثم أصبحوا خدما للأيديولوجية السائدة، وذلك بخلاف هابرماس.
 
7/ ماهي النصوص من أعمال ماركس وإنجلز التي تُعتبر مرجعا في ما يتعلق بتأسيس مدرسة فرانكفورت؟
*** لا يوجد نصوص بحد ذاتها، إنهم مجموعة من المثقفين الذين حاولوا قبل الحرب العالمية الثانية أن يوغلوا بحثا في مجالات لم تجد لنفسها حيزا في أعمال ماركس وإنجلز. من ذلك، على سبيل المثال، كل ما يتعلق بالفن والدياكيكتيك. فماركس لم يتطرق إلى الفن إلا بصورة موجزة للغاية، وهي على قلتها فقيرة. حتى إنجلز الذي تطرَّق إلى الفن والدياليكتيك، فإن أعماله في هذا المجال لا تسد هذا النقص. وكانت الماركسية ما قبل أدورنو تفتقد بصورة شبه كاملة إلى رؤية ما في هذا المجال كما في الثقافة من حيث العلاقات ما بين البنى العليا، فضلا عن الدياليكتيك. هوركهايمر طرح من جهته مسالة الدياليكتيك لأن لينين لاحظ أن ماركس وعد بكتاب صغير عن الدياليكتيك إلا أنه لم يكتبه. وأنا أعتقد أنه لم يفعل ليس لأن الوقت لم يتسع أمامه لكتابة هذا الكتاب، وإنما لأنه كان عاجزا عن كتابة كتاب صغير حول الجدل. ذلك أن الدياليكتيك مسجَّل في الصيرورة المتناقضة للواقع. فأنتَ لا تتعامل مع الجدل كما تتعامل مع الجبر والحساب، وذلك بخلاف هوركهايمر الذي حاول أن يَستَخرج الدياليكتيك من تناقضات الواقع. وكان هايزبوغ ذهب في المنحى نفسه، وإن كان هو نفسه لا ينتمي إلى مدرسة فرانكفورت، وإنما معاصر لأتباعها. ولدى إرنست بلوخ أعمال في الطوباوية.  وما بين بلوخ وهايزبورغ تقارب وثيق. فقد عمل بلوخ من جهته على الطوباوية من حيث هي قوة المتخيَّل في التغيير المجتمعي، كما تقصى في بحثه عن هذه العلاقة ما بين المتخيَّل والتغيير في كل المجالات، من الموسيقى إلى الأوبرا إلى القرون الوسطى والطوباويين القدامى.
وتَلحق بمدرسة فرانكفورت مدرسة بودابست، حيث لوكاش الذي كتب "التاريخ والوعي الطبقي"، ثم جاءت أعماله كلها عن الحياة اليومية، وعمل بغزارة في علم الجمال.
8/ هل لمدرسة فرانكفورت معادل في الشارع والممارسة، أم هي سجينة المدرَّجات الجامعية؟
*** إن عيب مدرسة فرانكفورت والماركسية التحليلية على حد سواء أن الأولى كالثانية انقطعت كل منهما عن العمل الثوري. فكل من هاتين الأخيرتين لم تعنَ بقضايا الثورة. لذا فإن عددا منهم انشق عنهم. إن مدرسة فرانكفورت، على غرار الماركسية التحليلية، تتذرع بأنها عزفت عن الخوض في الثورة من جراء الخوف من تهمة تأييد الاتحاد السوفياتي. إلا أن كلا من بلوخ ولوكاش كان على علم بما يجري في الاتحاد السوفياتي، لكن ذلك لم يحل دون أن يكون كل منهما مناضلا شيوعيا.
إن دخول ماركس إلى الجامعات لهو فوز عظيم. لكن قوة ماركس تكمن في قدرته على التدمير. حتى عندما تأخذ شكل الإطار الجامعي، فإنها تحافظ على متانتها. فبالرغم من تسلط الجامعيين عليها لم تَفقَد قدرتها على التغيير، الأمر الذ ي يَحمل السلطات السياسية والتربوية في أوروبا إلى حظر تدريس الماركسية.
 
9/  باستثناء جامعة باريس العاشرة (نانتير) وجامعة باريس الثامنة (سان دوني)، من هي الجامعات في فرنسا التي تدرِّس لينين؟.
*** كلا، إن الأمر تغيِّر، وهو لم يعد كما كان عليه ما بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي. فإن تدريس ماركس آيل إلى الأفول. وما تبقى من تدريس الماركسية هو الماركسية التحليلية لأنها معدومة الخطر. وأيا يكن الحال، فإن الماركسية لم تشق طريقها إلى التعليم في فرنسا إلا بصورة ضيقة. وعلى سبيل  المثال، فإن برنامج الفلسفة المقرِّرلمسابقة الأغريغاسيون لم يَدرج ماركس إلا مرة واحدة، وذلك ما قبل خمسة عشر سنة أوعشرين سنة. وكان الكتاب المقرر على المتسابقين هو "مقدمة من أجل المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي".
10/  أنتَ كنت آخر من درَّس لينين في الجامعات الفرنسية.
*** لم يُدرَّس لينين في الجامعات أبدا.
11/ لقد درَّست أنت لينين في جامعة باريس العاشرة في السبعينات والثمانينات.
***  صحيح، وكان ذلك حالة استثنائية على ما أعلم.
 
                  ثانيا: الصلة ما بين أزمة الماركسية ونظرية المعرفة:
                         الستالينية قادت إلى القطيعة ما بين النظرية والعمل
 
1/ الماركسية ليست نظرية للمعرفة، أو هي تفتقد إلى نظرية المعرفة، والمعرفة في الماركسية هي جدل النظرية والممارسة، وأزمتها التي لم تبرحها قط منذ اليوم الأول متأتية من افتقادها للأبستمولوجيا، فكيف نَجَحت إذن الماركسية في الاستمرار على قيد الحياة والتعايش مع أزمتها المعرفية هذه؟
***  العلاقة ما بين النظرية والعمل لا تعرف أي انفصال. إذ أن النظرية، شأنها شأن الممارسة دون أي تفضيل ومفاضلة، كل منهما ضروري سواء من حيث أهمية المفاهيم للتفكير بالوضع الواقعي، أم من حيث أهمية الواقع باعتباره المادة الملموسة للنظر والفكر. لقد كتب ماركس رأس المال منذ ما يزيد عن القرن. فما الذي كنا لندركه اليوم في مجتمعاتنا لولا عمله هذا! وهو جهد لتفكير مجرَّد وعلمي صعب. لقد كان من الصعوبة بمكان إلى حد أن قادة الحركة العمالية في الأممية الأولى لم يكن بمقدورهم أن يقرؤوا "رأس المال". وإن أكثرية القادة السياسيين لم يقرؤوه بدورهم، واكتفوا بملخصات عنه. وبالرغم من ذلك فإن أهمية هذا العمل نابعة من كونه لا غنى عنه وضروري لمقاربة مجتمعاتنا اليوم. ويأتي تدريسه في الجامعات تلبية لمثل هذه الضرورة. إلا أن تدريس "رأس المال" يبقى ناقصا ما لم يكن مفعما بعقلية الحزب؛ ليس بمعنى الانتماء الحزبي، وإنما من حيث انتماء المدرِّسين من حيث هم مثقَّفون إلى جانب الطبقة العاملة.
الواقع إن التاريخ هو الذي قاد إلى التمييز بين ماركسية تحوَّلت إلى تعاليم أكاديمية، وبين ماركسية بقيت مناضلة من حيث هي نظرية. وكانت الستالينية شاعت في فرنسا خلال فترة معينة، وفي الحزب الشيوعي بوجه خاص. الأمر الذي حوَّل النظرية إلى عقيدة جامدة مقدَّسة، تَحْظُر ليس فقط الفكر النقدي، ومنه ما هو وثيق الصلة بتلك المجالات التي لم تحظَ بدراسة ماركس نفسه، وإنما كانت تَمنع أيضا العلاقة ما بين تفكير يَستند إلى موازين القوى الطبقية وبين العمل السياسي، لا لشيء إلا لأن ذلك كان يتناقض مع سياسة الحزب. ففي بلد مثل فرنسا كان الحزب وحده هو الذي يصوغ الاستراتيجية. لذا فإنه كان يرسم في الوقت نفسه الخط النظري الذي يوافق الإستراتيجية. أي أن الحزب كرَّس النظرية في خدمة السياسة. الأمر الذي كان يعاني منه المثقَّفون الأمرَّين، ما قادهم بالتالي إلى العزوف عن التفكير في العلاقة ما بين الصراع الطبقي والاستراتيجية السياسية، والانصراف عنه إلى البحث النظري والثقافي أكثر منه إلى الممارسة والعلاقة ما بين النظرية والعمل. وعلى هذا النحو حدث الانزلاق إلى ما هو خارج العلاقة ما بين النظرية والممارسة. وغرقت الماركسية في البحث النظري والتعليم الأكاديمي. وفي الوقت نفسه ظهر تباين بين من كان ماركسيا عن الآخر الذي ينتمي إلى الشيوعية. وبناء على ذلك لم يعد من الضروري أن يكون الماركسي شيوعيا. إنها مفارقة، لأن الشيوعية هي هدف الماركسية إن صح التعبير. وهي مفارقة نظراً      لأن أسباب ظهورها لا تعود إلى أفراد بعينهم. إنها درس تاريخي.  والأمثلة في فرنسا كثيرة.
وعل الصعيد البيداغوجي، فإن سؤالك يقودنا إلى تعويل الآمال على البحث النظري النقدي حيث هو يعمل ويُنتِج، في الجامعة أم في الحزب أم المؤسسة التعليمية وغيرها، كي يقود إلى ظهور تشكيلة مناضلة وماركسية ملتزمة بالنضال. بيد أن بيداغوجية الحزب كنائسية تردِّد الطقوس دون مراعاةٍ للمعايير النقدية. وهو الأمر الذي قاد إلى قطيعة بين النظرية والعمل، وبين المثقفين والطبقة العاملة، وبين الماركسية والشيوعية.
 
2/ على مدى خمسين سنة صادر الحزب الشيوعي الماركسية. وكانت لديه عشرات الأجهزة الثقافية والإعلامية وغيرها بما يخوِّله أن يضع يده على الماركسية، مجلاتٍ وصحفٍ ومراكز للدراسات. إلى أن جاءت السبعينات وظهرت مجلة "دياليكتيك" التي كانت أبعد ما تكون عن الماركسية الأكاديمية، بل كانت السلطة المضادة لأجهزة الحزب الثقافية، وتبحث عن بديل للاستراتيجية السياسية، وتجدِّد في مجال العلاقة ما بين الصراع الطبقي والعمل السياسي. وفي هذه الفترة ظهر الكتاب الجماعي الذي ينتقد فيه موقف الحزب من المثقفين، وأنت أحد المساهمين في مقالاته: "افتحوا النافذة يا رفاق". كما ظهر في الوقت نفسه كراسا لويس ألتوسير في المنحى نفسه: "ما لا يجب أن يستمر في الحزب الشيوعي". وهذه المرحلة تتميِّز بأهميتها في تاريخ الماركسية الفرنسية، طالما هي تُعلن عن ظهور ماركسية ثالثة، لا هي ماركسية الحزب، ولاهي ماركسية الجامعات، بالأحرى هي حركة لمثقفين ماركسيين منخرطين في الممارسة.
*** كان ذلك موقف المثقفين النقديين الذين كانوا يُعلنون انتماءهم للماركسية، وكانوا في آن واحد على قطيعة مع الماركسية من حيث هي تعليم فلسفي أكاديمي. كان هؤلاء بمثابة جسم غريب في الجامعات. لقد لقينا حالة من التسامح دون أن نكون جزءاً من التقاليد الجامعية. وكان على المثقفين النقديين أن يتنطعوا لنقد التشكيلة السياسية التي كانت تزعم انتماءها إلى الطبقة العاملة موضِّحين أن سياستها ضلَّت الطريق. ومن هنا يأتي النضال المعارض.
وبهذا المعنى، فإن الماركسية والشيوعية لا تعرفان حالة طلاق، وإنما هي حالة لقاء بين الاثنتين. فالماركسية كَسَرَت تقليدا مثاليا للشيوعية المائعة، الرخوة والمسيحية. فهل ثمة مجال للتعارض بعد ذلك ما بين الاثنتين؟ نعم، طالما حُفِرَ خندق ما بين ممارسات أحزاب كانت تُسمِّي نفسها شيوعية، والشيوعية من حيث هي ابتكار علمي. والواقع إن الشيوعية هي غاية الماركسية. إذ لا وجود لماركسية لا ينتهي بها الطريق إلى الشيوعية.
 
  3/ من أي المصادر يأتي مصطلح المثقَّف النقدي؟
*** يعود في فرنسا مفهوم المثقف الملتزم بالنضال إلى قضية دريفوس. فقد نهض المثقفون من حول "أميل زولا" عندما ظهرت هذه القضية. وتلا ذلك ظهور أناتول فرانس وأندريه جيد، إلخ.. حتى غاية تشكيل الحزب الشيوعي ومعه مثقفَّيه. وثمة تقليد ثقافي يسير في هذا المنحى من التاريخ. بيد أني أعتقد بخلاف ذلك أن مفهوم المثقَّف الملتزم أقدم من ذلك، وهو يعود إلى القرن الثامن عشر. فعندما يقال إن فلسفة الأنوار أعدَّت الطريق أمام الثورة الفرنسية، فإن ذلك يعود بنا إلى الفلاسفة الشجعان الذين كانوا يعارضون الأشكال السائدة للقمع وديمومة السلطة في عصرهم. وما أشبه تدخُّل فولتير في قضية كالاسبتدخُّل زولا في قضية دريفوس. ثم جاء بومارشيه مع شخصية لوفيغارو في الأوبرا التي تحمل الاسم نفسه، والتي كانت عملا ثوريا. ثم ظهر بعد ذلك دولاك، وامتريك، وكوندياك، وهايفيزوس  الذين انتقدوا المجتمع. الأمر الذي كان يقود بدوره إلى ممارسة ثورية. ويمكن العودة إلى القرن السابع عشر، حيث ديكارت وسبينوزا. وهؤلاء أيضا مثقفون نقديون. فإذا كان لن يُعرَف عن ديكارت أنه ملتزم سياسيا، إلا أن موقفه كان معارضاً سياسيا، وقد اضطر إلى الذهاب إلى هولندا، ومنها التجأ إلى السويد. أما سبينوازا فكان ملتزما إلى جانب الديمقراطيين . وتقودنا العودة إلى الوراء بعيدا في التاريخ حتى ينتهي بنا المسار إلى هيراقليط.
 لذا فإننا عندما نريد أن نعطي الماركسية اسما فإن مصطلح "نقدي" يناسبها. إذ أن عبارة "نقدي" غالبا ما تعاود الظهور في أعمال ماركس. فإن هي لم تَظهر في العنوان الرئيس، فإنك تجدها في العنوان الثانوي: نقد الاقتصاد السياسي، مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، نقد النقد، وهكذا دواليك.. ولا يختلف الأمر عند إنجلز عنه عند ماركس. وغني عن القول في هذا المجال أن الموقف النقدي لا يقف عند حد أيا كان هذا الحد. مؤسسة كان أم حزبا شيوعيا. حتى لو كان هذا الحزب منخرطاً في حالات من الصراع الملموسة، فإنه غير مُعفى من النقد.
 
4/ أليس المثقف النقدي تطوراً لمصطلح المثقف الملتزم، بالمعنى الذي كان سارتر يقول به. ألم يأت مصطلح المثقف النقدي ما بعد سارتر؟
*** إن الالتزام يأتي نتيجة للنقد. فالمثقَّف النقدي هو الذي يُدرٍك أنه ملزَم بمغادرة مكتبه للنزول إلى الشارع. إنه على هذا النحو يمارس فعل الالتزام.
5/  هل شاع استخدام مصطلح المثقَّف النقدي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي؟
*** كانوا يقولون المثقَّفون دون أية إضافة أو صفة، كما يبدو لي. وكانوا يردِّدون عبارة "احتجاج المثقَّفين". وفي الحزب الشيوعي شاع استخدام عبارة "المثقَّفين الكبار" للإشارة إلى أراغون, وبيكاسو.
6/  بهذا المعنى، فإن المثقَّف هو بالضرورة يساري، ولا وجود إذن للمثقَّف اليميني.
*** عندما كنَّا نحن نردِّد عبارة "مثقَّفون"، كانت أفكارنا تذهب إلى أميل زولا. ولمثَّقفي اليمين في فرنسا تقليد متين. ومن هؤلاء على سبيل المثال الفيلسوف ريمون آرون ، وهو، وإن كان مثقفا يمينيا، إلا أنه كان يَعْرِف الماركسية حق المعرفة. وعندما كان يتحدَّث في مدرجَّات جامعة الصوربون كان الطلاب المنتمون إلى منظمة الشبان الشيوعيين يلتزمون الصمت. كان أحد نقَّاد الماركسية؛ إلا أنه، بالرغم من ذلك، كان من أوائل المثقَّفين الذين وقَّعوا عريضة ضد الحرب في الجزائر، فقد كان معادياً لها. علما أن اليمين يفتقر للمثقَّفين وإن كان لا يفتقدهم. ومنهم من كانوا ضد الحرب في الجزائر ومؤيِّدين لاستقلالها.
 
7/ ما هي الرسالة التي تستخلصها من معايشتك للأعمال الماركسية من جهة، ومن الماركسية من جهة ثانية، من حيث هي حياتك في الوقت نفسه؟
*** كان الدافع إلى الالتزام في ما يتعلَّق بي شخصيا هو الشعور بالظلم، ليس غير. ويعود تاريخ هذه المشاعر إلى سن مبكرة من الفتوة. وهي ترافق من حيث التوقيت الحرب العالمية الثانية التي كانت قائمة. وقد رأيت بأم عيني الحرب والغارات الجوية فوق المدن والموانىء والمقاومة. وكان الشعور بالظلم في المجتمع يمتزج لدي بالحرب. الظلم المجتمعي الذي يَسد منافذ الحياة أمام العمال بوجه خاص. وكان أبي عاملا. وكنت أعاني من الشروط الحياتية القاسية للعمال. وارتبط لدي الشعور بالظلم المجتمعي بإرادة الالتزام في النضال ضد النظام السائد، أو بعبارة أخرى ضد المجتمع الذي يمارس القمع. ما حملني على الالتزام. ثم أخذ التزامي مسارين اثنين، أحدهما نظري، وهو الذي قادني إلى الجامعة، والعمل على الماركسية من حيث هي نظرية وتاريخ. والمسار الثاني نضالي، وقد عبَّر عن نفسه من خلال التزامي إلى جانب قوى الحركة الشيوعية، والالتزام بالقضايا الدولية كلها، ومنها بوجه خاص القضايا التي عايشتها في مطلع سنوات التزامي، والتي تبدأ بمعاداتي للحرب في الهند الصينية، إلى مناهضة الحرب الجزائرية، والتضامن مع مناضلي الجزائر والهند الصينية، ثم التزامي بالقضية الفلسطينية، إلى جانب قضايا كثيرة غيرها.
 
