الطموحات الإقليمية لجمهورية إيران الإسلامية

باباك كيا
2016 / 1 / 30 - 21:26     


إن الاتفاق على ملف البرنامج النووي الإيراني، المنعقد في فيينا، في 14 تموز/يوليو الماضي، بين جمهورية إيران الإسلامية ومجموعة الـ5 زائد واحد (خمس دول أعضاء في مجلس أمن الأمم المتحدة، فضلاً عن ألمانيا)، يشكِّل الوضع الجديد لسلطة الملالي، في الشرق الاوسط.

هذا الاتفاق الذي أراده كل من مرشد الثورة، علي خامنئي، الشخصية الأولى في الجمهورية الإسلامية، والبيت الأبيض، يندرج في التتمة المنطقية للنص الموقع في نيسان أبريل الماضي، في لوزان. إن هذا الاتفاق، التاريخي، والممكن توقعه، هو نتاج سنتين من المفاوضات، ويضع نهاية لأكثر من 12 عاماً من الأزمات بصدد النووي الإيراني.

لقد اختارت طهران وواشنطن التسوية، في حالة الركود العميق التي يعيشها الشرق الأوسط. حصل التقارب بادىء ذي بدء في افغانستان، ضد الطالبان، ثم في العراق، لدى سقوط صدام حسين. وأخيراً، سرَّع هذه السيرورةَ التفككُ والتقسيمُ الفعليان لكل من دولتي العراق واليمن، وفقدان نظام الأسد سيطرته على الجزء الاعظم من الأراضي السورية، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية (المعروف أكثر بداعش). وذلك بوجه أخص، لأنه بات لامبريالية الولايات المتحدة وللجمهورية الإسلامية، مذاك، عدو مشترك: الدولة الاسلامية. وفي حين ساعدت المملكة السعودية وتركيا أردوغان داعش، من دون قصد، يظهر نظام طهران كحليف جديد وقوة إقليمية لا مجال لتجنبها، بالنسبة للبيت الأبيض. وبواسطة هذا الاتفاق، تنوي الإدارة الأميركية دمج الجمهورية الاسلامية زيادةً في جهازها الإقليمي، ولكن ذلك لا يحصل من دون تناقض، كما يشير إلى ذلك عداء دولة إسرائيل الاستعمارية، أو عداء ممالك الخليج الرجعية، أو عودة الدولة العظمى الإمبريالية الروسية بقوة.

أخيراً، يتيح اتفاق فيينا للدول العظمى الامبريالية أن تلجم برنامج طهران النووي، وتراقبه. فمفتشو الوكالة الدولية للطاقة النووية (و.د.ط.ن.) سيتمكنون من الوصول إلى المواقع النووية، وبعض المواقع العسكرية. وسيكون على طهران أن تَحُدَّ من عدد أجهزة الطرد المركزي (من 19000 إلى 5000)، وأن تخفض كثيراً مخزونها من الأورانيوم المخصَّب. وسيجري قصر تخصيب الأورانيوم على نسبة الـ 3،67‭%‬، خلال 15 عاماً، وعدد المفاعلات على مفاعل واحد هو مفاعل ناتنز.

اتفاق تاريخي، ومصالح مشتركة، وخضات إقليمية

هذه التسوية التاريخية، وهي الأولى منذ 1979، هي نتاج خضَّات متسارعة تصيب الشرق الأوسط. إن الخواء الإقليمي الحالي يسجِّل نهاية الحقبة التاريخية الطويلة التي افتتحها تمزيق الامبراطورية العثمانية، في نهاية الحرب العالمية الأولى. ففي الواقع، خلقت القوتان الامبرياليتان العظيمتان، الفرنسية والبريطانية، في اندفاعة نهاية الحرب العالمية الأولى واتفاقات سايكس- بيكو (1916) دولاً ذات حدود مصطنعة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. لقد اهتمت الدول العظمى بأن تضع في السلطة، في كل من الدول التي جرى خلقها، قوى أقلوية مرتبطة بالامبرياليات. هكذا، جرت الاستهانة بحقوق الشعوب والأقليات القومية لحساب مصالح الدول العظمى، التي لم تنفكّ تساند الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة.

واليوم، مع تنامي قوة الدولة الإسلامية، والإقليم الكردي الحاصل على الحكم الذاتي (في شمال العراق)، الذي يجب أن نضيف إليه تفكك دول اليمن، والعراق، وسوريا، تتم إعادة تكوين جنينية لحدود الشرق الأوسط. وبصورة من الصور، كل هذه المشاريع السياسية، و«القومية»، رجعية. إنها تشهد على انكفاء سياسي إلى القاسم المشترك الأصغر، ألا وهو الهوية الدينية و/أو الإتنية. هكذا تنوي داعش، عن طريق مشروعها وممارستها، تشكيل كيان سياسي «متجانس»، ومنظَّف من أقلياته. والمقصود «تطهير» على قواعد دينية، وإتنية، ورجعية عميقة.