8/ ماهي الخلاصة المكثَّفة التي تُستخلص برأيك من الماركسية؟
 *** ثمة أجوبة كثيرة على هذا السؤال. وعلى سبيل التبسيط، وعملا بالأسلوب المباشر في التوضيح، فإني أقول إن ما قام به ماركس من تحليل للمجتمع الحديث الرأسمالي هو محصِّلة علمية. وهذه المحصِّلة تكشف عن العامل المقرّر أو المحدِّد لغيره في المجتمع الرأسمالي. وهي ما تزال تحتفظ بمصداقيتها حتى اليوم. ومن اليسر بمكان أن يُفَنَّد الرأي القائل إن الماركسية حصيلة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إذ أن الماركسية في عهد العولمة تُبيِّن مدى عمق المفاهيم التي كان ماركس أتى بها في عمله "رأس المال". وكان ماركس منذ "البيان الشيوعي" يقول: إن الميل الطبيعي لرأس المال وماهيته تكمن في نزوعه نحو الانتقال إلى مرحلة العولمة. وكان ينظر إلى هذا الانتقال من حيث هو أفق المستقبل. ونحن اليوم موجودون في خضم عولمة رأس المال. والماركسية بالتالي تعالج أشكال الاستغلال والتراكم والبحث المستمر عن الربح، وتدمير كل ما يشكل مرجعاً أخلاقياً أو معنوياً وإنسانياً، واحتراماً لحياة الآخر، واحتراماً للكرامة. وهو نفسه الذي يبيِّن أيضا ضرورة الالتزام بالنضال وينادي به. صحيح أنه لم يضع برنامجا سياسيا. إلا أنه قال إن الالتزام بكل أشكال النضال ضروري. أي أن "دعم كل حركة ثورية ضد النظام البورجوازي السائد ضروري"، وذلك على نحو ما جاء في الجملة الأخيرة للبيان الشيوعي. ذلك هو الدرس الذي يتركه ماركس.
 
                 ثالثا: الماركسية من حيث هي علم:
                       موضوعه التاريخ، منهجه مُبتكر دوما، مصدره متجدِّد
                                والمرجعية العلمية ليست ثقافية.
 
1/ أعود مرة ثانية إلى افتقاد الماركسية لنظرية في المعرفة. هذه المعرفة تقوم على أسس من جدل الممارسة والفكر حسب الماركسيين. وأنت قلت آنفا إن الستالينية حكمت على النظرية بالجمود ما إن فَصَلَت، ما بين الممارسة والاجتهاد في موازين القوى والصراع الطبقي وبين الفكر الذي كان حكرا على قيادة الحزب وحده. وهذا هو مثال واحد من الأمثلة التي تدلل بان العلاقة ما بين النظرية والعمل إذ هي مصدر المعرفة فإنها في الوقت نفسه تظهر من حيث هي إشكالية طالما تَحْتَمِل هذه العلاقة حالات كثيرة من الاجتهادات. وإحداها تلغي الثانية، في البلد الواحد باختلاف الاجتهادات، كما ما بين البلدان باختلاف الخصوصيات. الأمر الذي يقودنا إلى صعوبة في التوحيد، ويَنْصُب العقبات أمام عمل الأممية. وتوجد في مقال "أزمة الماركسية" في المعجم النقدي للماركسية إشارة إلى أن أزمة الماركسية وُلدت مع نشوء الماركسية لافتقارها إلى الأبستمولوجيا. إذ أن جدل النظر والعمل يَذهب إلى نظريات وممارسات لا حصر لها. وهنا تكمن الأزمة في الماركسية والتي لم تبارحها منذ اليوم الأول لولادتها.
*** نعم، أنت على حق، فمصطلح الأبستمولوجيا ليس مناسباً للماركسية. وصحيح أيضا أن أبستمولوجيا ما موجودة في أعمال ماركس. فهي التي تقوم بالكشف عن المبادئ التي تَحكم النظرية، مبادئ علمية تضيء هذه النظرية العلمية. ثمة أبستمولوجيا ماركسية كما توجد أبستمولوجيا لدى كانط. وهي لدى ماركس نظرية المعرفة العلمية للتاريخ والعالم من حيث هي مادة ذات قوانين. وبالرغم من ذلك فإن نظرية المعرفة في أعمال ماركس ليست عاملا محدِّدا أو مقرِّرا لسواه. ويحسن بنا أن نتذَّكر أن الماركسية تريد لنفسها أن تكون علما. والأمر هنا لا يخلو من تعقيد ما. لأن نقد الاقتصاد السياسي، ونقد رأس المال، هو عمل علمي بالمعنى الذي يقول به ماركس. أي أننا عندما نصل نحن إلى المعرفة العلمية بالتاريخ، فإن علما واحدا يبقى، وهو يشمل سواه من العلوم كلها، وهو ما يُطلق عليه تسمية "المادية التاريخية"، أي علم التاريخ. إلا أن هذا العلم ليس مبنيا كما تُبنى علوم الرياضيات. إذ أن موضوع المعرفة هنا هو مجال العلوم الإنسانية. وما يؤسِّس للانشقاق هنا ما بين التاريخ كما يدرسه ماركس وبين التاريخ بمعناه التقليدي، هو أن هذا الأخير غائي. إنه تاريخ الأفكار وكبار الرجال، إلا أنه لا يُعنى بالتاريخ المادي، أي التاريخ الذي يَستَند إلى الشروط الموضوعية التي ترافق إنتاج الإنسان لوجوده، وإعادة إنتاجه لهذا الوجود. هذا هو الفارق.
 وانطلاقا من هذه النقطة ظَهَرَت محاولة مع الأممية الثانية، وعلى غرار ما فعل كاوتسكي، محاولة تريد أن تجعل من الماركسية علماً على غرار العلوم التجريبية والطبيعة والرياضيات. وهذه هي الستالينية بعينها. أي أن الستالينية علم، وإن العارف بهذا العلم ليس عالما، بمعنى انه بحَّاثة في مركز للبحث العلمي، وإنما هو سياسي، وذلك على غرار السكرتير العام للحزب الذي يمتلك العلم في مجالات الاستراتيجية، والألسنية، والقوميات، إلخ..الخ. وهذا يقود نا إلى حالة من الزيغ. ذلك أن هذا العلم لا صلة له بالمشروع العلمي كما جاء في أعمال ماركس.
أما في ما يتعلق بأزمة الماركسية فإنها إحدى وظائف الماركسية. فمن طبيعة الماركسية أن الأزمة أداة ووظيفة لها. فإذا كان ثمة أزمة ماركسية، فإن هذا لا يعني أن الماركسية في أزمة كلما ظَهَرَت صعوبات، وكانت هذه الصعوبات تحتاج إلى النقد. إن الماركسية تعاملت دوما مع أزمتها الوظائفية هذه عبر تاريخها. وهذا هو ما يقصده المعجم النقدي للماركسية. ففي حياة ماركس كان ثمة أزمة ماركسية، وكانت الأزمة في حينه نَاتجة عن مصطلح الماركسية نفسها. ثم تتالت سلسلة من الأزمات، وهي تدلِّل بأن الماركسية ليست أفكارا فلسفية مسلوخة عن الواقع، وعلى قطيعة معه، إنما هي تريد لنفسها أن تكون منخرطة في تناقضات تاريخية، وفي إطار هذه التناقضات تظهر دوما أزمات، والماركسية هي انعكاس للأزمات هذه.
 
2/ إذا كانت الماركسية علماً، فإن هذا يقودنا إلى استنتاجٍ مؤدَّاه أن الماركسية منهج، وهذا يقود بدوره إلى انحراف منهجي للماركسية مشابه للانحراف الفلسفي والمنطقي، إلخ.
**  إن التمييز ما بين العلم والمنهج مصدر للخديعة، أو إنه يَخدَع. ذلك أن كل علم يَستند إلى منهج. بيد أن الماركسية عَرفت انحرافا منهجيا على يد كاوتسكي في البداية، ومن ثم ستالين. فالمنهج من حيث علاقته بالعلم حسب المفهوم الستاليني، أي العلموية، أصبح هنا مجرد مسار تقني جاهز للتطبيق. فأنا – على سبيل المثال – أملك المفاهيم، وأنا أعرف ما هو الوضع، وإليكم الوصفات للخروج من الوضع. والثورة – حسب هذا التشويه المنهجي للماركسية – هي إعادة ما كان البلاشفة أنجزوه في العام 1917. إنها بالمفهوم الستاليني تطبيق منهجي أو تطبيق بموجب المنهج. علما أن التطبيق من وجهة نظر ماركسيةٍ مفهوم ٌشاذ، ضال وزائغ بصورة كاملة، لأن مفاهيم الماركسية متأتية من التاريخ، وهو مصدرها. المفاهيم وليدة التاريخ. فديكتاتورية البروليتاريا من حيث جانبها النظري، لم يَبحث عنه ماركس في التأملات الفلسفية، وإنما وجدها في كومونة باريس.
وإذا ما أدركنا أن العلم من حيث هو مسعى نقدي من قِبَل ماركس، فإن إنتاج المنهج مستمر، دائم ومُبتَكَر. وإن مفهوماً للمنهج كهذا، من حيث كونه متجدِّداً بصورة مستديمة، يختلف بصورة جوهرية عن التصور العلموي الستاليني للماركسية.
 
3/ ماهي مصادر الماركسية؟ الصراع الطبقي في فرنسا، والترودونيونات أو المنظَّمات العمالية في بريطانيا، والحركة العمالية في ألمانيا؟ أم هي الاقتصاد السياسي، والفلسفة الألمانية، والاشتراكية الفرنسية؟ 
*** المصدران صحيحان ومتقاطعان. فمرجع الاشتراكية في فرنسا هو الصراع الطبقي، بمعنى أن الصراع الطبقي في فرنسا كما يقول ماركس يستمر حتى النهاية. وكي يَفهم ماركس الصراع الطبقي، فإنه يخرج من ألمانيا ويذهب إلى فرنسا، حيث الصراع الطبقي والاشتراكية الفرنسية. والاقتصاد السياسي هو بريطانيا بالقوة، لأنها أول بلد عَرِف تطورا اقتصاديا صناعيا بوجه خاص، وما رافق ذلك من تغيُّرات وبنى سياسية. والدياليكتيك في الفلسفة الألمانية متأتٍ من هيجل. والواقع أن المصادر الثلاثة للماركسية هي التي تحدَّث عنها لينين، وهي المتداولة. وهي ذات استخدام بيداغوجي. وهذا هو معناها. إنها بيداغوجية في المقام الأول. والغرض هو تبيان أن الماركسية أَخذت ما هو أكثر تقدما في ثلاثة ميادين، كانت هي بدورها الأكثر تقدُّما في عصرها. بمعنى أن الاقتصاد السياسي ما كان له أن يكون تركيا، والصراع الطبقي بوليفيا.
إن مصادر الماركسية ليست مصدرا واحدا، كالنبع الذي يُفَجِّر نهرا. وإنما هي مصادر مستديمة تغذي الماركسية. ويمكننا القول إن العولمة هي اليوم– بمعنى ما – أحد مصادر الماركسية. لأننا انطلاقا من العولمة نعود لنفكِّر مجددا ومحدثا بالماركسية، وبالصراع، بل إننا نعيد أيضا النظر ببعض أطروحات ماركس، ومنها على سبيل المثال مفهوم البروليتاريا الذي لم يعد يَحمِل المعنى نفسه الذي كان لدى ماركس. إذ لا بد من توسيعه إلى شرائح مجتمعية لم تكن بروليتارية في الماضي، وإلى سكان وأهالي مثل الفلاحين، في كونهم مسيطَر عليهم.
4/ إن الخروج من الفلسفة إلى التاريخ والصراع الطبقي والعلم كما تبيِّن أنت في عملك "الوضع الماركسي للفلسفة" لدى ماركس لم يأت بطبيعة الأمر عن هيجل، بل كان نتاجاً للصراع الطبقي في فرنسا. وأنت في هذه الصدد تعتمد على عبارة "المخرج" Ausgang من الفلسفة ومن ألمانيا إلى التاريخ والصراع الطبقي، التي تتردَّد في الأيديولوجيا الألمانية. هذا المخرج من الفلسفة حسب ما جاء في أعمالك يعنى أن الصراع الطبقي الذي اجتاح أوروبا في القرن التاسع عشر هو الذي أنتج الماركسية. إنها نتاج المخرج من الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي والاشتراكية الفرنسية. فهي ليست بهذا المعنى نتاج للمصادر الكلاسيكية الثلاث التي تحدَّث عنها لينين. وبهذا المعنى فإن لينين يخطىء بيداغوجيا عندما يتحدَّث عن المصادر الثلاثة لأن مصادره هذه ثقافية، أي أنه يوغل في الستالينية طالما هو يوغِل في تقليد مثالي للماركسية. وهو الأمر الذي يحمل بعض الماركسيين أو كثرٌ منهم على الاعتقاد بأن الماركسية نتاج تركيب للمراجع الثقافية إياها، 
***   إن هذه الصيغة للينين بيداغوجية، لأن ما بعد هذه الصيغة يأتي التركيب بين المصادر الثلاثة. وهذا التركيب يعطينا ما هو أصيل لدى ماركس، وحينئذ فإننا نغادر المصادر الثلاثة التي يتحدَّث عنها لينين نحو شيء آخر مخالف هو الصراع الطبقي بكل توكيد.
  5/  إن المصادر الثلاثة لا تُفضي بالضرورة إلى تركيب ما هو أصيل لدى ماركس، أي الصراع الطبقي، وإنما إلى ما هو مثالي لدى ستالين.
*** هذا صحيح إذا ما أخذنا المصادر الثلاثة من حيث هي مرجعيات ثقافية فقط. إلا أنها ليست كذلك.
 
                                                 رابعا: الماركسية علم أم فلسفة 
                                                         لابيكا وألتوسير:               
 المَخرَج أم القطيعة مع                                                                                            الفلسفة؟
                                
1/ فلسفة ماركسية، أم علم ماركسي؟
*** إن مصطلح "الفلسفة الماركسية" مرفوض من الناحية النظرية، وهو لا يَصمد أمام تفنيده ونقده. ذلك أن الأطروحة الحادية عشرة لفويرباخ تقول إن تغيير العالم م لازم، وليس تفسيره فلسفيا. لذا، فإن الماركسية خرجت من نطاق الفلسفة. وقد حاول العديد من منظِّري الماركسية أن يَستبدلوا مصطلح الفلسفة بمصطلحات غيرها، كالعلم، والفلسفة العلمية، ونظرية النظرية، أو فلسفة البراكسيس كما يقول غرامشي، إلخ..إلخ.
إذن فإن مصطلح الفلسفة الماركسية مشكوك فيه من الناحية النظرية. وما دمنا بصدد الحديث عن محاولات قام بها المنظِّرون الماركسيون لاستبدال مصطلح الفلسفة بآخر غيره، بنجاح ضئيل أو عظيم، فإن أهم بديل لمصطلح الفلسفة الماركسية في ما كان يسمِّيه أنطونيو لابريولا  ب/"الشيوعية النقدية". وهذه التسمية تلقى قبولا أكثر من غيرها، طالما كانت الشيوعية مفهوماً قديماً، إلا أن عبارة "النقدي" تعني أن ماركس جاء إلى الشيوعية التاريخية بعدما خلَّصها من الدين والميتافيزيقا والطوباوية المثالية.
وأما أنا فإني أقبل لنفسي بمصطلح "فيلسوف ماركسي" لاعتبارات تتعلق أولا بالصدق والأمانة. إن صفة الفيلسوف، أو أن ينعت الفيلسوف نفسه بهذه الصفة دون مضافٍ إليه، فيلسوف مثالي، فيلسوف مادي، إلخ، على غرار ما هو شائع في أوساط الإعلام من حولنا، حيث يُستخدم تعبير فيلسوف للتعريف بعدد من نجوم الثقافة ذائعي الصيت، إنما هو تعبير عن اغتصاب للفكر، والتطاول عليه من قِبَل وسائط الإعلام. إذ أن الرأي العام منذ ما قبل الميلاد كان يَعرف أن الفيلسوف يُمَثِّل الإنسان الحكيم الذي يَحمِل الحكمة إلى المجتمع. فإذا ما نَعَت الفيلسوف نفسه بهذه الصفة فلأن الفلسفة والحكمة رديفان. بيد أن تقديم الفيلسوف لنفسه أمام المجتمع باعتباره فيلسوفا فحسب دون مضافٍ إليه، فإن الأمر ينطوي على اغتصاب للحقيقة وتطاول عليها، ويفتقر أيضا إلى الصدق والأمانة. لأن الأمانة والشرف تستدعي أن يضاف نعت فيلسوف مثالي، فيلسوف مادي، أيديولوجي، إلخ. ولما كانت هذه الأمانة معدومة، فإني لا أرى مانعا أن أصف نفسي بفيلسوف ماركسي. وهكذا فإن الناس تَعرِف بعد ذلك مع من هي تتعامل.
 
2/ أي حيُّز أنت تشغل في الماركسية الفرنسية والعالمية؟
*** باختصار أنا غير معني كثيرا بالسؤال. أنظر مثلا إلى مقال أندريه توزيل André Tosel في معجم الفلاسفة  Dictionnaire des philosophes حيث يَكتب إني أحد الفلاسفة الذين يندر أن تجد من أمثالهم، فهو (جورج لابيكا) يُعلن عن انتمائه للينين. وهو (لابيكا) يفعل ذلك بطريقة نقدية. إن هذا التعريف يناسبني.
وفي ما يتعلق بما أشغله من حيِّز في التقليد الماركسي الفرنسي فإني بالفعل لازمت طوال حياتي اللينينية النقدية. لذا، فإن كنت قريبا من بعض التيارات، كهنري لوفيفر، ولويس ألتوسير، ومكسيم رودنسن، وفيكتور لودوك  Victor Leduc، فإنني لم أنتم إلى أية مدرسة أو ما شابه ذلك. ولم يَخرج انتمائي للحزب الشيوعي عن هذا المسار. فأنا كنت مرتبطا بالحزب الشيوعي بمقدار ما كان مرتبطا بلينين. واللينينية كما أفهمها أنا هي الثورة. وكنت ناضلت في الحزب الشيوعي. ولما كان الحزب قد تخلَّى رويدا رويدا عن اللينينية فإني انتقدت الحزب على غرار ما فعل لويس ألتوسير وإتيين باليبار وآخرون، ثم انسحبتُ من الحزب كي أبقى لينينيا. وأنا واضح من حيث قطيعتي مع الإصلاحية، أو الأفكار التي تخلَّت عن الاستيلاء على السلطة.
3/ عندما وَجَّهت إليك سؤالاً حول ما إذا كانت تسمية "فيلسوف ماركسي" تصح للتعريف بمن يَعمل في مجال الماركسية، فإني كنت أفكِّر بالسؤال الذي كان وُجِّه إلى إنجلز لمعرفة كيف يُعرِّف أعمال ماركس وإنجلز. وكان قَدَّم جوابا عن هذا السؤال تعريفا ثلاثيا: نقد الاقتصاد السياسي، والصراع الطبقي، والاشتراكية العلمية. فالأجوبة إذن بعيدة عن الفلسفة. بيد أن مصطلح الفلسفة الماركسية، مع ذلك، هو الشائع أكثر من غيره.
*** عندما سئل إنجلز عما تعنيه عبارة "الماركسية"، كان يرى أمامه، من جهة، أولئك الذين ينتقدون ماركس ويعطون الماركسية معنى قدحيا. ولما كان يرى، من جهة ثانية، أن الاشتراكية العلمية شأنها شأن أي علم لا يحمل اسم مؤسِّسه، فالفيزياء ليست الأنشتانيانية، والنسبية من اكتشاف أينشتاين إلا أنها لا تحمل اسم انشتاين، وإنما هي النسبية فحسب، فإنه لم يسمِّ أعماله وأعمال ماركس بالماركسية أو الإنجلزية. بيد أن إنجلز كان يُدرك في الوقت نفسه أن التجديد الذي يأتي مع أعمال ماركس وما حملته إلى العالم يُلزِم بإطلاق تسمية الماركسية على أعماله.
والحال أن مصطلح نقد الاقتصاد السياسي للتعريف بأعمال ماركس وإنجلز، وذلك في إشارة بوجه خاص إلى "رأس المال" بدل مصطلح الماركسية، يُفتَرِض أن هذا النقد يأتي من خارج الاقتصاد السياسي، ليس من داخله. وهو الأمر الذي يَفتَرض بالتالي أن النقد يأتي من العلم، من صيغة جديدة جاءت بها أعمال ماركس وإنجلز. وكان ماركس امتنع عن إطلاق أية تسمية على أعماله. الأمر الذي يقودنا إلى البحث مع إنجلز عن تسمية، وهذه التسمية تقودنا بدورها إلى المادية التاريخية، والاشتراكية العلمية، والصراع الطبقي.
أثناء المرحلة الستالينية في الاتحاد السوفياتي ظَهَرَ مصطلح "الفلسفة العلمية". وكان أنطونيو لابريولا يصف هذه الماركسية بأنها مسخ شاذ. فالمصطلح يتناقض من حيث عباراته مع نفسه. إذ أن الفلسفة ما كان لها أن تكون يوما ما علما. والعلم بدوره ما كان له أن يكون يوما ما فلسفة. وللخروج من المأزق غمزوا قائلين إن الماركسية فلسفة، إلا أنها فلسفة علمية. وكان هذا التناقض يَحمِل معه تناقضات كثيرة غيرها.
 