وسياسة « المجانسة» هذه ليست من صنع الدولة الاسلامية وحسب، بل تلك أيضاً هي حال السياسة السعودية حيال السكان الشيعة الذين يعيشون في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية، في المملكة.

أما حكومة أردوغان التركية فتخوض صراعاً إجرامياً ضد الشعب الكردي للحيلولة دون خلق دولة كردية يمكن أن تعدِّل جغرافية المنطقة السياسية. كما أن تركيا ترفض أي وضع قد يؤدي إلى خلق كيان محكوم ذاتياً لأكراد سوريا. وهذا يفسر إلى حد بعيد مراعاتها للدولة الاسلامية ودعمها لها. وبصورة أكثر إجمالية، تندرج سياسة أنقرة هذه في سياق تاريخي لسياسة الدولة التركية. ونحن نقصد إنكار حق الأقليات، وحتى وجودها السياسي والثقافي. واعتداءا سروج وانقرة هما ضربة موجهة ضد الشعب الكردي، وبصورة أوسع ضد تيارات المعارضة الديمقراطية واليسارية في تركيا. وهما يشكلان الثمار المهترئة، المباشرة وغير المباشرة، لسياسة الدولة التركية.

اخيراً، يَحْسُنُ في هذه البانوراما الإقليمية الفوضوية أن لا نهمل انعدام الاستقرار المتعاظم، في لبنان وممالك الخليج النفطية، فضلاً عن هشاشة المملكة الأردنية المزمنة. وبصورة عامة، لا يسيطر على الديناميات الفاعلة أي من اللاعبين الأساسيين، الإقليميين والعالميين، ولا أحد يستطيع توقع تطوراتها.

إن هذه الخضات الكبرى هي النتيجة المباشرة للتدخلات الامبريالية التي تعاقبت منذ العام 1991، وللهجمة النيوليبرالية في العقود الاخيرة، التي هدَّمت أسس السلطات القائمة، وحدَّت من هوامش مناوراتها الزبائنية. وعلينا أن نضيف إلى هذه العناصر فساد النخب الحاكمة، والطابع الديكتاتوري لدول المنطقة، والانتفاضات الشعبية، في المغرب وفي الشرق الأوسط. وقد ساهم كل ذلك في إعادة النظر في «التوازنات» السابقة. كل ذلك، ولا سيما أن الامبريالية الأميركية أعادت توجيه عدتها العسكرية نحو جنوب شرق آسيا وضد الصين، التي تحتل من الآن وصاعداً دوراً مركزياً في الوثائق الاستراتيجية الأميركية. ففي الواقع، يتم، في واشنطن، اعتبار الصين خطراً، ولا سيما على المدى البعيد. من جهة ثانية، لا تنفك التوترات الدبلوماسية ومناورات التخويف العسكرية تتضاعف فيما بين القوتين العُظْميين، ولا سيما في بحر الصين. وقد تلازم هذا التغيير الاستراتيجي مع نوع من حل الامبريالية الأميركية نفسها من التزاماتها في الشرق الأوسط.

وبصورة أكثر إجمالية، تشهد الفوضى الإقليمية المديدة على عجز القوى الإمبريالية العظمى (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا) عن إشاعة الاستقرار في الشرق الأوسط. إن أزمة النظام الرأسمالي وصعود التناقضات بين الامبرياليات هما العاملان الرئيسيان، في هذا الوضع.

وفي هذا السياق، رأت القوى الإقليمية الكبرى، أي تركيا، والمملكة السعودية، وإسرائيل، والجمهورية الإسلامية، استقلالها الذاتي، وهوامش المناورة لديها، تتعزز وتتقوّى.

إن حل الامبريالية الأميركية نفسها النسبي من التزاماتها، والمأزق في الميدان العسكري، تركا المجال مفتوحاً أمام التدخل الامبريالي الروسي في سوريا. وتدخُّل موسكو الجوي يهدف لحماية نظام بشار الأسد الدموي، والدفاع عن مصالح روسيا الجيوسياسية، وتمكينه من الاحتفاظ بمرفئه الوحيد في البحر المتوسط، مرفأ طرطوس الاستراتيجي، في سوريا. وهي تتدخل في وقت يجد فيه نظام الاسد نفسه في خطر عظيم. ففي مرحلة أولى، يسمح هذا التدخل ببقاء الأسد السياسي. وهو يتيح كذلك لبوتين أن يستعيد موطىء قدم له في المنطقة، ويعيد ربط صلات هامة له بالحكومتين العراقية والمصرية.