4/  لا مناص إذن من الفلسفة، فما هو رأي الماركسية والماركسيين؟
*** هذا المَخَرَج من الفلسفة في أعمال ماركس يقينٌ لا يتسلَّل إليه أي شك. إلا أن أمرين اثنين يحيط ان بهما الشكوك مع ذلك، ويستحقَّان منا التفكير. الأول هو أن ماركس، وإن كان يَخرج من الفلسفة وينتقدها، إلا أنه لم يُعرِّف نفسه بنفسه في ما يتعلق بالمجال المعرفي الذي ينتمي إليه. أهو عالم تاريخي، أم اقتصادي، أم عالم اجتماع. إنه ليس أيا من هؤلاء على حدة. والدليل على ذلك هو أن الجامعات، في فرنسا بوجه خاص، إذ هي ترفض تدريس ماركس في برامجها لأسباب سياسية صريحة وواضحة للعيان، إلا أنها تتذرع بأسباب تتعلق بالاختصاصات العلمية والتربوية. فالفلاسفة يرفضون تدريسه بحجة أنه علم اقتصاد، وهو برأيهم ليس فيلسوفا وإن كان من نقاد الفلسفة. ويّذهب علماء الاجتماع في منحى مماثل بحجة أنه اقتصادي وليس عالم اجتماع، وهكذا دواليك، فكل الاختصاصات تحيِّد به جانبا. وإذا ما نظرنا إلى الجامعات الفرنسية، فإن ماركس يأخذ حيِّزا ضئيلا تارة في قسم التاريخ، وتارة في قسم علم الاجتماع. وهذا كله يعود بنا إلى ماركس نفسه الذي لم يحدِّد في تعريفه بنفسه حدَّا يُرجَع إليه. ولذا فإن إنجلز يأخذ أحيانا بمصطلح الماركسية كحدِّ علمي للتعريف.
وأما المصدر الثاني للشكوك، فقد أوضحه لوسيان غولدمان  مطولا، وأنا متَّفق معه. فلقد لمس غولدمان أمرا هاما عندما تحدَّث في أعماله عما أسماه "فلسفة ماركس". وهو لم يَنفرد عن غيره في ذلك، إلا أن غولدمان لم يَذهب في الحديث عن فلسفة ماركس إلى التدليل على المصطلح بالإسناد إلى هذا النص أو  ذاك.  كلا.  إنه يقول: إن لدى ماركس فلسفة.
ويذهب غرامشي في المنحى نفسه عندما يقول إن كل إنسان فيلسوف. أي أن لكل إنسان فلسفته الخاصة به. فأنتَ فيلسوف وإن لم تكن خريجا من كلية الآداب، قسم الفلسفة. أي أن لديك حالات من اليقين والاعتقاد، وأنتَ تَمنَح قيمة ما لأفعالك خلال حياتك. فأنت إذن تَحمل بالقوة فلسفة ما.
بهذا المعنى تتضمن أعمال ماركس فلسفة ما. فإذا أَخذت مسألة المذهب الإنساني humanisme، على سبيل المثال، فإن مَن يَحمِل فلسفة ما يكون لديه بالضرورة موقف ما من المذهب الإنساني. فهل يُعتَبَر ماركس إنسانيا أم لا؟ فإذا لم يكن إنسانيا أتراه معادٍ  للمذهب  الإنساني؟  معادٍ بمعنى  النقيض  للإنساني حسب  ما  يذهب  إليه  ألتوسير. إن هذا النمط من الأسئلة يُشبه في نهاية المطاف التساؤل عن جنس الملائكة، أهي ذكر أم أُنثى. وبالرغم من ذلك فإن هذه الأسئلة تستند إلى قواعد لها في الواقع. أنا شخصيا فوجئت أمام انعقاد المؤتمر الثاني للفلسفة في عاصمة فنزويلا كاراكاس في مطلع فصل الخريف من العام الحالي 2007 الذي عَقَدَ أعماله تحت عنوان "الإنسانوية الماركسية" (المذهب الإنساني في الماركسية).
هذا المؤتمر ينعقد بدعوة من شبكة الدفاع عن الإنسانية ٌRed En  Defensa de la Humanidad ولقد عثرتُ في عدد من أعمال هذا المؤتمر على أثر لما يُعرف ب"إشكالية ألتوسير" التي تحدَّثنا عنها آنفا، ألا وهي الماركسية من حيث هي إنسانية أم نقيض للإنسانية. أي أننا بعد مرور خمسين سنة على إثارة ألتوسير للسؤال، ما زلنا هنا نراوح في مكاننا. أنا غير معني لا من قريب ولا من بعيد بصياغة للنظريات كهذه، إلا أنني اعترف أن الإشكالية ما تزال ماثلة أمامنا بصورة مستديمة.
5/  ما الذي يتبقى على أرض الواقع من هذه الإشكالية. 
*** القواعد الواقعية للسؤال. وأعني بذلك فلسفة ماركس الشخصية وليس بالمعنى المهنى الأكاديمي للمصطلح، وإنما الإنسان، كل إنسان يَحمل فلسفته الشخصية. ها هنا يأتي بالفعل السؤال حول الإنسانونية (المذهب الإنساني). ثمة نصوص تؤكِّد إنسانونية ماركس، وأخرى تنفيها. وثمة في هذا المعرض من التفكير أسئلة غيرها أكثر بساطة من الإنسانوية، وهي تدور حول ماركس من حيث هو فرد، وأب لأسرة، ومواطن يقطن في هذه الدار بعينها وليس سواها، وفي ظروف وشروط محدَّدة، ويعاني من مشكلات مالية. ما هي فلسفته حيال هذه الأوضاع وإزاء المواقف الحياتية؟ كان ماركس في فلسفته الشخصية من حيث هو فرد ذكوريا. صحيح أنه كان يقرأ شارل فوريِّهCharles Fourier  ، ويردِّد معه أن الشرط الضروري لتحرير الإنسان هو تحرير المرأة، إلا أنه في حياته كفرد كان ذكوريا. ففيما يتعلق بحياته الاجتماعية، وبوجه خاص مع بناته، ومنهن لورا، كان يمارس سلطة أبريسية. وهي علاقات بورجوازية. وكان يَحمل أفكارا بورجوازية في ما يتعلق بالعلاقات الإنسانية. وللتدليل على ذلك فإن كل البراهين متوفرة. إنه تَحَقَّق بكل الوسائل الممكنة عن شخصية بول لافارغ قبل أن يوافق على زواجه من ابنته لورا. كان يريد أن يعرف ما إذا كان لافارغ مجتهدا في تحصيله العلمي بكلية الطب، وما إذا كانت أسرة هذا الأخير في جزر الأنتي الفرنسية تملك بيديها ما يكفي من المال لتقديم مهر الزواج لابنته. كان ماركس وزوجته يرفضان بصورة مستديمة استقبال إنجلز ورفيقة حياته على مائدتهما لأن هذه الأخيرة كانت عاملة من جهة، ولأنها ليست زوجة إنجلز الشرعية، من جهة ثانية. علما أن ماركس كان يعيش من الأموال التي كانت تأتيه من إنجلز. وكان إنجلز كتب لماركس بمناسبة وفاة رفيقته معاتبا لأنه لم يُعبَّر له عن عزائه بوفاتها. نعم، لم يَكتب ماركس كلمة واحدة.. علما أن إنجلز كان شديد التعلق برفيقة حياته. فعلى هذا الصعيد من علاقات الحب، عاش إنجلز ثوريا، فيما عاش ماركس بورجوازيا. ماركس أَولَد خادمته طفلا، لكنه أنكر أبوته له، وترك الأمر لإنجلز الذي اعترف به طفلا شرعيا له، وزعم أنه هو الذي عاشر الخادمة. لقد انتهى به الأمر إلى الاعتراف بالوليد تحت إلحاح ماركس وزوجته. بهذا المعنى أقول إن ماركس يَحمل كفرد فلسفة ما في الحياة. وأنا شخصيا عندما أتساءل عما إذا كان لي أن أختار فيلسوفا ما صديقا لي في الحياة، فإني أُجيب بأن صديقي هو إنجلز، وليس ماركس المُزعِج والمَضجِر.
 
6/ وكان إنجلز كريما.
*** بالفعل، عندما كان ماركس مريضا فإن إنجلز هو الذي تكفَّل بنفقات إقامة ماركس في الجزائر طلبا للشمس والاستشفاء. بل كان إنجلز يُرسل له زجاجات الخمر الأبيض من إنتاج إقليم بوردو الفرنسي تودُّدا إليه وتقرُّبا منه.
 
     خامساً: الـوضــع المـاركســـي للفـلســــفـة:
               الفـلـســــفـة إيـديـولــوجـــية بـالـتربــيع                       
 
1/ لقد عُنيتَ أنتَ بالوضع الماركسي للفلسفة، أو ما آلت إليه الفلسفة في أعمال ماركس، وذلك على نحو ما يَتبيَّن بوجه خاص في عملك "الوضع الماركسي للفلسفة". ما هي القراءة الجديدة التي أَتيتَ بها لأعمال ماركس وإنجلز في ضوء رؤيتك للوضع الماركسي للفلسفة؟ أنت تقول إن الماركسية خَرَجَت من الفلسفة، عنها وعليها. فهي قَفَزَت من الفلسفة الألمانية إلى العلم، وعلم التاريخ بوجه خاص.
*** أنا فيلسوف من حيث تأهيلي الدراسي. و"الوضع الماركسي للفلسفة" أُطروحة تقدّمتُ بها لنيل درجة دكتور دولة في الفلسفة في العام 1976. وأنا كنت في الماضي فيلسوفا مضطربا لأن الأطروحة الحادية عشرة لفويرباخ كانت تسكنني وتؤرِّقني. وهي القائلة: إن الفلاسفة لم يفعلوا حتى اليوم سوى تفسير العالم، بيد أن الأمر يقتضي تغييره. فإذا كانت الفلسفة تفسِّر العالم، وكنت أنا أُغيِّرُه، فإن صفة الفيلسوف تنتفي بالتالي عني. الأمر الذي حملني على البحث عن أفكار ماركس حول الفلسفة. وقد توصَّلت إلى نتيجة مؤداها أن الماركسية من حيث تعريفها هي بمثابة مَخرَج من الفلسفة، وبالألمانية كما يقول ماركس في الأيديولوجيا الألمانية  Aus gang.
إن هذه العبارة التي نجدها في كل مكان تقريبا، في محطات القطار والمطارات والسينما وغيرها، تَظهَر في أعمال إنجلز، وبوجه خاص في عمله "نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية". وهو عبارة عن مجموعة مقالات كان إنجلز نشرها في المجلة التي كان كاوتسكي يترأس تحريرها،Die Neue Zeit. وذلك لتفسير الماركسية وتوضيحها. وكان العديد من العمال والمثقّفين يلتحقون بالماركسية في تلك الفترة دون أن يَعرفوا على وجه الدقة ما هي الماركسية. وكان إنجلز يريد من وراء عمله هذا أن يَشرح لهم ما هي الماركسية بالعودة إلى تاريخها ومسارها التاريخي، وقد أَدرَج ماركس في تاريخ الفكر الألماني. إن ما يُطلق عليه إنجلز تسمية "نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" هو الترجمة الفرنسية للعبارة الألمانية Aus gang، أي المَخْرَج. فماركس هو الذي خَرَج من الفلسفة الألمانية إلى ما هو خارج الفلسفة. والنصوص التي تشير إلى هذا المَخْرَج كثيرة، وتشير في الوقت نفسه إلى أن ماركس يرفض أن يُوصَف بالفيلسوف. ففي الأيديولوجيا الألمانية يقول ماركس "إن الفلسفة بالنسبة للتاريخ هي كجلد عميرة بالنسبة للحب الحقيقي".
لقد رَفَض ماركس أن يُوصَف بالفيلسوف لأن الفلسفة الألمانية التي كانت بَلَغَت أوجها مع هيجل لم تعد مؤهَّلة لبناء أنظمة فلسفية، ولم يبق بعدها أي متِّسِع لفلاسفة جدد.
وكان ماركس في حينه يرتاد أوساط الهيجليين الشبان الذي كانوا يُشكِّكون بالاشتراكية. وقد رفض هؤلاء كما رَفَض الفلسفة في آن معا. حتى فويرباخ الذي كان برأي ماركس أقرب ما يكون إلى الفكر النقدي العلمي طالما هو مادي، فإن فويرباخ كان برأي ماركس مغرقا في الفلسفة. وماركس يقول عن فويرباخ ما يلي: إن فويرباخ عندما يرى الحديقة فإنه يفكِّر بعمل الطبيعة، وعندما يرى شجرة فإنه يقول يالها من شجرة جميلة، إلا أن تفكيره لا يذهب إلى القول إن الشجرة مثمرة للكرز، وإننا نأكلها، وإن خشب شجرة الكرز يُفيد في صنع الألواح والمقاعد والكراسي، إلخ.
2/ لقد جاءت أجيال متعاقبة إلى الماركسية عبر تدريس الفلسفة في  الجامعات. وعايشت أيضا هذه الأجيال نمطا من الماركسية كان يزعم أن بحوزته أجوبة على كل الأسئلة. إلى أن جاء جيل من الماركسيين يضع الماركسية خارج الفلسفة. وبالرغم من ذلك، فإن الماركسية ليست معزولة خلال العقود الأخيرة عن التدريس الجامعي، وهي وليدة الممارسات المجتمعية والسياسية والثقافية والنظرية، وليس الصراع الطبقي وحده. الأمر الذي يضع بصورة متجددة علاقتها بالفلسفة موضع سؤال وبحث.
***  المادية التاريخية ليست فلسفة، ليست فلسفة بديلة عن الفلسفة النظرية التأملية. وهذا هو الموضوع الرئيس ل"الوضع الماركسي للفلسفة". وفي ما يتعلق بالجامعة كمصدر لنشر الماركسية، فأنا غير راض بصورة عميقة أمام الفلسفة الجامعية، وهي متغطرسة بصورة مائعة. وهذا ناتج عن كونها غير كافية، وهي مصدر لوعي غامض. وبالمقابل، فإن الماركسية من جهتها تُصَرِّف كل الفلسفات في السياسة والممارسة النضالية. وعندما أصبحت الماركسية بفعل التحريف فلسفة، كانت "قوانين" الدياليكتيك تجيب على الأسئلة كلها، بما في ذلك أسئلة يوجِّها الفيلسوف الألماني كانط وبابا الفاتيكان. ذلك أن سوء الطوية حالة كامنة بصورة مستديمة. والمشكلة هي أن الفلسفة لم تنته بالرغم من أن المادية التاريخية تسجِّل خروجا قاطعا وحاسما من الفلسفة، وأن الفلسفة ابتلعت الماركسية وجعلت منها فلسفة. وبالرغم من أن إنجلز يُخْرِج الماركسية من الفلسفة إلا أن مثل هذا المَخرَج لم يتحول إلى مكسب بصورة نهائية.
إن نتائج النقد الماركسي للفلسفة لم تُسْتَخْلَص بصورة كاملة. بل وأن هذا النقد لم يُكْشَف عنه بصورة كافية وصريحة. وهو الأمر الذي حملني على إنجاز "الوضع الماركسي للفلسفة".
ومن غير المؤكد أن الماركسية تنبثق من خلال وضمن مختلف أنماط الممارسات، بما في ذلك الجامعية منها، حتى وإن كان المقصود بالممارسات هنا حالة من الهيمنة الثقافية، وهي غير متوفرة أصلا في فرنسا. وإذا كانت الصلة ما بين الأجيال والعلم ليست تلقائية، فإن صياغة المفهوم يأتي بعد جهود كأداء ومعركة طويلة تأتي عن البحاثة الماركسيين والمناضلين وجهودهم في كل الحقول، وبوجه خاص في مجال العلوم الإنسانية، حيث تَنتشر الماركسية دون أن يدري بها أحد.
أما في ما يتعلق بالعلاقة ما بين الماركسية والفلسفة، فإنها مسالة حاضرة بصورة مستديمة، وذلك في كل مرة نواجه فيها الإيديولوجية، وطالما يوجد صراع طبقي. ذلك أن الفلسفة هي بامتياز حيز متميِّز ضمن الإيديولوجيا.
 
3/ كيف تقرأ ماركس؟ أنت كلينيني ترى في ماركس وإنجلز حزبيين إثنين، وهما يدركان المجتمع ويمارسان السياسة من حيث هما حزبيين، ويعبِّران عن فكر الحزب.
*** إن النص الماركسي لا يحتمل التمييز ما بين الباطن والظاهر من النص، ما بين النقد الداخلي والنقد الخارجي. إذ إن الباطن في النص الماركسي هو الظاهر منه، والعكس صحيح أيضا. وما ألاحظه هو أننا لا نقرأ ماركس كما نقرأ كانط على سبيل المثال. وأنت أيضا لا تقرأ ماركس وإنجلز كمؤيد أو معارض له يتبنَّى وجهة نظر بعينها حياله، وليس غيرها. كلا. فالنص منحاز، منحاز للعلم الذي يُعَيِّن ويُسَمِّي         لنفسه موضوعا، ولا يستمد شرعيته العلمية إلا عبر مقاربة هذا الموضوع، وهو طبقة بعينها من    الطبقات  المجتمعية.
والحال أن ماركس الشاب لم يكن حسم في كتابات الشباب هذا الصهر والذويان ما بين العلم والطبقة العاملة، وإن كان مساره يقود ما بعد "الإيديولوجية الألمانية" إليه. ولن يبلغ إليه إلا بعدما يرى بأم عينيه أمامه نتائج كتابات الشباب. وهو الأمر الذي يفسِّر الأسباب التي تحمل "علماء الماركسية" على النفخ بصورة مستديمة في أعمال الشباب. وإن قراءتي  لماركس إذ هي تتبَّع مساره دون أن تسبقه أو تقف عند العلاقة ما بين ماركس وهيجل، أو ماركس وفويرباخ، على غرار ما تفعل الحلقات الجامعية التي تَختَصِر تاريخ الفلسفة كلها إلى طاولة مستديرة يتحلَّق من حولها فلاسفة متوحِّدين منفردين، يسهرون على ترداد الخطابات نفسها الني تتحدث عنهم، فإن قراءتي لماركس تتقصى معرفة لماذا، وفي أي لحظة، وعلى أي طريق، ترانا نغادر هيجل أو فويرباخ، أو نعود اليهما، وبالأحرى يتقاطع مسارنا مع الأول والثاني.
 
4/ إن تعبير "نقد" منتشر في أعمال ماركس وإنجلز. كيف أنت تعرِّفه؟
*** النقد نتيجة لعلم التاريخ ومن صنعه. إن هذا "النقد" يَنقل إلى حيز التنفيذ مفاهيم المادية التاريخية كما كانت بدأت تظهر في "الأسرة المقدَّسة"، وحتى غاية "رأس المال"، حيث يَندرج بصورة علمية موضوع المجتمع المدني في نمط الإنتاج الرأسمالي. وما معنى "نقد" أو "بؤس" الفلسفة إن لم يكن المقصود من وراء ذلك أننا كفَّينا عن التفكير فلسفيا، بل وأننا أصبحنا نتحدث عنها بعدما عثرنا على "المخرج" من الفلسفة. وإن هذا وحده يكفي كي يكون مفهوم الفلسفة الماركسية باطلا. وللسبب نفسه فإن الاقتصاد السياسي شأنه شأن الفلسفة مفهوم باطل.
 
5/  ما هي العلاقة ما بين الدياليكتيك والتاريخ. هل الأولى مقولة علمية موازية للتاريخ، تسبقه من حيث المعرفة، وتوجِّهه؟ هل يمكن الفصل ما بينهما على وجه الموازاة ما بين الاثنتين أو باعتبار أن إحداهما مكمِّلة للثانية؟
*** المادية التاريخية والدياليكتيك لا ينفصلان بأية صورة، ولأي سبب كان. إن الدياليكتيك وليد المادية التاريخية، وليست المادية التاريخية هي وليدة الدياليكتيك. والعلاقة ما بين علم التاريخ والدياليكتيك هي كالعلاقة ما بين التاريخ وموضوعاته الواقعية والمادية. وهذه الموضوعات هي مقولات الدياليكتيك. إن علم التاريخ يتحكَّم ويسيطر على الدياليكتيك باعتباره المسار الداخلي لموضوعاته، أي نظرية التناقضات الواقعية، والتي تَحْمِل في المجتمع البورجوازي اسما، ألا وهو صراع الطبقات. وأنت تعلم أن الدياليكتيك ما قبل العام 1848 لم يأت الحديث عنه في أعمال ماركس وإنجلز من حيث هو موضوعات أو مقولات المادية التاريخية، بل من حيث علاقته بهيجل وفويرباخ. ولم يكن الدياليكتيك لدى هيجل ليأخذ معنى إيجابيا لولا استخدام فويرباخ له. فالأطروحة الثالثة تقول: إن فويرباخ أدى عملا عظيما، وذلك على النحو التالي: لقد بيَّن أولا أن الفلسفة ليست أمرا آخر غير الدين بعدما أخذ شكلا فكريا، وقد طُوَّر بفضل الفكر، وأن الدين ليس أمرا آخر سوى شكل آخر أو نمط آخر يكشف عن استلاب الإنسان. وأسَّس ثانيا لمادية حقيقية ولعلم واقعي عندما جعل من العلاقة المجتمعية للإنسان مع الإنسان المبدأ الأساس في النظرية. إن الدياليكتيك ليس في أية حالة من الأحوال التكملة الروحية للمادية التاريخية، وإنما موضوعاتها الواقعية.
 
6/ هل هي نهاية الفلسفة ككل بدون تميِّز ما بين الفلسفات، أم هي نهاية الفلسفة التأملية النظرية فقط؟ إن الفلسفة تبدو في أعمال ماركس وإنجلز خصما للبروليتاريا، ومن إنتاج البورجوازية الصغيرة، برونو باور، ستيرنير، فويرباخ، وبرودون. هل تتسع الماركسية لفلسفة ليست من نتاج البورجوازية الصغيرة؟
*** التمييز ما بين "الفلسفة النظرية " أو التأملية و "الفلسفة" منعدم لدى ماركس. فلنتحدث إذن عن السمة التأملية والنظرية الملازمة لكل فلسفة. وبالرغم من أن ماركس ميّز بصورة قاطعة ما بين الإيديولوجية والعلم، إلا أن مثل هذه الحدود لم تصبح بالرغم من ذلك مكسبا بصورة نهائية. إننا نصطدم كل يوم بالغموض والتشويش اللذين يحيطان بالعلاقة ما بين العلم والإيديولوجية. ذلك أن          الإيديولوجية تنجح في السيطرة على كل ما عداها، بل وأنها تتسرب بصورة خطيرة إلى الحركة       العمالية والشيوعية.
وفي ما يتعلق بالعلاقة ما بين الفلسفة ووعي البورجوازية الصغيرة، فإن التشابه بينهما كبير. إنهما متشابهان من حيث وضعهما ووظائفهما، وإحداهما تتحدث عن الأخرى، وإحداهما تحيل إلى الأخرى. إن الفلسفة، سواء كانت نظرية تأملية أم إيديولوجية، تشكل على غرار ما كان عليه الأمر لدى برودون خطرا على الحركة العمالية من حيث هي بديل يهدِّد التحليل المادي العلمي للطبقة. والفلسفة علاوة على ذلك تشير إلى أن تأثير الإيديولوجية السائدة على الطبقة العاملة مستمر.
 
7/ ألا يوجد حيِّز ما للفلسفة ضمن المادية التاريخية يتيح اكتساب المعرفة من حيث هي فلسفة محضة؟ وهل مصطلح المادية التاريخية كاف بحد ذاته لتعريف الماركسية كعلم؟
*** ليس من السهولة في شيء أن تُقتلع الفلسفة من الماركسية بالمقارنة مع اقتلاعها من الفيزياء والبيولوجيا. إن مثل هذا الاقتلاع من الماركسية ممكن إلا أنه شاق، ويستمر على مسار التاريخ والصراع الطبقي. وبالرغم من أن هذه الصعوبات قائمة بصورة صلبة، فلنلاحظ مع ذلك أن القطيعة مع الفلسفة قد تسرَّبت إلى العلوم الإنسانية، حيث تَنتشر وتَعم الحركات المناهضة للوضعية، واللاعقلانية، والمثالية، والقيم المشتركة.
وما الذي يتغير مع ماركس في العلاقة ما بين الفلسفة والعلم؟ لقد أصبح المجتمع البورجوازي موضوع العلم، وظهرت معه مفاهيم لدراسة المجتمع البورجوازي، وهي: نمط الإنتاج، القوى المُنْتِجَة، وفائض القيمة، وقوة العمل، والإيديولوجية، إلخ. والماركسية كعلم لا تعيش من تكرار واجترار مفاهيمها. لقد أضافت موضوعات جديدة، كالمجتمع الإقطاعي، والمجتمع الآسيوي، والإمبريالية على يد لينين، والكتلة التاريخية على يد غرامشي، والرأسمالية الاحتكارية للدولة، إلخ. وأعود لأقول إن الماركسية كعلم تسربت إلى العلوم الإنسانية وذابت فيها أحيانا شئنا هذا أم أبينا، وإن كان المتخصِّصون في هذه المجالات يتنكرون لها أحيانا.
 
8/ ألا تأخذ الفلسفة مكانا ما لها ما بين العلم والمعرفة، وما بين العلم والإيديولوجية؟
 *** لا تُخْتَصر الإيديولوجية في "الإيديولوجية الألمانية" إلى بعد واحد هو نفي العلم. إنها، من حيث هي شكل من أشكال الوعي، أو مفهوم للعالم، تقع ضمن إطار المعرفة / إنكار المعرفة. ولنأخذها هنا من حيث هي وعي ومفهوم للعالم (تصور للعالم) فقط، وذلك بصرف النظر عن ماديتها، وأجهزتها، ومؤسَّساتها، وممارساتها. إنها عقبة لا تُغلب بالهيِّن طالما هي من فعل البنية، وهو فعل ضروري لها.  فعل للبنية ذو انعكاسات متعددة تحمل خصوصيَّاتها، من المُدْرَك إلى المفهوم، يُوَظِّف بعضها البعض الآخر بصورة متداخلة، بما في ذلك في الانعكاس العلمي للإيديولوجية، ما يجعل منها عمل يؤدي وظائف الالتفاف والتعديل بصورة مستديمة. والمادية التاريخية هي علم أفعال البنية وما تُنْتِجُه من انعكاسات، وتاريخ تكوُّنها، وإشكالياتها، ووظائفها، أي ما تُسلِّط الإيديولوجية عليه من أضواء كي يكون مرئيا، وما تخفيه؛ علما أن المادية التاريخية من حيث هي علم هي أقرب ما تكون إلى علم قيد الإنجاز دوما، منها إلى علم مُنْجَز بصورة منتهية. والفلسفة أيا كان تعريفها هي شكل من أشكال المعرفة / إنكار المعرفة، من بين غيرها من هذه الانعكاسات، وهي إيديولوجية بالتربيع. وهي كغيرها من الانعكاسات موضع للتحقيق فيها من أجل تقصي الأنماط التي تُنْتِجها، طالما أن الفلسفة ليست نتاج نفسها. الأمر الذي يقود إلى "نقد الفلسفة". ولنحذر دوما من الإيديولوجيا وما تحمله من حالات انفساخ معرفي سائدة وواسعة الانتشار. وغالبا ما تكون الغلبة لها من خلال عادات التفكير الفلسفية والإيديولوجية التي تتسرب إلى العلم، والإيديولوجيا، والفلسفة، والمعرفة.
وعلى هذا النحو، فإن المادية التاريخية تكشف تسلُّط الإيديولوجيا على الفلسفة، وقهرها لها، وتؤذن بنهاية الإيديولوجيا والفلسفة، بالرغم من أن أعمال ماركس وإنجلز لم تأت على الفلسفة. والفلسفة شأنها هنا شأن الدين. ولعل هذه النهاية لن تأتي إلا بنهاية الصراع الطبقي. وبالرغم من ذلك، وإن كان العطب لم يَلْحَق بالفلسفة، ولم يمس علاقتها بالعلم والسياسة والفن وعلم الجمال، فإني أعود لأقول إن الماركسية ليست فلسفة. وبالرغم من أنها مَخرَج من الفلسفة والإيديولوجية، إلا أن الماركسية بالرغم من ذلك تُنْتِج في مجال المعرفة في صفوف العمال والحركات الاجتماعية، عبر ما تعيشه في المجتمع وبناه، وعبر ما هو حي من جهة، وما هو فكر تاريخي من جهة ثانية، تُنْتِج تَصورّات وحالات من التمثل الإيديولوجي، أي أشكال من المعرفة / إنكار المعرفة. وهذا كله موضع للنقد.
 
9/ ماهي العلاقة إن وُجِدَت ما بين البراكسيس وفكر الحزب، أم أن البراكسيس من حيث هو جدل النظر والعمل ينحصر فقط في مجال المعرفة؟ أنت تقول في "الوضع الماركسي للفلسفة" أن ماركس ما بعد "أطروحات فويرباخ" يَجمَع في فكر واحد ما بين المادية والاشتراكية والثورة، أو هو بتعبير آخر يفكر في هذه الموضوعات معا دون أن يفصل ما بينها.
*** في ما يتعلق بالبراكسيس يستعين ماركس بهذا المصطلح في "أطروحات فويرباخ" للتعريف بمادية لم تعد فلسفة، أي المادية التاريخية أو علم التاريخ. والمادية التاريخية من حيث هي براكسيس، فإنها تلغي إشكاليات الصلة التي تحاول أن تجمع ما بين النظرية والممارسة كيدين اثنتين ممدودتين الواحدة نحو الأخرى في الضباب. وفلسفة البراكسيس لدى غرامشي، والتي ترفض بثبات لا يلين التمييز ما بين المادية التاريخية والمادية الدياليكتيكية، توحد دياليكتيكيا ما بين النظرية والممارسة.
و"فكر الحزب" لا يختلف عن البراكسيس في ما يتعلق بالصلة ما بين العلم والطبقة. وكان لينين يقول: "إن المادية تَفترض بصورة ما فكر الحزب. إن المادية تلزمنا لدى معاينتنا لحدث ما أن نأخذ بصورة صريحة وبدون لبس بوجهة نظر جماعة مجتمعية بعينها".
 
10/ لماذا تُسَجَل "ا؟لإيديولوجية الألمانية" نقطة العبور من ماركس الشاب إلى ماركس الراشد؟
*** كما يقول ماركس في مقدِّمَته ل/"مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، فقد أتاحت "الإيديولوجية الألمانية"، له ولإنجلز، أن "يصفُّيا حساباتهما مع الوعي في حالته القديمة"، أي مع "الاشتراكية الطوباوية"، وأن ينتقلا إلى الإِعْداد للمادية التاريخية. وهو الأمر الذي حَمَل الصديقين، ماركس وإنجلز، على الامتناع عن نشر "الإيديولوجية الألمانية".
 
11/ ما هي العلاقة ما بين المَخْرَج من الفلسفة حسب ما تقول به أنت، والقطيعة الأبستمولوجية التي جاءت في أعمال ألتوسير؟
*** الأمران غير متماثلين في جميع الحالات. فالمَخرَج من الفلسفة بمثابة المَخرَج من الغابة. إن ألتوسير يأخذ عن مارتان هيدغر عبارته الشهيرة: الفلسفة طريق كل الطرق التي تقود إلى حيز من المكان غير موجود بتاتا. إنه طريق الغابة. وماركس يأخذ طريقا يقود إلى الخروج من الغابة إلا أنه لا يقول إلى أين هو يَخْرُجُ، وإلى أين هو ذاهب. أما هيدغر فإنه يَخرج من الغابة ليذهب إلى حيز غير موجود بتاتا، أو في أي حيِّز كان من المكان. بيد أن مقاربة ألتوسير للمَخرَج من الفلسفة مختلفة إلى حدٍّ ما عما أقوله أنا. بمعنى أن ألتوسير يقول إن ماركس يَخرُج من الفلسفة من حيث هي أيديولوجية ليدخل إلى العلم. وأنا أذهب في منحى مشابه عندما أقول إن ماركس يَخرُج من الفلسفة ليدخل إلى مجال آخر، هو نقد الاقتصاد السياسي، أو علم التاريخ.
إلا أن وجه الاختلاف بين ما يقوله كل منا، هو أن ألتوسير يذهب إلى القول بأن ماركس ما أن يخرج من الأيديولوجيا حتى يقيم في العلم بصورة نهائية. أي أن العودة إلى الفلسفة لم تعد لتدخل من جديد في حيز الممكن. وهو يقول إن ماركس نبذ الأيديولوجيا بصورة نهائية ولا عودة عنها. وهذا الرأي يخلو من الصحة. وها هنا تظهر المشكلات بالعيان، لأن ألتوسير يعود ليتحدَّث عن سقطات في أعمال ماركس، أو حالات من الارتكاس، والعودة إلى الوراء، إلى الأيديولوجيا. بيد أن هذه السقطات في أعمال ماركس ليست كذلك حسب ما أراه أنا. ففي الكتاب الثاني والثالث من "رأس المال" تظهر الأيديولوجيا تحت شكل التيمية أو تأليه الأشياء والمنتجات وعبادتها fétichisme(عبادة الصنم أو الحجارة). ما يؤكِّد أن الأيديولوجيا لا مناص منها، من حيث هي مادة وفكر، طالما هي ماثلة في المنتجات نفسها وفي النظام الرأسمالي.
 وقراءة ألتوسير لماركس تنطوي على خطورة ما عندما يدعو في بيداغوجيته النظرية الماركسيين إلى التشبُّه بماركس والقطيعة مع الأيديولوجيا والإقامة في العلم. إنه على هذا النحو يُنشيء عن وعي أو عن غير وعي حالة من الاعتقاد اليقيني (الدوغمائية). كأن لسان حاله يقول: إني خرجت من الفلسفة إلى العلم، وإني بذلك أَزعم لنفسي أني أَحوز على الحقيقة. وهو أمر مثير للقلق.
ثم إن القطيعة مع الفلسفة لدى ألتوسير تأتي عن طريق المعرفة أو الأبستمولوجيا. أما القطيعة التي أتبناها، فإنها قطيعة تواكب كومونة باريس. إنها حدث تاريخي يُسَجِّل لظهور الصراع الطبقي الذي يقلب المعرفة رأسا على عقب. القطيعة بهذا المعنى تذيب المعرفة في الثورة، أو تذيبها بالحدث التاريخي كما يظهر مع صراع الطبقات. الأمر الذي يؤدِّي إلى ثورة في مجال المعرفة. ثورة تَنقل المعرفة من الفلسفة إلى التاريخ. حيث تنحاز المعرفة المادية النقدية إلى البروليتاريا والشيوعية.
 
سادسا: التمييز ما بين المادة والفكر                                                                                   يقود إلى حيِّز من المكان غير الموجود
 
إن ألتوسير الذي ينتقد في أعماله، أكثر من غيره، الفكرة القائلة بأن الماركسية فلسفة يقرن الفلسفة بالأيديولوجيا سواء بسواء. الفلسفة والأيديولوجية لا تختلفان.  وأنا أذهب في المنحى نفسه عندما أُردِّد إن الفلسفة أيديولوجية ("الفلسفة هي الجذر التربيعي للأيديولوجيا"). إلا أنني بخلاف ألتوسير لا أُلغي الأيديولوجيا، وإن كنت أقول بأن الماركسية خرجت من الفلسفة. ولما كان هو الذي يقول بأن الماركسية تَخرُج من الفلسفة إلى العلم، وكان ينفي الأيديولوجيا بصورة كاملة نفيه للفلسفة، فإنه في نهاية المطاف ينتهي دون أن يدري إلى تعريف الماركسية بأنها فلسفة علمية ما دام هو الذي يقرن الأيديولوجيا بالفلسفة، وينفى الاثنتين معا. وللتدليل بأن أعمال ألتوسير أنتجت ما يُعرف بالفلسفة العلمية، أن أعماله تأخذ بالتقسيم ما بين المادية التاريخية والمادية الدياليكتيكية. وهو الأمر الذي يعود بنا إلى الفلسفة العلمية من حيث هي مفهوم ستاليني. إن الفلسفة العلمية تأخذ مجدَّدا بالتقسيم الستاليني للفلسفة، إلى علم التاريخ والفلسفة، أو المادية العلمية والفلسفة. والتوسير سَلَّم دوما بدون أن ينتقد من جهته التقسيم الستاليني للمادية إلى مادية دياليكتيكية ومادية تاريخية. بمعنى أن التمييز بين الفكر والمادة يقود إلى شتى أنواع الانحراف. فستالين ينطلق من فرضية ضمنية تميِّز بين التاريخ والمنطق عندما يَستَنتِج المادية التاريخية من المادية الدياليكتيكية. والحال إن المادية الدياليكتيكية، إذا ما هي أُخذت بمفردها منسلخة ومعزولة عن التاريخ، تكون ميتافيزيقا. هذا التقسيم نقطة عمياء وضعيفة في أعمال ألتوسير. إن هذا التقسيم إلى مادية دياليكتيكية من جهة، ومادية تاريخية من جهة ثانية، لا يستقيم لها عود.
كلا، إن المادية التاريخية، من حيث هي تناقضات مجتمعية وصراع طبقات، أي من حيث وجودها في الواقع والتاريخ، تُعتبر دياليكتيكية. فالمادية التاريخية هي دياليكتيكية، والتاريخ هو الدياليكتيك، وكل ما عدا ذلك ينتهي إلى التسليم بأن المادية الدياليكتيكية، إذا ما أُخذت على حدة منفصلة عن التاريخ،          تاريخ الصراع الطبقي والتناقضات المجتمعية، لا تعدو كونها فلسفة ميِّتة ولا وجود لها في أعمال   ماركس.
حاول ماركس في العديد من المرَّات أن يَكتب مطولا أو مدخلا إلى الدياليكتيك، إلا أنه تخلَّى عن الفكرة، وقد لاحظ لينين ذلك. وماركس لم يفعل، ليس لضيق الوقت، كلا، وإنما لأن إنجاز ذلك ضرب من المستحيل. كان ذلك في حيز الممكن بلا شك خلال القرون الوسطى. ذلك أن الدياليكتيك علم التناقضات كما يقول هيجل عن حق. إنها التناقضات الماثلة في التاريخ وعبره كما يقول هيجل نفسه.
إن التوسير قد ذهب إذن في ما يتعلق بالقطيعة الأبستمولوجية أبعد مما ينبغي. إذ أن ثمة تداخلاً ما بين الأيديولوجيا والعلم في أعمال ماركس. ذلك أن الخروج بصورة نهائية لا عودة عنها من الأيديولوجيا إلى العلم ضربٌ من المستحيل. فنحن نسبح جميعا بدون استثناء في الأيديولوجيا. ونحن عندما يُخيل إلينا أننا قاربنا الحقيقة، فإننا لا نقترب منها إلا عبر الأيديولوجيا. ولولا هذا التشابك لكان الأمر في غاية اليسر. ويبدو لي أن فكرة القطيعة الأبستمولوجية ما بين ماركس وهيجل، والماركسية والفلسفة، في أعمال ألتوسير تشبه فكرة التخلي عن دين ما والاهتداء بدين آخر غيره. فإذا كان اعتناق دين جديد في عالم الديانات ممكن، فإن مثل هذا الاعتناق للعلم غير ممكن.
12/  تبدو الأيديولوجيا وكأنها مقولة ثالثة إلى جانب الزمان والمكان لا يستقيم إدراك وعلم بدونه.
***  الأيديولوجيا هي الدليل بأنك موجود في الزمان والمكان الواقعي والملموس، واقعية الموجود. فأنتَ موجود واقعيا في الزمان والمكان الملازمين للمجتمع، وأنتَ تعيش في المجتمع، وهو ممتلئ بالأيديولوجيا.
13/  حتى الزمان والمكان لا يفلتان من الأيديولوجيا.
***   نعم، هذا صحيح. لذا فإني لا أَخجَل عندما أَقول عن نفسي إني إيديولوجي.ن او مُنتِج للإيديولوجيا.
 
14/ أنتَ تقول إن التاريخ هو نفسه الدياليكتيك، أليس الفكر نفسه جدليا؟ علما أن الفصل مابين الفكر والتاريخ يقود إلى حيِّز من المكان غير موجود إن في التاريخ أو في الفكر، أو في أي مكان آخر.
*** نعم، وهذا ما رآه إنجلز الذي كان يقول إن العودة إلى اليونانيين القدامى ضروري لأن أعظم ما اكتشفوه هو الدياليكتيك. وكان يفكِّر بهراقليط أكثر مما يفكِّر بأفلاطون. ذلك أن الدياليكيك ماثل في الأشياء نفسها. وربما ليس له وجود في الطبيعة حيث أن مجال اليقين هنا معدوم. وكانت الماركسية عَرِفَت نقاشات مطوَّلة حول دياليكتيك الطبيعة. ونَشَبَت معارك فكرية حول هذه المسألة. ويعود الإلحاح في القول بأن الديالكتيك ماثل في الطبيعة إلى سبب وهو التدليل على صحة أفكار ستالين التي تقول بأننا نَنْتَقل من الطبيعة إلى التاريخ، ومن الفلسفة إلى التاريخ عبر الدياليكتيك. فهل ثمة دياليكتيك بمعنى التناقض في الطبيعة؟ الواقع هو أن النظرة التي يُلقيها العلم على الطبيعة هي نظرة – برأي العلماء – دياليكيتيكة. ذلك أن العلم غني بالظواهر المتناقضة. أما الطبيعة فيصعب أن نقول إنها دياليكتيكية، لأننا لانستطيع التفكير بالطبيعة إلا عبر العلم. والعلم يَستَند إلى التناقضات. فعندما نتحدَّث عن نظرية الحركة لا نستطيع أن نراقب في وقت واحد حركة الذرَّات من جهة وسرعتها من جهة أخرى في عيِّنة لبُنية مصغَّرة. إذ أن من المتعذَّر معرفة الأمرين معا. والأمر ينطوي على تناقض. ونحن هنا في حيّز الفيزياء الكانطية.
بالمقابل فإن التاريخ هو حيِّز التناقضات. وإن التناقض الذي يحرِّك كل ما سواه من التناقضات هو صراع الطبقات. وكان ألتوسير اعترف في دفاعه عن أعماله لنيل درجة دكتور في الفلسفة من جامعة أميان Amiens أنه ورفاقه في تيار ألتوسير نسوا صراع الطبقات. أي أن ألتوسير كتب "قراءة رأس المال" و "من أجل ماركس" وقد نسي صراع الطبقات! والحال إن الانتقال من الفلسفة إلى التاريخ بالمعنى الستاليني يُنجَز بدون صراع الطبقات. فأين هو صراع الطبقات قي مقولات ستالين؟ ليس لها أي وجود!
 
5/ هل يتضمن الفكر مقولات التناقض؟ فإذا كان الجواب إيجابيا فإن المنطق الدياليكتيكي، أو الدياليكتيك من حيث هو منطق، أمرٌ مسوغ علميا. وفي مثل هذه الحال، فإن الدياليكتيك لايكون ماثلاً في التاريخ فحسب، وإنما في الفكر نفسه، وفي منطق العلم.
*** نعم الدياليكتيك ماثل في منطق العلم، وهذا هو أشدُّ مأخذ يأخذه ماركس على برودون عندما يَكتب "بؤس الفلسفة". ذلك أن برودون لم يفقه من الدياليكتيك شيئا. وكان بيير جوزيف برودون يَزعم أنه عارف بالأطروحات الدياليكتيكة لهيجل. والحقيقة أن دياليكتيك هيجل لم يصل إليه إلا عبر كارل غرون      Karl Grune الذي كان اشتراكيا ألمانيا يقود المهاجرين الألمان في فرنسا. وكان برودون يجهل الألمانية في الوقت الذي كانت فيه أعمال هيجل غير مترجمة بعد إلى اللغة الفرنسية. لقد كان عاجزا عن التفكير ثوريا واشتراكيا لأنه كان يعتقد – كما يقول ماركس – أن لكل حلقة تاريخية فكرة ملازمة لها.  وإن  الأفكار  تتراصف  الواحدة  إلى  جانب  الأخرى. والحال أنه لا يرى التناقض، وهو يَفتقد إلى الفكر  الدياليكتيكي.  والماركسية هي الفكر الدياليكتيكي.
هذا لا يستتبع القول إن الدياليكتيك علم يمكن حشوه في موجز أو مطوَّل.
والدياليكتيك فكر أيضا بمقدار ما يحمل التاريخ تناقضات واقعية. وهذا هو ما كان هيجل يقوله. إن التناقضات ماثلة في الواقع. وكان هيراقليط يقول الأمر نفسه عندما كان يردِّد أن المرء لا يستحم في ماء النهر مرتين. الأمر الذي يَحمِل إنجلز على الاعتقاد بأن اليوناييين القدامى عباقرة لأنهم اكتشفوا الدياليكتيك.
والتناقض ماثل أمامنا اليوم في حركات الإَضراب. فالبورجوازية تعتقد أن العلاقات المجتمعية قوامها التوافق. والثوريون يعتقدون أن النزاع هو أساس للعلاقات المجتمعية، وأن العلاقات بين الناس متناقضة بما في ذلك ضمن الأسرة الواحدة، ومع رب العمل، وما بين الأصدقاء.
 
سابعاً: المـادية الدياليكـتيكية والمـادية التاريخـية                                     الفصـل مـا بين الاثنتين يقود إلى الستالينية
 
1/ الصلة ما بين الجدلية من حيث هي منطق أوفكر من جهة، والتاريخ من حيث هو مادة من جهة ثانية،  تقودنا إلى الحديث عن العلاقة ما بين المادية التاريخية والمادية الجدلية.
*** الماركسية مادية تاريخية دياليكتيكية. والماديةُ دياليكتيكيةٌ لأنها تاريخية، أي بمعنى أن التاريخ جدليٌ. فالتناقضات ماثلة في التاريخ. لذا كانت الماديةُ تاريخيةً لأسباب تتعلق بالواقع المادي، وليس نتيجةً لمادية دياليكتيكية مستقلة بذاتها بمنأى عن التناقضات المادية للتاريخ. إن المادية التاريخية الدياليكيتيكية تفترض على حد قول ماركس في رأس المال أن العلم سيكون ذات يوم علما واحدا. والعلم هو علم التاريخ. ذلك أن علم التاريخ ليس هو علم المجتمعات فقط، إنما أيضا تاريخ العلم نفسه. فللعلم تاريخ. ويقاس العلم من حيث تاريخه. ولكل شيء تاريخ. وإن كل رؤية تجريدية للتاريخ، خارج الزمان والمكان الواقعيين، تقود إلى المثالية. وبالمقابل، فإن تعظيم مكانة التاريخ بدون التفكير بالتاريخ بصورة جدلية، يقود أيضا بدوره إلى المثالية.
2/ المادية الدياليكتيكية هي إذن نِتاج المادية التاريخية، وليس النقيض.
*** هذا صحيح. إن التقسيم ما بين الماديتين مجهول الأصل. فنحن لا نعرف من أين عَثَر ستالين على هذا التقسيم. قيل إن هذا التقسيم ماثلٌ في أعمال إنجلز، وإن كان هذا الأخير لم يُصرِّح به بصورة قاطعة. 3/  الفكر إذن قوة مادية.
*** الفكر كقوة مادية هو الفكر من حيث هو جزءٌ من المادة، أو من حيث هو موجود في المادة. الأمر الذي يَحمل ماركس على القول في مخطوطات 1848 إن الفلاسفة لا يَظْهرون كما ينبُت الفطر.
 
4/ عندما يقلب ماركس المنطق الهيجلي، فإن الجدل بعدما  يُقلب المنطق يصبح جدل الفكر أم جدل التاريخ؟ ماركس على قطيعة مع هيجل، فما الذي يبقى من هيجل لدى ماركس بعدما يقلب ماركس المنطق الهيجلي؟ ثم هل جاء قلب المنطق عبر مسار فكري فلسفي، أم عبر صراع الطبقات؟
*** هذا سؤال صعب. ومن أجل الإجابة عنه سال الحبر بغزارة. وأنا كنت دوما أتقاسم مع ألتوسير الرأي في ما كان يقول به، ألا وهو أن ما بين ماركس وهيجل قطيعة. فماركس تخلَّص من هيجل بصورة كاملة. وهو لا يقاسمه أي شيء. إلا أنني مع مرور الوقت راجعت نفسي في ما يتعلق بهذه الفكرة. وكنت قرأت أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة كتبها ماركسي يوناني يُدعى ستافوس تومبازوس Stavos Tombazos، وهي  بعنوان "الزمان في تحليل الاقتصادي، مقولات الزمان في رأس المال"، ثم قدَّمت لها في كتاب يحمل العنوان نفسه. وفي هذا العمل يراجع تومبازوس "رأس المال" لماركس من خلال معاصرة ماركس لهيجل، حيث يبيِّن أن مقولات الزمان في "رأس المال" مصدرها المنطق الهيجلي،وذلك على غرار ما يرى آخرون من أمثال ميشيل هنري  Michel Henri   الذي يُبيِّن بدوره حضور هيجل في أعمال ماركس.
إن قلب المنطق الهيجلي، الذي أصبح مع ماركس يسير على قدميه بعدما كان يسير لدى هيجل على رأسه، هو بمثابة استعارة لغوية أو مجاز، لأن ما كان على رأسه ثم وقَفَ على قدميه هو نفسه في الحالتين. إن القلب رأسا على عقب لا يعني كثيرا. والمهم يتجلَّى مع أوائل أعمال ماركس، "مخطوطات 1883". حيث يَستَخدِم ماركس منطق هيجل كي يُبيِّن أن هذا المنطق يتيح معرفة كيف تنتظم مختلف مقولات المنطق في ما بينها. ومن هذا النظام المنطقي للمقولات تَظهر المقدمة، ومن المقدمة تُستَنتج النتائج. وماركس يكشف أن إنجلز في ما يتعلق بنظرية المجتمع كان محقا عندما وَضَع كمقدمة ما كان غيره يضعه كنتيجة.  وهنا، في هذه المرحلة من أعمال ماركس، تظهر البوادر الأولى للدياليكتيك.
عندما يستعير بعد ذلك ماركس من هيجل الدياليكتيك، فإن هذه الاستعارة ليست شكلية. صحيح أن الدياليكتيك عند ماركس يَشْغَل حيِّزا مركزيا من حيث هو قلب الصراع الطبقي، ومن حيث هو أيضا يشغل حيزا مركزيا في النظرية، من حيث هي نظرية التناقض. إلا أن الدياليكتيك الماركسي لا يمت إلى قلب الرأس على قدميه بصلة. ففي علم المنطق كما يقول هيجل، أو نظرية المنطق الهيجيلية، ثمة فكرة تقول إن المنطق الدياليكتيكي هو علم التناقض في الواقع، في الواقع الملموس والحسي. أي أن المفاهيم لا تتحرك ويحرِّك بعضها بعضا، وذلك بخلاف ما كان عليه الأمر لدى أفلاطون الذي كان أول من تحدَّث عن الدياليكتيك، الدياليكتيك الصاعد، والدياليكتيك الهابط.
انظر إلى أفلاطون الذي وضع نظرية الأفكار أو المُثُل (جمع للمثال الأعلى) وجعلها في بادئ الأمر منفصلة بعضها عن البعض الآخر. ثم تساءل لاحقاً كيف تتواصل هذه المثل في ما بينها. لذا، فإنه ابتكر نظرية ماهو في ذاته، وما هو موجود في الآخر، وانتهى إلى القول إن ما هو موجود في ذاته موجود في الآخر. وعلى هذا النحو فإن أفلاطون في مرحلة متأخرة من حياته يعود إلى هيراقليط. ثمة أفلاطون الأول الذي كان ينهل من برمنيدس، ثم أفلاطون الثاني الذي يَنهل من هيراقليط.
إن ماركس وإنجلز يدركان بصورة جيدة أن هيراقليط هو الأصل. وماركس يردَّد حرفيا ما يقوله هيجل: لا يوجد فكرة في منطقي لم استعرها من هيراقليط. إن هيجل يبالغ بلا شك. غير أن هذه العبارة علقت بأعمال الماركسيين. وكان لافارغ كتب كتابا من مجلَّدين  تحت  عنوان  "الدياليكتيك  الهيراقليطي".  بيد أن  لينين  يرى  إن  هذا  العمل  سيء. إذ إن أن لافارغ لم يمض، بالرغم من أن عمله طموح، قدما حتى غاية بلوغ ماهية الدياليكتيك الهيراقليطي كما كان هيجل يتحدث عنه.
إذا أردنا أن نرى المسألة عن قرب، فإننا نَكتشف اليوم أن العلاقة ما بين ماركس وهيجل وثيقة للغاية. إن فكرة القطيعة ما بين الاثنين لا تخلو بنظري اليوم من تأثُّير ستاليني. ولدى ألتوسير مثل هذا التأثر. إذ ما معنى أن نرسم حدوداً قاطعة ما بين ماركس وهيجل؟ هذا يعني أن ماركس مادي، وأن هيجل مثالي! وأن ماركس هو المادية التي وَصَلَت إلى غايتها وأصبحت حقيقة واقعة، أو مادية مُنجَزَة كما يقول إنجلز. وأن هيجل، كما يُعرِّف نفسه، هو المثالية المطلقة. وإني أرى اليوم أن القطيعة ما بين هيجل وماركس بحث لا فائدة منه. ولينين في "الدفاتر الفلسفية" يشير إلى ذلك عندما يُبَيِّن أن الحاجز منعدم ما بين المادية والمثالية. الأمر الذي يَحمل لينين على التوكيد بالتشديد على قوة المادية وتلاحمها لدى هيجل.
 
5/ إن هيجل موجود بصورة واسعة ومنتشرة في أعمال ماركس، أليس كذلك؟
*** هيجل مقيم بصورة مستديمة في "رأس المال" لماركس، وذلك على نقيض من فكرة القطيعة لدى ألتوسير، حيث يَخرج ماركس، كما هو يقول، من الأيديولوجيا، ويقفز منها إلى العلم. إن فكرة القطيعة مغرية. إلا أن الأمر ليس بمثل هذه السهولة. لقد كان تأثير هيجل من القوة بحيث يتعذَّر تلاشيه من "رأس المال". إن ماركس يثاير بالتفكير في معلِّمه هيجل. إن ستافوس تومبازوس يدافع عن فكرة مؤدَّاها أن الزمان ينقسم إلى أزمنة في "رأس المال". فالزمان ليس واحدا أو مفتاحا واحدا يفتح الأبواب المغلقة كلها، ويصح استخدامه في الأوضاع والأنماط كلها، ويشمل الأزمنة كلها. إذ ثمة زمان للإنتاج، وهو مستمرlinéaire ، أو خط متتابع. وزمان للمرور circulation وهو دوريcyclique. والجمع بين الزمانين يُفضي إلى الزمان العضوي organique، وهو زمان رأس المال. ووراء ذلك كله يظهر زمان العمل، وهو غير زمان العمل غير المدفوع، أو سعر فائض القيمة surtravail، (زمن إنتاج العامل ليس من أجل سد حاجاته وتوفير أسباب البقاء لنفسه وأسرته، وإنما زمن العمل الفائض عن حاجة العامل والذي منه يستثمر رأس المال أرباحه). وهذا الزمان ليس هو نفسه الزمان المجتمعي، والزمان للترفيه. والأهمية في مثل هذا التحليل أن هذه الأزمنة المختلفة يحدِّد أحدها الآخر في "رأس المال"، ليعطي أشكالا للزمان، كل منها ذات خصوصية تتعلَّق بموضوع أم مادة ما. وهيجل هنا ذو حضور قوى، ذلك أن مقولات المنطق الهيجلي تحدِّد بعضها بعضا. وقراءة ماركس للزمان غنية، طالما هي تُلغي الفكرة القائلة بأن الزمان مجرَّد وقياس شمولي. فالأزمنة تختلف بعضها عن البعض الآخر. إن زمان الانتظار ليس هو نفسه زمان الفعل. فوعي الزمان يختلف من حالة إلى آخرى. والأزمنة في رأس المال ليست محايدة وشمولية. ويأتي تأثير هيجل هنا من حيث أن المقاربة للزمان في "رأس المال" تستعير من المنطق الهيجلي. وماركس لم ينسها. وإن إلغاءها كما يفعل ألتوسير ضرب من الدوغمائية الجامدة.
 
6/ ألا يأتي هذا التقسيم بين المادية التاريخية والمادية الدياليكتيكية من الماركسية التي انتقلت إلى روسيا على يد هيجيليين من أمثال بليخانوف ؟
*** بليخانوف يَنقل المادية إلى روسيا بكل ما تحمله من فِخاخ، وبوجه خاص الدوغمائية، والفكر المثالي. الأمر الذي يحمل ماركس على القول إن بعض الفلسفات المادية مثالية. فالمادية ليست بمنأى أحيانا عن الوقوع أسيرة الفكر المثالي، وأن تَجمع ما بين الاثنين في فكر واحد مثالي ومادي. كأن يُعتَقَد، على غرار ما كان شائعا لدى فلاسفة القرن الثامن عشر، بأن الأفكار هي التي تقود العالم، وأن الأفكار هي السبب وراء الثورة الفرنسية. إذ أن الثورة من حيث مسارها لا علاقة لها البتة بأفكار الفلاسفة. إلا أن الثورة، في الوقت نفسه، ما كان لها أن تَحدُثَ لولا العمل النقدي الواسع ضد الدين والإقطاع. هذا النقد    الذي هو نِتاج الفلاسفة. إن الفكرة القائلة بأن الأفكار هي التي تقود العالم فكرة باطلة. إلا أن الأفكار بالمقابل متداخلة مع التناقضات التاريخية.
انطلاقاً من ذلك، فإن صياغة نظرية دياليكتيكية تقوم على التناقض يصبح أمرا في حيز الممكن. كأن تقول إن البشرية مرَّت منذ هيراقليط من منطق الهوية، إلى المنطق الصوري الكلاسيكي، إلى منطق التناقضات أو المنطق الجدلي. هذا الأخير تجده لدى هيراقليط،، ثم لدى هيجل. وقد عرِفَ تاريخ الفكر ما بين هذين الأخيرين هجمات عنيفة من الفلسفة المثالية التي أرادت إلغاء التناقض إلغاءً تاما من أجل الابقاء على نظام للأفكار مستقل عن الواقع. بيد أن أفلاطون تعذَّر عليه البقاء داخل نظام الأفكار، طالما هو انتهى إلى القول في كتاباته المتأخِّرة إن فكرة الأنا لا وجود لها ما لم تقترن بفكرة الآخر A côté  de l idée du moi, il faut qu’il y ait l’idée de l’autre.
 
7/ ألا يعود ستالين إلى الأصول المثالية التي كانت تسلَّلَت  إلى روسيا مع دخول الماركسية إليها عبر بيلخانوف؟ أليست هذه المثالية ضاربة الجذور في الماركسية الروسية؟
*** نعم، إن أُصول الستالينية مثالية طالما توجد لدى ستالين رؤية فلسفية وميتافيزيقية، من حيث هي بحث عن الشمولية. وما يَفتقِد إليه ستالين – وهذه هي إحدى الاختلافات الجوهرية ما بين ستالين ولينين – هو مفهوم الظروف، والظروف الخصوصية بوجه خاص، أو كما كان يقول لينين "ظرف ملموس وتحليل ملموس". إن ستالين يركن إلى قاعدة عامة، ومنهج شمولي ودوغمائي، جامد ومدرسي، والثورة البلشفية كما عَرِفَتها الأممية الشيوعية، التي تُطَبَّق في الظروف القومية دون مراعاة للخصوصيات القومية، وذلك على النقيض من لينين الذي لم يفتأ يكرِّر لا داعٍ لنسخ البلشفية، اصنعوا ثورتكم بأنفسكم في سياقكم القومي. وبهذا المعنى، فإن مسعى ستالين، أو مسار الستالينية، مثالي وميتافيزيقي. فإذا ما نظرنا إلى كتيب ستالين "المادية التاريخية والمادية الدياليكتيكية"، نجد هذه العبارة تتكرر: "على نقيض من الميتافيزيقا نؤكِّد". كلا، إنه في قلب الميتافيزيقا.
هذا يأتي جزئيا من بليخانوف الذي كان أقل صلة بهيجل منه بكانط. فقد كتب عن كانط وفلسفته. وكان لينين يقول إن مادية بليخانوف غير كافية. إنها فلسفة ميكانيكية متأثِّرة بتقاليد الفلسفة الكلاسيكية، كانط وغيره كثر. وبالمقابل، فإن إسهام بليخانوف الهام يكشُف عن نفسه في مجال نظرية التاريخ. ففي مؤلَّفه "المادية التاريخية"  يبيِّن بليخانوف أن إنتاج المفكرين الفرنسيين خلال فترة "إعادة البناء"  في فرنسا La réstrauration  (1814-1830) وثيق الصلة بالتحليل الطبقي للمجتمع. إن هذا المؤلَّف لبليخانوف في غاية الأهمية. إلا أن لينين، بالرغم من أخطاء بليخانوف السياسية وقصوره النظري، يُوصي في "المادية والتجريبية النقدية" بقراءة بليخانوف من حيث هو إنتاج تربوي يسهم في تكوين الماركسيين في روسيا لأن مؤلفات بليخانوف غنيَّة بالتحليل الطبقي.
 
8/ هل عَرِف الماركسيون الأوائل في روسيا لابريولا وكروتشيه؟
***  لقد تُرْجِم الأوَّل والثاني إلى الروسية. ولينين يتحدَّث عن  كروتشه Benedetto Croce  الذي كان أول من نَقَل الماركسية إلى إيطاليا. وكروتشيه مثالي، إلا أنه كان على معرفة بالماركسية. وكتب كتابا تحت عنوان "ما هو حي وما هو ميِّت في الماركسية". ولينين يشير إليه بصورة غير مباشرة عندما يحيل القارئ إلى مؤلفات ذات صلة بكروتشيه. ومن جهة ثانية، كان لينين يَعرف لابريولا، وقَرأ أَعماله التي كانت مُترجمة. ولما كان لينين يَعرف عددا من اللغات فقد قرأ لابريولا. وقد اطَّلَع على مراسلات لابريولا مع إنجلز. ولم يبق من هذه المراسلات إلا رسائل إنجلز. أما رسائل لابريولا فقد أُتلِفَت بأيدي بناته. وكانت رسائل إنجلز الموجَّهة للابريولا نُشِرَت باللغة الإيطالية تحت عنوان "مراسلات مع الإيطاليين". وكان لينين على اطِّلاع واسع بأوضاع إيطاليا السياسية.
 
9/ ألم يكن لابريولا مثاليا؟
***  نعم، إنه هيجلي. ووثيق الصلة بكروتشيه. والأول كالثاني يندرج في التقليد الإيطالي. فالإيطاليون وصلوا إلى الماركسية وفق ترتيب زماني. لقد قرأوا هيجل، وعلى أُسس من قراءتهم لهيجل قرأوا ماركس. وذلك على نقيض من فرنسا التي قرأت في البدء ماركس بصورة غير كافية ومبسَّطة للغاية، ثم قرأت هيجل بطريقة في غاية السطحية. وقد تُرجِمَت بعض أعمال لابريولا إلى الروسية: "بحث في المفهوم المادي للتاريخ".
 
10/ هل نستنتج من ذلك أن الماركسية في روسيا من حيث بدايتها كانت تأثَّرت بالهيجيلية التي عادت لتظهر مجدَّدا لدى ستالين.
*** إذا بحثنا عن أصول الدوغمائية لمفهوم الشمولية لدى ستالين، شمولية المنهج وليس شمولية المفهوم كما تظهر في المسار المادي العلمي لدى ماركس، فإن شمولية المنهج لدى ستالين تحوَّلَت إلى تعليم دوغمائي أولا، وموضع للتطبيق ثانيا، وهذا متأتٍ من أصول مثالية.
 
11/ هذا يقودنا إلى فكرة الخروج من الفلسفة إلى التاريخ أو إلى الصراع الطبقي، كما تدافع أنت عنها في عملك "الوضع الماركسي للفلسفة". إن مسار ماركس يَخْرُجُ من الفلسفة وهيجل، وهذا المَخْرَج ليس من الفلسفة فقط، وإنما هو أيضا من ألمانيا إلى فرنسا، من الفلسفة الألمانية الكلاسيكية إلى صراع الطبقات في فرنسا. وها هنا تبدأ الماركسية، حيث تَخْرُج من الأيديولوجيا إلى التاريخ وصراع الطبقات. الصراع الطبقي هو المَصْدَر في مسار ماركس وإنجلز مقارنة بالماركسية الروسية التي لا تخلو من مصادر مثالية وفلسفية، أليس كذلك؟
*** قاعدة الثقافة الماركسية لدى الروس هو الكسندر هيرزين  Alexandre Herzen. وهو أرستقراطي المنشأ. وقد جاء إلى المواقع الطبقية من خلال متابعته في ألمانيا وفرنسا لثورة 1848. وقد كَتَب مؤلَّفا كان مصدرا للماركسيين، وذلك تحت عنوان "من الضفَّة الأخرى". وفيه يُفَسِّر صراع الطبقات بصورة قوية وبطريقة نفَّاذة. وكان هيرزين من تلاميذ هيجل. وهذا هو التيار الأول. وإلى جانبه ثمة مثقَّفون كانوا مرجعا لأوائل الماركسيين الروس، من أمثال دوبرولوبوف  Dobrolubov، وتشيرنيسشيفسكي  Tchernyschevsk .وهؤلاء كانوا ماديين وفوضويين ومتأثِّرين بالهيجيلة. وتكوَّنوا في المدرسة الألمانية.
وفي ما يتعلق بالخروج من الفلسفة إلى العلم والتاريخ، ومن الفلسفة الكلاسيكية الألمانية إلى الصراع الطبقي في فرنسا، فإن ماركس في خاتمة مقدِّمة 1843 يشير إلى أن القفزة الألمانية ستَحْدُث على وقع غناء الديك الفرنسي (الغالي في النص). فإذا كانت فرنسا هي موطئ صراع الطبقات، فإن ألمانيا موطن النظرية. إن الألمان هم الذين فكَّروا بما فعله الآخرون، وحاولوا أن يَنْظُروا بعقلانية إلى ما فعل الفرنسيون في ثورتي 1848 والكومونة، حسب ما هو واضح في "الأسرة المقدَّسة" لإنجلز وماركس.
                              ثامناً: تـفــنـيد لــنظــــريـة الانـعــكـاس
 
1/ في عملك "الوضع الماركسي للفلسفة" تظهر فكرة مساري المعرفة والتاريخ. إنهما غير متوازيين. وهذان المساران يفنِّدان نظرية الانعكاس. فالفكرة لا تسير بصورة موازية للحدث التاريخي. إن للفكرة زمانها، وللحدَث التاريخي زمانه.  وليس بين الفكرة والحدث صلة ميكانيكية. وثمة أيضا علاقة ما بين الفكر الذي يأتي ما بعد العمل، كعلاقة الليل بالنهار، حيث يحين وقت التفكير، بما كان أُنْجِزَ من عمل خلال النهار، حسب الاستعارة الشهيرة لهيجل في بومة مينيرفا، والتي عاد ماركس وأخذها عن الأول. إن العمل يسبق الفكر. والعلاقة ما بينهما ليست متوازية. بل إن المفارقة هي التي تغلب على العلاقة ما بين الاثنين. ومن أوجه هذه المفارقة أيضا أن الإنسان – حسب ما يقول ماركس في "الأيديولوجيا الألمانية" – مفتاح القرد.
*** بين المسار التاريخي والمسار العلمي. ثمة تسلسل زماني للحدث، فالإنسان يأتي ما بعد القرد، وثمة مسار علمي قوامه الحكم على التطور بناء على نتائجه. وهذا ما فعله داروين. فمعرفة الأنواع تتشكَّل بعدما ينتهي تطور الأنواع. فنحن لا نعرف الحصان الصغير المندثر، الذي كان بحجم الكلب في العصر الحجري الأخير، إلا من خلال معرفتنا بالحصان. وهذا صحيح أيضا في ما يتعلق بالإنسان والقرد. إن حاضر النظرية ليس هو نفسه حاضر التاريخ. وعندما يتحدَّث ماركس عن العمل فإنه يوضِّح أن العمل ليس واحدا. بل إن العمل متنوِّع من حيث طرائقه.  ويردِّد ماركس ما يقول آدم سميث "إن العمل بدون جملة" هو الذي يَسمَح باستخراج مفهوم العمل، أو الإحاطة بأشكال العمل كلها. وفي الأسرة المقدَّسة يتحدَّث ماركس عن الموضوع نفسه بالاعتماد على مفهوم الفاكهة والذي يُسْتَنتَج من معرفة كل أجناس الفواكه، من عنب وتفاح وأجاص، إلخ. أما أحد الأجناس على انفراد فإنه لا يقود أبدا إلى مفهوم الفاكهة. فالكثرة هنا تقود إلى المفهوم. أي أن المعرفة قوامها الانتقال من العام إلى الخاص. وذلك على نقيض الاكتشاف الذي يَنتَقِل من الخاص إلى العام، إذ ما لم تكن التجربة سابقة على الفكرة، فإن المعرفة منعدمة.
 
2/ كيف نُفِنِّد إذن نظرية الانعكاس؟
*** إن ما كنا نقوله للتو يفَنِّدها بصورة جزئية فقط. لقد وَجَدَ الماركسيون وغير الماركسيين في نظرية الانعكاس نقطة ضعيفة في مسار لينين الذي ابتكرها في "المادية والتجريبية النقدية". وأنا اعتقد أنهم غالبا ما نظروا إلى الانعكاس كما يقول به لينين، أو بطريقة كاريكاتورية. فإذا أردنا أن نضع هذا المؤلَّف "المادية والتجريبية النقدية" في سياقه التاريخي، فإن ما كان حَمَل لينين على إنجاز هذا البحث الفلسفي هو الحالة السياسية الصعبة التي كان الماركسيون في روسيا العام 1910 يجتازونها. وكانوا التفتوا من الناحية الثقافية نحو مفكري نظرية المعرفة (الأبستمولوجيا). وكانوا يزعمون أنهم عثروا في الاكتشاف العلمي على وجهة مثالية. أي أن المثالية هي إحدى نتائج العلم. الأمر الذي حَمَلَ لينين على الالتفات نحو الفلسفة بحيث يستطيع أن يخوض في غمار المشكلة. لذا تراه يتردَّد على مكتبة الصوربون بباريس، ومكتبة الجامعة في جنيف. حتى أنه قال إني قرأت الفلسفة حتى الثمالة. وكان الشغل الشاغل للينين هنا أن يدحض المثالية ويفنِّدها. ولكي يؤكِّد على المادية تراه يقول إن الأفكار، بما في ذلك الأفكار العلمية، تعكس حالة ما من المعرفة ومسارا ثقافيا موجوداً في المجتمع. وعلى هذا النحو، فإن الأفكار العلمية ذات صلة بالواقع شأنها شأن الأفكار السياسية. فإذا كان هذا الانعكاس يَتوضَّح في العلم، فإنه أصعب بكثير في العلم عنه في السياسة. والانعكاس كما يقول لينين ليس نسخة طبق الأصل عن الواقع، وإنما هو دياليكيتكي. بمعنى أن التبادل مستمر ما بين الممارسة والنظر في المفهوم العلمي من حيث ظهوره، صياغته وتطوره. دياليكتيكي أيضا من حيث زمانه الذي ينتقل من العام إلى الخاص، ومن الكثرة إلى المُفرَد، بما يطرأ عليه أثناء الوقت اللازم لمثل هذا الانتقال من تغيير وتطور وتحوُّل، من صيرورة. إن لينين يُعَرِّف المادة من حيث هي موضوع الفكر، ومنها أُفَكِّر.
إن نظرية الانعكاس تندرج في هذا السياق. فلكي تَنضج الأفكار لا بد من المادة. والعلاقة ما بين المادة والفكر يُسمِّيه لينين انعكاساً. بيد أن عبارة انعكاس لا تُعبِّر عن هذه العلاقة تعبيرا سليما، لأن كل انعكاس ميكانيكي. والحال إن علاقة المفهوم العلمي بالبحث والاكتشاف ليست ميكانيكية وإنما دياليكتيكية. ولينين يوجِّه الأنظار إلى هذه النقطة، وهي أن من السهولة بمكان على المثقَّفين أن يغادروا المادية أو الماركسية إلى المعسكر المضاد، وهو المثالية، حيث السياسة لا تمت بصلة إلى السياسة البروليتارية. إنه يبيِّن أن السياسة البروليتارية تركيب مستمر متطور ومتغيِّر للعلاقة الجدلية ما بين النظر والممارسة، المادة والفكر، أو ما يسمَّى الانعكاس. فلقد كَتَبَ لينين "المادية والتجريبية النقدية" يحدوه هذا الهدف بالذات. ولولا ذلك لما أَنجز هذا العمل.
 
تاسعاً: نـظـــريـة الإدراك مـا بـين المـاركـســـية                                                                                                                                                                                                                            والفيـنـومــينولـوجــيا
 
 1/ إن دياليكتيك الإدراك يقودنا إلى الفينومينولوجيا (علم أو مذهب الظاهريات). إذ أن كل وعي هو وعي بشيء، فلا وجود للوعي بدون المادة من حيث هي موضوع الإدراك ومادته. والماركسية تَفتَقِد إلى نظرية في الإدراك. ولعل  موريس ميرلو بونتي Maurice Merleau -Ponty يسد هذا النقص. وهو الأقرب الى ماركس من حيث ماديته؛ أليس كذلك؟
*** الفينومينولوجيا نظام فلسفي ذو إطار خاص ألا وهو الفكر الألماني في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ونقطة البدء في هذا المذهب هو الظاهرة بالمعنى الكانطي، أي أن الظاهرة تتميِّز عن الشيء- في- ذاته. ثم تكوَّنت الفينومينولوجيا بعلاقتها مع الأنطولوجيا، أو الكائن من حيث هو موجود. والفينومينولوجيا تُعنى بما هو كائن. وهي لدى إدموند هوسرل Edmond Husserl، ثم لدى ميرلوبنتي وسارتر تُدرِك الموضوع من حيث هو موضوع، ويَستمدُّ تعريفَه من حيث هو كذلك. إن هذا المسار موازٍ للمادية. الأمر الذي حدا بالماركسيين إلى الاهتمام بهذا المذهب. ومن هؤلاء أَذكُر تران دوك تاو (Trân Du’c Thao، وهو فيتنامي، تلقَّى دراسته الجامعية في باريس ثم عاد إلى بلاده. وكان أول ماركسي يكتب حول الفينومينولوجيا، حيث عُني بالعلاقة ما بين المادية والفينومينولوجيا، كما بيَّن المسافة التي تفصل ما بين الأولى والثانية. وهو ينتقد بشدة الفينومينولوجيا لدى هوسرل التي تصب في المثالية. ثمة تقارب مع المادية الدياليكيتيكية، وثمة بالمقابل تباعد. وكان ميرلوبنتي في مطلع الأمر قريبا من الماركسية، ثم ابتعد عنها كما يظهر ذلك في مؤلّفه "مغامرات الدياليكتيك". أما في مؤلَّفه "فينومينولوجيا الإدراك"، فإن الإدراك لا يظهر من حيث هو انعكاس، وإنما من حيث هو واقع مادي ذو بنية جدلية كما هو واضح في نظرية المرايا، أو في بُنى العلاقات الموضوعية ما بين الأشكال. وميرلوبنتي، من هذه الزاوية، بعيد عن هوسرل الذي يُدْرِج المذهب في مسار مثالي يَستند إلى الرياضيات. وهذا الأخير أخصائي في الرياضيات، التي قادته إلى المثالية، كما قادت من قَبلِه أفلاطون.
 
2/  ونظرية الغيشتالت (الشكل) Théorie de la forme  أليست مادية؟
*** إنها مشابهة للفينومينولوجيا من حيث أنها تُبَيِّن أن الإدراك يندرج في بنى من العلاقات ما بين الأشكال. وقد ساعدت الغيشتالت على إحراز تقدُّم واسع في التحليل النفساني. وهي، إذ تبقى وثيقة الصلة بما هو معاش، فإنها قريبة للغاية من المادية، وإن كانت لا تُعرِّف نفسها من حيث هي مادية.
 
                                        عاشراً: ماركــس وإنجلز متكــامــلان
 
1/ إنك تولي اهتماما خاصا بإنجلز، وتدعو إلى دراسة أعماله ومنحها مكانة مساوية لأعمال ماركس. وهذا جديد في البيداغوجيا الماركسية.
*** سئل إنجلز عن معنى السعادة، فأجاب: طبق من الطعام ممتلىء  باليخنة ولحم الخروف مع كثير من التوابل، وإلى جانبه كأس من الخمر من نوع شاتو مارغو 1848. أريد أن أقول إن إنجلز إنسان مدهش، رائع، جميل المعشر، مرح، وطيب الصحبة. إنسان كريم وفي غاية من التواضع، يهوَى قيادة السفن والأحصنة ولعب الورق، ويتحدَّث اثنتي عشرة لغة. وقد تحدَّى التقاليد والأعراف التي كانت سائدة في عهده عندما عاشر امرأتين وأحبَّهما دون أن يتزوج منهما. إن الحركة العمالية ورثت عن ماركس خجله وحشمته أكثر مما هي ورثت عن إنجلز فكره المتحرِّر.
وكان إنجلز يَشْغَل – على حد قوله – دور الكمان الثاني في الفرقة السمفونية، وذلك في إشارة إلى أعماله الضخمة مع ماركس أو بدونه، وإن كان هو نفسه مؤسِّس لها. وكان اسمه، بالرغم من ذلك، في أغلب الأحيان، مقترنا باسم ماركس، أو قلما يأتي ذكره بمفرده. ولم يحظ إنجلز قبل الندوة الدولية المخصَّصة له في العام  1995 باهتمام على انفراد (أعمال الندوة الدولية التي عُقِدَت بجامعة باريس العاشرة "نانتير" بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة إنجلز. وعن هذه الندوة صدر تحت إشراف جورج لابيكا كتاب "فريدريك إنجلز، العالِم والثوري"). فكما لو أن ماركس وإنجلز اسم واحد لشدَّة ما حُجِبَ اسم إنجلز وراء  اسم  ماركس. هذا، وإن كانت الماركسية انتشرت في العالم بفضل أعمال إنجلز.
وكثرٌ هي الحالات التي تتداخل فيها المفارقات ما بين ماركس وإنجلز. فأعمال ماركس ذاع صيتها بفضل إنجلز. وبالرجوع إلى إنجلز ظهرت أعمال المنظِّرين الماركسيين اللاحقين. فهل "خان" إنجلز ماركس عندما اختصر بعض أعماله وبسَّط في عرض أفكارها؟ نعم إن المؤلَّف "انتي- دوهرينغ" يحمل توقيع إنجلز، بيد أن ماركس وانجلز كانا متَّفقان على القبول بمجادلة كارل دوهرينغ على الفور وفي جميع المجالات، دوهرينغ صاحب النفوذ الواسع في صفوف الاشتراكية الديمقراطية الألمانية. نعم، إن إنجلز هو المسؤول مع الأسف عن نشر الكتيب الذي يحمل عنوان "الاشتراكية الطوباوية، والاشتراكية العلمية". وعن هذا العمل صدر كتاب الصلوات لستالين: "المادية التاريخية، والمادية الدياليكتيكية". وقد دفع إنجلز ثمن هذه المجازفة.
عن هذه النصوص المنتشرة متن "الاشتراكية الطوباوية، والاشتراكية العلمية"، وغيرها، ظهرت أعمال مقدَّسة كالكتب السماوية تحمل اسم "الماركسية". ولم يوفِّر إنجلز أثناء حياته جهدا في تفنيدها.
وإلى إنجلز يعود الفضل في حمل ماركس على الاضطلاع بدور الكمان الأول في الفرقة السمفونية، وأن يكتشف فويرباخ، وأول نقد للاقتصاد السياسي، ونقد الدين، ودراسة الطبقة العاملة، والفكر الشيوعي الفرنسي والألماني والإنجليزي، وقراءة أوين، وفوريِّة وسان سيمون، وانتقاد المثالية الألمانية للمرة الأولى، والاهتمام بالعلوم، والتنبُّه لتحرُّر المرأة، وأن يدرس التشكيلات الجماعية الشيوعية الأولى في الولايات المتحدة. أولم يستند ماركس في "البيان الشيوعي" على مدوَّنتين اثنتين لإنجلز؟ إن  ماركس يعترف لإنجلز بذلك كله عندما يكتب في العام 1864 إليه قائلا: "إني أمشي على هدي خطاك".
وإذا استثنينا مؤلف إنجلز "دياليكتيك الطبيعة" الذي نُشر في موسكو بصورة غير  منسجمة استنادا إلى مسودَّة، وهو يحتاج إلى صياغة جديدة جملة وتفصيلا، فإن نفوذ إنجلز يفوق نفوذ ماركس من حيث انتشار أعماله، وبوجه خاص "انتي دوهرينغ"، ولودفيغ فويرباخ" و"نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية". وهي أعمال بيداغوجية ومناضلة.  وكثر الرجوع إليها كمراجع واسعة الانتشار.  ويعود إليها  كل من  لينين  وستالين.
إن العلاقة ما بين ماركس وإنجلز متكافئة ومتوازنة، وثمة توزيع للعمل بينهما بناءً على اتفاق مشترك. لماركس نقد الاقتصاد السياسي، ولإنجلز الفلسفة، والعلوم، وتاريخ العلوم، والأنثروبولوجيا، ودراسة الدولة. وتحمَّل إنجلز مسؤوليات في الأممية الثانية، والعمل اليومي، وتصحيح ما فات من أخطاء. فقد كتب ماركس "رأس المال". وما بعد وفاة ماركس انكب إنجلز على نشر الجزئين الثاني والثالث من "رأس المال"، في ما كان يواجه في الوقت نفسه تنامي الحركة العمالية في العالم. ثم مارس النقد الذاتي في مقدِّماته للطبعات الجديدة لأعمالهما لدحض التفسيرات الميكانيكية والحتمية الآلية، والتي استُقِبَلت بالغضب في أوساط الحركة العمالية والشيوعية والاشتراكية الديمقراطية. واعتبارا من ذلك، إنك تَلقى أن ما فنَّدَه إنجلز من أفكار هي التي لقيت رواجا. حيث أن المذهب الاقتصادي المغالي في ميكانيكيته هو الذي سيطر على الأممية الثانية. كما أصبحت قوانين الدياليكتيك هي المرجع والقوقعة الفارغة التي               تشبه المنطق الصوري حسب تعريف رينيه ديكارت له بوصفه "عذراء عقيمة". ومثل هذه              المنطق والمقاربة غريبان عن الفكر المتحرِّك بدون توقف لإنجلز، والذي يحمل وصية هي نشيد من      أجل الديمقراطية.
 
2/  كيف تميِّز ما بين ماركس وإنجلز، وكنتَ في السبعينات والثمانينات تقول إن مادية إنجلز أكثر تشدُّدا من مادية ماركس؟
*** إن صداقة ماركس وإنجلز حالة فريدة في التاريخ، ولا مثيل لها بين صديقين. فأحدهما ظِل للآخر، وهما متكاملان. إلا أن مساريهما يلتقيان أحيانا وينفصلان أحيانا أخر. هما منفصلان لأنهما متكاملان. فإنجلز الشاب يلتحق بالشيوعية بصورة أبكر من ماركس. ذلك أن إنجلز يُدرِك منذ وقت مبكَّر ما هو الاستغلال وصراع الطبقات من جراء عمله في مصنع والده، ويرى بأم عينه أيضا كيف يبرِّر رجال الكنيسة استغلال العمال.  الأمر الذي يحمله على الإعلان عن إلحاده بصورة أكثر وضوحا مما كان عليه الأمر لدى ماركس. وإنجلز تلقى تربية تقوم على التقوى، وهي محافظة ومتمسِّكة بالتقاليد، ما اضطره إلى التخلُّص منها. أما ماركس فلم يُشَكِّل الدين لديه في أي يوم مصدرا للمشكلات. فجدُّه كان حاخاما، وأبوه اهتدى إلى المسيحية. لذا فإن الدافع الشخصي لإنجلز نحو الشيوعية وما يرافقها من نزوع قوي إلى المعارضة بصورة أوضح بكثير مما نلقاه لدى ماركس الذي بدأ الأعمال الأولى في حياته بالتأمل الفلسفي. ويُذكَر أن إنجلز كان لامع الذكاء في شبابه، إلا أنه اضطر إلى قطع الدراسة، فهو لم يَلتحق بالجامعة لمدة طويلة بخلاف ماركس، وقد استعان به والده على رأس المؤسسة الإنتاجية التي كانت ملكا له.
والملاحظ أن حياة إنجلز في مسارها ليست فلسفية بالمعنى الدقيق للكلمة، وذلك على النقيض من ماركس. وكان إنجلز يحتج عندما يدعونه دكتور. وكان يرد بأن ماركس هو الدكتور في الفلسفة. وكان إنجلز - كما قلت قبل قليل – التحق بالشيوعية قبل ماركس، وتأثَّر بالتربية والثقافة التي كانت "عصبة الشيوعيين"  تنشرها بين العمال، وتنبَّه إلى صراع الطبقات في ألمانيا، وكان أول من مارس نقد الاقتصاد السياسي. إن ذلك كله يجعل من أعمال إنجلز – كما يقول ماركس – في "رأس المال" أعمالا لو لم توجد لما فَهِمَ ماركس نفسه أي شيء. نعم، كان إنجلز ضرورة لا مفر منها لبناء المادية التاريخية والشيوعية العلمية. 
هذا في ما يتعلق بانفصال المسارين وتلاقيهما. ثم تأتي مرحلة النضج التي شهدت تعاونهما بصورة وثيقة. إن حيِّز الاكتشاف كان من الصعوبة بحيث يستحيل على أيٍ منهما أن يكتشفه بنفسه على انفراد، وكان تقاسمه بينهما ضروريا. فقد كرَّس ماركس عمله على نقد الاقتصاد السياسي. واستغرق هذا العمل ثلاثين سنة. ومات ماركس قبل أن ينتهي من إنجاز العمل. وكان على إنجلز أن يُنجِزَ ما تبقى من عمل، أو إنجاز العمل السياسي، وفي مقدمته "أنتي دوهرينك". ولما كان إنجلز اضطر إلى تعريف الماركسية وتحديدها بعد وفاة ماركس، فإنه ألحَّ على المادية والدياليكتيك. لذا فإنهم يأخذون عليه أنه مادي ميكانيكي، وذلك على نقيض ماركس الذي لم يَقترب من هذا الحيِّز المادي للعلم.
إنجلز هو الذي زجَّ بنفسه في قلب المعركة، وجازف بحياته، وتحمَّل الأعباء الجسام والمهام الصعبة على الصعيد النظري، كما من حيث النضال والممارسة. فلقد تحمَّل مسؤولية التوجُّهات النظرية والسياسية للأممية الثانية. وكان مضطرا إلى كفالة التحريفيين الإصلاحيين بين حين وآخر، وكان مضطرا أيضا بين وقت وآخر إلى تصحيح العامل الأعلى المحدِّد أو المقرِّر في الحتمية من حيث هي نظام من العِلِيَّة بالمعنى الضيق، والتنبيه إلى أهمية الدياليكتيك لنقد الحتمية بمعناها الضيِّق، وتعريف البنى العليا، وذلك كله بخلاف ماركس الذي لم يتحمَّل مثل إنجلز هذه الأعباء.
مما تقدَّم ننتهي إلى نتيجة مؤداها أن التعارض ما بين ماركس وإنجلز معدوم. فإنجلز هو الذي كَتَب الجزء الثاني والثالث من "رأس المال"، استناداً إلى الملاحظات والمدوَّنات التي كان ماركس تركها. والتكامل بين الاثنين يرتقي إلى مرتبة من الكمال إلى حد أن أيأ كان ما كان له أن يَكتُبَ الجزأين الثاني والثالث من "رأس المال" كما فعل ذلك إنجلز الذي كان يعرف بدقة كيف يفكِّر ماركس ويعمل.
 
3/  إنجلز أكثر تأثراً من ماركس بعلوم الطبيعة؟
*** لدى وفاة ماركس كان إنجلز ألقى خطابا أشار فيه إلى عملاقين، وهما ماركس وداروين. علما أن هذا الأخير كان يستهين بماركس. وكان إنجلز صاحَبَ علماء الطبيعة عندما كتب "أنتي دوهرنيغ". وكان لديه ميل نحو الذهاب إلى ميكاينيكية العلوم الجامدة كعلم الطبيعة. وإنجلز عندما يفسِّر الدياليكتيك، كالقوانين، والتغير النوعي، وغير ذلك، فإن تفسيره هذا لا يخلو من الناحية التربوية من فائدة إذا ما وُضِع هذا التعليم بين أيدي الأطفال والمبتدئين في قراءة الماركسية. إلا أن مثل هذا التعليم، إذا ما وقف عند هذا الحد من التبسيط، فإنه لا يقوى على إحراز أي تقدُّم ملموس وفاعل على مستوى النظرية والممارسة على حد سواء. بل إن قوانين الدياليكتيك كما استخلصها إنجلز لا تفيدنا في شيء؛ نعم كانت عظيمة الفائدة للماركسيين الذين كانوا في بداية عهد الماركسية يُطبِّقون قوانين الدياليكتيك لإنجلز في أبحاثهم في مجال الفيزياء. الأمر الذي كان يلقى النجاح بصورة مستديمة. لكننا في التاريخ لسنا أمام الماء الذي يغلى في قدر ويتبخر. وأيا كانت المقارنات ما بين ماركس وإنجلز، فإنهما كلٌ واحدٌ لا يتجزأ في ما يتعلق بالثورة ضد علاقات الإنتاج الرأسمالية.
 
4/ ألم يَكتشف ابن خلدون علم التاريخ قبل ماركس. فالفكرة الكامنة ما وراء قوانين المقدِّمة تعلن عن نشأة علم للتاريخ، لتطوراته، وتغيُّراته، بالإضافة إلى العلاقة ما بين الأحداث التاريخية والإيديولوجية، ما بين السياسة أو أحداث التاريخ والدين. وإن الموضوعية والدياليكتيك موجودان في متن المنطق العقلاني الذي يقود المقدِّمة. فكأن هيجل وماركس مقيمان في المقدِّمة. والسؤال هو لماذا كان ماركس أكثر حاجة إلى داروين منه إلى ابن خلدون؟
***  إذا قبلنا بصورة عامة بفكرة "الخَلَف"، فقد يجوز حينئذ القول إن ماركس خلف لابن خلدون. لكن ماركس لم يطِّلع على أعمال ابن خلدون. وماركس لا يشير إليه إلا بصورة ثانوية وهامشية في ضوء كتاب كان اطَّلع عليه في نهاية حياته. وبالمقابل، فإذا كان لدى ابن خلدون مفهوما "علميا" للتاريخ، فإن مفهومه ذو مسار دوري، ويعيد نفسه. أما داروين فقد بيَّن بالأدلة العلمية أن الطبيعة لها تاريخ، وأن الأنواع الحية هي نفسها تتطور حسب قوانين. وإنجلز يلح على هذه الفكرة الداروينية يوم رثائه لماركس أثناء مراسم دفنه. وبتعبير آخر ثمة موازاة ما بين ماركس وداروين. وكنت دوما أُردِّد أمام تلاميذي العبارة التالية: "إن للتاريخ طبيعة (القاعدة الاقتصادية)، كما أن للطبيعة تاريخ (التطور).
 
5/ هل الماركسية والداروينية زوجان لا ينفصلان، فلا يصح أحدهما بدون الآخر؟ وهل كان             ماركس بحاجة إلى داروين؟ وهل تقف الماركسية على قدميها لو هي حُرِمَت من مذهب التطور         الطبيعي لداروين؟
 *** إذا نحن تمسَّكنا بالرؤية الميكانيكية أو "الاقتصادوية" التي تَعْتَبِر أن "القاعدة" هي بصورة مستديمة التي تمارس دور العامل المحدِّد للحتمية على الصعيد المجتمعي، حينئذ يبدو مثل هذا الانحراف الدارويني لدى بعض الماركسيين، والذي يوازي ما بين التطور الطبيعي والتطور التاريخي بالمعنى "الاقتصادوي"، أمرا لا مفر منه.  ونحن هنا نقف أمام أمرين اثنين. فمن جهة، يَمْثُل أمامنا الإغراء المثالي الذي يمنح المزايا كلها للفكر. وثمة من جهة ثانية وهم بأن الظواهر منقادة للاستقلال الذاتي. لكن ما هو اقتصادي حسب المادية التاريخية ليس سوى "العامل المحدِّد الأخير للحتمية"، حسب ما كان يقوله إنجلز بإلحاح، أو"المُخرج المسرحي" للحياة المجتمعية وعناصرها حسب ما يقول ألتوسير. المحدِّد هو صراع الطبقات وما يحمله من موازين قوى، واستراتيجية، ووعي، إلخ. مُحَدِّد الحتمية هو تكوين تاريخي مجتمعي خلَّاق للمعرفة أو خلاق لغيره من التكوينات المعرفية.  ثم إن للمنهج دورٌ، فهو الذي يلتقط العلاقات، وهي معقَّدَة بمكان، حتى أن الموضوعات قيد البحث، وإن كانت بعيدة للغاية، إلا أن أيا منها لا يفلت من صراع الطبقات.
 
6/ إن الاهتمام بمسألة البيئة في أعمال ماركس وإنجلز حديثة العهد نسبياً. فما هو معنى البيئة في أعمالهم؟
*** كانت العلاقة ما بين الفكر والطبيعة لدى هيجل تَشْغَل حيِّزا صغيرا للغاية. وقد انتقد فويرباخ ذلك بصورة جذرية مؤكِّدا أن "الطبيعة هي ماهية الواقع". وقد استفاد كل من ماركس وإنجلز من انتقادات فويرباخ لهيجل. ففي "مخطوطات العام 1844"، وفي "غروندريسه" يُبَيِّن ماركس أن الطبيعة هي "جسم الإنسان غير قابل للحياة"، وأن الإنسان جزء من الطبيعة، وأن الحفاظ على الطبيعة هو، بنظر الإنسان، الحفاظ على نفسه.
وإن اللقاء ما بين الطبيعة والإنسان يمر عبر الحياة في المجتمع. والعمل في المجتمع الرأسمالي يَسْتَلِب الطبيعة ما دام يَفرض عليها سيطرته، والطبيعة في مثل هذه الحالة ليست قوة لذاتها. والشيوعية تُفهم هنا بوصفها "الطبيعة المُكتَمِلة التكوين وقد أنجزها الإنسان". فالإنسان هو "الحل الحقيقي للنزاع ما بين الإنسان والطبيعة، ومابين الإنسان والإنسان". ويحاول إنجلز أن يدلِّل بأن الطبيعة هي "منضدَة تجارب الدياليكتيك".
 
7/  لم يمارِس هيجل على إنجلز التأثير نفسه الذي كان يمارسه على ماركس؟
***  صحيح، كان ماركس فيلسوفا من حيث التأهيل التربوي، وقد قرأ هيجل وأعاد قراءته مرارا. بخلاف إنجلز الذي يكتشف هيجل في مرحلة متأخرة. ومن غير المؤكِّد أنه بلغ إلى أعماق هيجل بالدرجة نفسها التي وصل إليها ماركس. علما أن إنجلز كان يجري صباح مساء من أجل توفير لقمة العيش، في ما كان ماركس يكتب ويقرأ.
                        عاشراً: التاريــخ من حــيث هــو عــلم وثــورة
 
1/ حَمَلَت الماركسية التاريخ إلى مقدِّمة المعارف، واعتبارا من هذه الثورة في نظام المعارف فإن السياسة لم تعد تحتاج إلى الفلسفة والقانون وعلم الأخلاق، ناهيكم بالدين، لتبرير نفسها، فقد أصبحت السياسة مع الماركسية تَستَمد شرعيتها ومبرِّراتها من التاريخ. فلقد استغنت الماركسية عن هذه المعارف والعلوم لتبيِّن أن التاريخ هو وحده الذي يبرِّر السياسة. لعل هذا هو أهم ما جاءت به الماركسية كثورة في المعرفة والممارسة، أليس كذلك؟
*** نعم، إن الأساس هو المادية التاريخية، أو المقاربة العلمية للتاريخ الذي لم يكن حتى غاية ماركس موضعا لمقاربة علمية. كان التاريخ موضعا للآراء والأحكام والشخصيات الهامة، وكان التأريخ تراكما لمصادفات وليس موضعا للمعرفة. وكان حيِّزا ينعدم فيه كل يقين. كان باختصار سلسلة من الأفكار والشخصيات. وما يحمله ماركس فكرة مؤدَّاها أن قاعدة التاريخ مادية، إنها تاريخ الإنسان والمجتمعات، وما بين هذا وذاك علاقات قوة، وصراع طبقات، وعلاقات إنتاج تتطور، وإن ذلك كله يَخَضع للتحليل العلمي. بيد أن مقاربة التاريخ ليست هي نفسها مقاربة علم الطبيعة. واللغة الألمانية تعرف هذا التمييز أفضل من غيرها. فمصطلح العلم بالألمانية هو فيزينشافت  visenshaft، وإذا ترجمنا فيزينشافت إلى الفرنسية، فإن المعنى يتغير، لأن مصطلح علم بالفرنسية  science (سيانس) يقابله بالألمانية مصطلح       veman الذي يدل على الفيزياء وعلم الطبيعة. هذا، وإن مصطلح فيزينشافت بالألمانية يشمل أيضا علوم الثقافة، ومنها الآداب visenschaftlitaratura. وإن مصطلح علم بالألمانية أو فيزينشافت يدل على كل مسار عقلاني أيا كان الموضوع قيد البحث.  أما في اللغة الفرنسية، فإن موضوع البحث هو الذي يُحدِّد المسار أو البحث. والتاريخ يندرج في إطار فيزنشافت وليس فيمان.
هذا هو إسهام ماركس. إذ أن التحليل المادي لعلاقات القوى وعلاقات الإنتاج والصراع الطبقي يكشف عن تأثير هذه التكوينات في مسار التاريخ تأثير الفعل نفسه، وذلك عبر القوى العاملة، ورأس المال، والعمل. وهذا التحليل يَسمَح بإحراز انتقال مجتمعي، وذلك في ما كانت الفلسفة حتى الآن تفسِّر العالم بدل أن تغيِّره. هذا وإن التغيير المجتمعي يحتاج كي ما يُنْجَز إلى نظام سياسي، وحزب، وبرنامج سياسي، والوسائل التي تتيح  للحزب الوصول إلى السلطة.
 
2/ الثورة مع ماركس لم تعد بحاجة إلى تبرير قانوني كي ما تُنجَز، أليس كذلك؟
*** كلا بطبيعة الأمر.
3/ كنت أُريد أن أقول إن الثورة كي ما تُنجَز لم تعد بحاجة إلى القانون والفلسفة والدين وعلم الأخلاق ما دام التاريخ مصدرها.
*** نعم، هذا هو الصحيح، دون أن يعنى ذلك أن القانون والفلسفة عبث لا طائل منه.
 
4/ ستاتيس كوفيلاكيس في عمله "الفلسفة والثورة من كانط إلى ماركس"  يُبَيِّن أن الفلسفة الألمانية بدءاً من كانط وعبر الإصلاحيين الألمان في القرنين الثامن والتاسع عشر كانت تقع تحت تأثير الثورة الفرنسية. فقد كانت الفلسفة الألمانية تتطلَّع إلى إنجاز الثورة الفرنسية في ألمانيا بأدوات سلمية وعبر الإصلاحات أو بدون ثورة. إلا أن كانط وهيجل من بعده يعترفان في لحظات ما من مسارهما بأولوية التاريخ، وما هو حدث تاريخي ذات أولوية على القانون، بمعنى أن أحداث التاريخ تَفلَت من القانون  وتقضي عليه،  وتملي عليه  التغيُّر.
*** كان أندريه توزيل بيَّن ما تقوله أنت هنا على خير وجه في كتابه "كانط والثورة".  وقد أشرت في كتابي "روبسبيير، السياسة مصدر للفلسفة" إلى هذا الموضوع. فعندما تناهت إلى كانط أنباء الثورة الفرنسية ثار غضبا لأنهم قطعوا رأس الملك. إذ كيف لهم أن يقطعوا رأس الملك ؟!! هذا هو كانط من حيث هو رجل قانون بامتياز. بيد أن كانط مع مضي الوقت يدرك أن القانون قيد التغيِّير، ولم يعد هو نفسه في العهد الملكي. أي أن حدثا تاريخيا جديدا يُنتِج قانونه ويحل محلَّ القانون القديم. وما    يهم كانط هو أن القانون باقٍ. فإذا كان القانون عرضة للتغيير، فإنه وإن كان عرضة    للتغيير، إلا أنه باق.
وكان ماركس يبيِّن أن القانون الروماني القديم هو نفسه قانون المجتمع البورجوازي، لأن الملْكِيَّة هي القاسم المشترك بينهما. فكلاهما مُنتَج من أجل الدفاع عنها. والقانون يرمي بثقله في الميزان إلى حد كبير. حتى أن لينين يقول بدوره إن القانون البورجوازي ما بعد قيام الثورة، وفي المرحلة الانتقالية، سيُحافَظ عليه ما لم تصل المرحلة الانتقالية إلى منتهاها، وطالما لم تُلْغ الملكية الفردية.
والقانون هو الأيديولوجيا التي تَسمَح للطبقة السائدة أن تَحكُم وتمارس السلطة. إلا أن السلطات المضادة في المجتمع تَكشِف عن وجود الصراع الطبقي داخل القانون نفسه طالما يَنحِرِف القانون في غالب الأحيان عن مساره للالتفاف عليه وتطويقه. وهذا هو حال ما يُعرف بقانون العمل الذي يَكشِف عن الصراع الطبقي ضمن القانون البورجوازي.
 
5/ ما جاءت به الثورة الفرنسية يُبَيِّن أن الثورة، كي ما تُنجَز، ليست بحاجة إلى قانون لتبرير نفسها، إنها ثورة ضد القانون أصلاً. ووجه التجديد الثوري في الماركسية من حيث مسارها المعرفي هو فصل علاقة الثورة بالقانون والفلسفة والدين والأخلاق وتحريرها من هذه الأنماط من المعرفة. كان ذلك كله ضمنيا في الثورة الفرنسية التي لم تَستمد مبرِّراتها من القانون والدين والأخلاق والفلسفة. وقد أَرغمت الثورة الفرنسية بهذا المعنى الفلاسفة الألمان على العمل طوال العقدين قبل أن ينتهي هذا المسار إلى ظهور ماركس الذي يبرِّر الثورة بالعودة إلى التاريخ وماديته دون غيره من المراجع. إن التاريخ مع ظهور ماركس هو وحده الذي يبرِّر السياسية والثورة.
*** إن ما يميِّز الثورة هو أنها تُعطي الكلام والقرار للجماهير. حتى أن الثورة تُلغي ما مضى بما في ذلك القانون القديم. لكنها تتحمَّل عبء تشييد قانون جديد. بيد أن ما بين القديم والجديد ثمة حيِّز واسع من الفراغ.  حفرة عميقة من الزمان تُتيح للجماهير أن تبتكر أثناء ذلك قانونا جديدا وتشريعات كي ما تملأ هذا الفراغ، وهو ما يسمِّيه لينين، في إشارة منه إلى هذا الفراغ، ب/"ليلة العيد الاحتفالي للمهانين"، حيث يُدَمِّرون خلال هذا الفراغ أو أثناء ليلة العيد كل شيء أثناء احتفالهم هذا، وثورتهم هذه. ويلي ذلك مسار من إبداع كل ما هو جديد.
 
                            أحد عشر: تفـنيد لمفهومي العلم والفلسفة
                                          بالمعنى السـتالـينيي
 
1/ ما دمنا بصدد الحديث حتى الآن عن الفلسفة والعلم، وكنتَ تحدَّثت عن تعذر القطيعة ما بين الأيديولوجيا والعلم، فاسمح لي أن أوجِّه إليك سؤال على الطريقة الصحفية. في نهاية المطاف أيُّهما من الاثنين أنتَ ترجِّح، الفلسفة أم العلم؟ أرجو منك أن تعذرني: إنه سؤال صحفي ليس غير، موجَّه إلى فيلسوف.
*** الماركسية ليست فلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة. وليس ثمة ما يدعو للعودة إلى الأسباب التي جاء الحديث عنها سابقا. إن الماركسية بالمقابل، وعلى نقيض ما كانت الستالينية تقول به، ليست علما بالمعنى الشائع للعلم، كالعلوم التجريبية، والفلك، والفيزياء، والرياضيات، والبيولوجيا، وعلوم الطبيعة، إلخ.. إن ستالين روَّج لمثل هذا المفهوم العلمي للماركسية. وهنا تكمن إحدى مقوِّمات العقل الستاليني. فالماركسية بالمفهوم الستاليني علم. وهذا يعود إلى نص في أعمال ماركس من "مقدمة في المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" يشير إلى أن الوصول إلى درجة من التحليل في التاريخ تساوي التحليل في العلوم الطبيعية، ضروري. الأمر الذي روَّج بدوره الى الفكرة الستالينية القائلة بأن الفلسفة علم كأي علم بالمعنى الجامد لهذا النوع من المعرفة.
والحال إن الماركسية علم شأنها شأن العلوم الإنسانية. والعلوم الإنسانية كما يذهب الألمان مؤسِّسَة على أسس من المفهوم وليس التقنية. وهي علوم لا تصل إلى حد اليقين كما هو الأمر في ما يتعلق بالعلوم بالمعنى الجامد. لا لشيء إلا لأن موضوع الماركسية كعلم هو التاريخ. إذ أن موضوع العلوم الإنسانية، من التحليل النفساني، إلى علم الاجتماع، والانثروبولوجيا، والتاريخ، إلخ... صعب التحديد. وهو علاوة على ذلك متغيِّر ومتطوِّر، وخاضع للتعديل، وهو فوق هذا وذاك، وبخلاف العلم الجامد، يفلت من التنبؤ. ففي التاريخ ترتسم ملامح عن الأوضاع، في صراع الطبقات، وموازين القوى، والقوى المجتمعية المتصارعة في معركة سياسية، إلا أن ذلك كله وإن كان موضعاً للمعرفة، فإنه غير قابل للتنبؤ بصورة دقيقة. إن كل تنبؤ هنا يلازمه شرط، ألا وهو الاحتمالات التي ترافق هذا التنبؤ.
في الماركسية، إن أحد العناصر التي تحدِّد الحتمية هو تدخُّل الإنسان، ودور الجماهير في التاريخ.  بيد أن توقيت هذا التدخل يبقى مجهولا. وإن كل ما سيتمخَّض عن هذا التدخل غير معروف مسبقا            بصورة  يقينية.
الماركسية فلسفة أم علم؟ المسألة تستدعي لزوما الحذر. فلنقل إن الماركسية مسار علمي.  ويتضح الحيِّز العلمي للماركسية في مجال النظر والعمل، أو لنقل الوضع العلمي لها. هذا وإن المسار العلمي يتَّضح مقابل القراءة المثالية للتاريخ، ومقابل الفكرة القديمة والشائعة التي تقول إن الفكرة هي التي تقود العالم.
 
2/ ها نحن ذا في قلب الحتمية التاريخية. ما الذي آل إليه هذا المفهوم؟ 
*** الحديث عن العلوم يقودنا بالضرورة إلى الحتمية ومبدأ أو قانون العلِّية بصورة صارمة. إن ما هو حتمي وخاضع لقانون العلية في العلوم الإنسانية ليس مشابها أو مساويا للحتمية والعلِّية في علوم الطبيعة  كما جاءت على سبيل المثال في اكتشاف داروين لأصل الأنواع. وكان إنجلز تحدَّث عن اكتشافات داروين للتطوُّر والتحوُّل. وأفكار داروين تتيح لنا أن نفهم الاكتشاف العلمي في أعمال ماركس من حيث هي  اكتشاف لعلم التاريخ. هذا وإن ما بين ماركس وداروين اختلافات لا تكاد ترى بالعين المجرَّدة. فالحتمية التاريخية ليست كالحتمية الطبيعية وعلم الحياة صارمة وموضع للحسابات الدقيقة. لكن العلِّية في التاريخ حسب ما كان شائعا أخذت منحى ميكانيكيا يطبِّق الحتمية بصورة حرفية. حيث أن الاقتصاد هو الذي أصبح العامل الأول الذي يحدِّد غيره من العوامل والعناصر بصورة حتمية، وإلى الاقتصاد وحده، ولا شيء آخر سواه، يعود كل شيء. أي أن الاقتصاد هو الذي أصبح يحدِّد البنية المجتمعية كلها، من السياسة والثقافة والتحليل النفساني مرورا بعلم الاجتماع والآداب والأفكار. أصبح الاقتصاد، تحت تأثير فهم للحتمية كهذا، معادلة تقلِّص العالم كله إلى عامل واحد بعينه.
إن مثل هذا الفهم للحتمية يقود إلى خطأين اثنين. الأول ذو صلة بقوانين الإبداع والتي تغيب عن إدراك الحتمية الاقتصادية الأُحادية لها. فإذا أنتَ فسَّرتَ – كما يقول جورج لوكاش – رواية هونوريه دوبالزاك "مادام بوفاري" انطلاقا من الوضع الاقتصادي وأنماط الحياة عندما كان بلزاك يَكتب روايته، فإنني أُلقي أضواء هامة على روايته وثيقة الصلة بالبنى التحتية، إلا أنني أُهمل بصورة كاملة بالزاك من حيث هو عبقري. والخطأ الثاني مؤدّاه أن الخصوصية تَنعدم مع تقليص اقتصادي كهذا. فالتقليص الاقتصادي الأُحادي والمبسَّط يفوته إدراك كل الخصوصيات في المجالات غير الاقتصادية، أو ما نسميه بالبنى العليا، وإن كان الاقتصاد هو قاعدتها. وما يغيب عن إدراك تقليص اقتصادي كهذا هو، من جهة، عالم واسع من التداخل ذي الاستقلال الذاتي ما بين المجالات الثقافية في عالم الإبداع. وهو، من جهة ثانية، عالم واسع من التداخل ما بين المجالات الثقافية والاقتصاد. وما يغيب أيضا وبالنتيجة عن إدراك مثل هذا التقليص الاقتصادي الأُحادي هو العلية الثانوية التي تجعل من الثقافة أو غيرها، في شروط محدَّدة، تمارس تأثيرا على الاقتصاد نفسه.
لعلَّ هذا هو أهم ما جاء به ألتوسير عندما بيَّن أن العامل الأول المحدِّد للحتمية ليس هو نفسه دوما وفي جميع الحالات. إن القاعدة الاقتصادية من حيث هي العامل الرئيس المحدِّد للحتمية تَشبه المخرج المسرحي الذي يُؤوِّل نص الكاتب المسرحي. إذ ثمة أساليب مختلفة لإخراج مسرحية واحدة بعينها. والأمر يَختلف من مخرج إلى آخر. فقد تكون شخصية دون جوان، على سبيل المثال، في نظر هذا المخرج المسرحي شخصية فظَّة، أكثر مما يراها مُخرج آخر غيره. فالمُخرِج هو الذي يحدِّد أو يحتِّم الدور المسرحي لكل شخصية والعلاقات ما بين شخصيات المسرحية. وهذا يعني أن المُخرج المسرحي، وهو هنا يُمثِّل الحتمية الاقتصادية، قد يعطي الدور الأول للسياسة.
وقد ذَهَب ألتوسير في ما يتعلق بهذا الفهم للحتمية إلى ما هو أبعد في ما يتعلق بدور الفلسفة وتأثيرها في البني الفوقية والتحتية. فقد لاحظ ألتوسير أن لينين عندما كَتَب "المادية والمذهب التجريبي النقدي"  ما بين 1910 و1914 قد أشار إلى أنه شرب الفلسفة حتى الثمالة. فلماذا؟ يقول ألتوسير: إن السبب يعود إلى أن الرهانات الثورية في تلك الفترة كانت تجتاز الفلسفة. هي تجتاز الفلسفة وليس الاقتصاد. فإذا كانت الرهانات الثورية تجتاز الفلسفة وليس الاقتصاد، فلأن المخرج المسرحي، أي الحتمية، هو الذي منح الدور الأول للفلسفة. ذلك إن الخلافات والانقسامات التي كانت تسيطر على الفلاسفة كانت ذات طبيعة فلسفية. وعليه، فإن لينين كان ملزما بأن يغوص في الفلسفة ليؤكِّد على المادية عبر الفلسفة. وكان لينين يريد من وراء ذلك أن يعود إلى التأكيد على أولوية القاعدة.
 
3/ الثقافة مادة، وهي ليست روحا أو فكرا محضا، وليس ثمة مفارقة ما بين المادة والثقافة، أو تعالٍ للثانية إلى ما فوق المادة، فإذا كانت الثقافة تمارس تأثيرا في المادة، فإنها تمارسه من حيث هي بدورها مادة، فلا هي مثالية، ولا هي متعالية، ولاهي مثل أفلاطونية، ولا هي بالأحرى الفكر المطلقة لهيجل.
 *** نعم إنها مادة مجتمعية مكوَّنة من إنتاج خلاق يبدعه المجتمع، والفرد من حيث هو كائن مجتمعي. فهي ليست من إنتاج المثقفين، إنما من إنتاج المجتمع أيضا لأن الثقافة موضوع. إنها هذا المقعد. وهو موضوع ثقافي طالما هو نِتاج عمل يُنَفِّذ رسما جماليا. إن الثقافة بهذا المعنى خلق مفيد وجميل، وهي مادة مجتمعية.
 
4/ الحديث عن الحتمية يقودنا إلى الغائية في التاريخ. كيف تفنِّد غائية التاريخ؟
*** غائية التاريخ تعود إلى الماضي القديم، وهي وثيقة الصلة باللاهوت. وهي التي تسمح للتفسير الميتافيزيقي واللاهوتي بالتعالي. وحتى عندما تُسَلِّم هذه الغائية بأن التاريخ يتقدّم ويتأخَّر، إلا أنها تعود لتؤكِّد بأن المسار العام يتَّجه نحو الخلاص الأبدي. ثم ظَهرت بحلول عصر الأنوار نظرية للتقدُّم علمانية. فعصر الأنوار واليسار واليعاقبة، والملحدون، والعلميُّون، نادوا بمقولة مؤداها إن التاريخ تقدُّمٌ مستمر، وإن هذا التقدُّم هو نفسه تقدُّم العلوم.
ويأتي التفنيد لغائية التاريخ على أُسس من افتقاد مجرى التاريخ لمسار تطوري يذهب في منحى الخلاص الأبدي للروح وغير ذلك من أفكار لاهوتية. وقد جاءت فكرة المدينة الشيوعية كغائية للتاريخ ما بعد غائية التقدُّم العلمي التي كانت ظهرت بدورها ما بعد عصر الأنوار. حيث قُرُأ الصراع الطبقي لدى ماركس من حيث هو غائية للتاريخ يَنْتَقل بموجبها التاريخ من نمطٍ للإنتاج جماعي إلى آخر إقطاعي بـأشكاله الآسيوية وغيرها، فالرأسمالي، وهو نفسه يَحمِل في طياته نمطاً آخر من الإنتاج هو نمط الإنتاج الشيوعي. وما المجتمع الشيوعي حسب هذا التفسير إلا غائية التاريخ ومنتهاه، حيث تنتصر البروليتاريا انتصارا لا عودة عنه.
والغائية التاريخية حسب تصوُّر شيوعي كهذا تأتي لتعزِّز وتكمِّل الحتمية الميكانيكية وتوضِّحها، وذلك على نقيض ما كان يقوله ماركس في تفنيده للغائية. فهو يلاحظ أن الشيوعية انتحاءٌ عن الرأسمالية. ونحن نعرف اليوم أفضل مما كان يعرفه ماركس. إذ أن الشيوعية ما هي إلا حالة من الانتحاء بين حالات غيرها عن الرأسمالية، وثمة حالات من الانتحاء غير الشيوعي منها. فإذا كان الانتحاء الشيوعي أحمر اللون، ثمة انتحاء أسود، وآخر زهري اللون. والتاريخ نتاج صراع ما بين حالات الانتحاء التي تَنتصِر إحداها على غيرها ما بين فترة وأخرى. ثمة، بهذا المعنى، انتحاء للرأسمالية فاشي أو نازي، وآخر عسكري بونابرتي، ثم اشتراكي فاشل، وآخر ناجح. الصراع الطبقي بمفهومه السياسي هو الذي يرجِّح انحناءً ما على انحناء آخر؛ معركة موازين القوى مرفوعةً على أسس من استراتيجية ثورية لبرنامج شيوعي يستحق عن جدارة وصفه بالشيوعي.
صحيح إن ماركس وإنجلز يُحمِّلان "البيان الشيوعي" مظاهر فكر الأنوار، طالما هما يعتقدان أن العالم آيل إلى التقدُّم. فَحَسَب ما يعرضان للأمور في البيان الشيوعي، فإن المجتمع الشيوعي متأتٍ عن الرأسمالية، ومنها وفيها يَظهر. الأمر الذي يجعل من تحليل المجتمع في "البيان الشيوعي" تحليلا إيجابيا. فالبورجوازية أَنجَزَت ثورة في العالم. والبروليتاريا هي التي سوف تُنجِز الثورة الشيوعية. والحال إنه لمن الصعوبة بمكان التحرر من غائية التاريخ.
وبالرغم من ذلك، فإن إنجاز ثورة ما متعذرٌ ما لم تتحرر السياسة من الغائية. ذلك أن القوى الاقتصادية لن تُنجِزها من تلقاء نفسها. ومالم يتدخَّل الإنسان، فإنها لن تُنجَز. فالتناقضات لن تُدَمِّر رأس المال من تلقاء نفسها. والثورة لن تسقط علينا من علٍ كما تسقط تفاحة نيوتن. إلا أن الثورة، إذ هي وقفٌ على تدخُّل الإنسان، إلا أن الإنسان يتدخَّل ضمن الشروط الموضوعية، وهي شروط التناقض التاريخي. أي أن كسب المعركة ليس مكتوباً سلفا.