وأخيراً، علينا أن نلحظ التعاون الاستخباري، كما المناورات الجوية المشتركة، بين روسيا ودولة إسرائيل الاستعمارية. وهذا العنصر الأخير يشير إلى أي حد يضِلُّ السبيل من يتجرأون ويتجرَّأْن، في اليسار، على الاستمرار في ادعاء أن نظام الأسد يشكل جزءاً من معسكر مزعوم، مناهض للامبريالية، أو مناهض للصهيونية. فاليوم كما البارحة، لم تكن السلطة السورية معادية، أبداً، للامبريالية، أو مؤيدة للفلسطينيين.

إن التدخل الامبريالي الروسي مكثَّف ومنسَّق مع جمهورية إيران الإسلامية، التي أطلقت على الأرض إمكانات بشرية هامة ترتفع إلى أكثر من 5000 عنصر ميليشيا، ومستشارين وعسكريين. هكذا، نشر نظام الملالي في سوريا قوات طليعية من وحدات النخبة الخاصة بحراس الثورة، ونظَّم ميليشيات انطلاقاً من أفغانيين منفيين إلى إيران، بوجه خاص. هؤلاء الأفغانيون الذين تولَّت الجمهورية الإسلامية استثارة عنصريتهم، بشكل خاص، يشكلون لحم المدافع بالنسبة لنظام طهران. وعلينا أن نضيف إلى هذه القوات تدخُّل حزب الله اللبناني، الذي يشارك في الحرب ضد الشعب السوري، وضد تطلعاته المشروعة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية.

سلطة الملالي الظافرة؟

في هذا السياق غير الأكيد، بشكل خاص، بالضبط، جاءت الاتفاقات بخصوص البرنامج النووي الإيراني. وهي تنص على الإبقاء على العقوبات المتعلقة بالصواريخ الباليستية والواردات من الأسلحة الهجومية. من جهة أخرى، إن نقل أجهزة حساسة قادرة على المساهمة في البرنامج الباليستي الإيراني سوف يكون محظراً خلال ثماني سنوات. وبيع بعض الأسلحة الثقيلة أو نقلها، من إيران وإليها، سيبقيان ممنوعَيْن لمدة خمس سنوات. بالمقابل، تحصل إيران على الرفع التدريجي للعقوبات التي تبناها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتي تستهدف قطاعات المال، والطاقة والنقل. وسيكون في وسع سلطة الملالي أن تحصل على ممتلكات الدولة الإيرانية، وتقدَّر بـ150 مليار دولار، التي كان محجوراً عليها، في الولايات المتحدة، منذ العام 1979. وأخيراً، إن الجمهورية الإسلامية، التي سيكون في مقدورها بيع هذه الهيدروكربورات من دون قيود، تنوي الاستفادة من «استعادة الحظوة هذه» لفتح سوقها الداخلية أمام الشركات المتعددة الجنسيات المنتظرة دورها، منذ الآن. وزيارات القادة والصناعيين الأوروبيين لطهران، أو انتقال الرئيس الإيراني روحاني إلى فرنسا، في أواخر الخريف الحالي، تُنبِىء بتقارب يتجاوز إطار الاتفاق على الملف النووي.

ومن المؤكد أن رفع العقوبات الجائرة التي أصابت شعوب إيران أمر جيد. ففي الواقع، تنزل العقوبات بثقلها بشدة على شروط معيشة الشعوب الإيرانية، وعلى اقتصاد البلد. هي تغذي البطالة الجماهيرية، والتضخم الكبير للغاية، وحالات القِلَّة. وهي أفضت إلى انفجار السوق السوداء التي يسيطر عليها إلى حد بعيد حراس الثورة، الذين أثْرَت قيادتُهم كثيراً.

والنظام يقدم هذه الاتفاقات، على الصعيد الداخلي، كانتصار. وفي الواقع، لقد بررت سلطة الملالي، باستمرارٍ، صعوبات البلد الاقتصادية والاجتماعية، بوزن العقوبات، وعداء الدول العظمى. وبالتأكيد، يتحاشى هذا «التفسير» توجيه الاتهام إلى السياسة الاقتصادية والاجتماعية للسلطة الدينية الإيرانية. وهي سياسة لخدمة الأكثر ثراءً، ووجهاء البلد، وعائلاتهم، وحراس الثورة. وفي حالة بطالة مكثفة، ولا سيما وسط الشبيبة، وأرقام قياسية من التضخم، وانخفاض هام في الإيرادات النفطية ناجم عن عفاء البنى التحتية، وعن انهيار الأسعار في السوق العالمية، وغياب الحريات الديمقراطية (ولا سيما النقابية)، تخضع الشعوب الإيرانية مباشرة لسياسة النظام الجائرة والدكتاتورية، وهي من جهة أخرى أولى ضحايا العقوبات الامبريالية.

إن الاتفاق حول الموضوع النووي يمكن أن يفتح فضاءات جديدة للواتي والذين يريدون الخلاص من سلطة الملالي. ففي الواقع، سيكون لدى النظام صعوبة أكبر لتبرير إخفاقاته وفساده، بسياسة الدول العظمى. هذا ولسوف تسعى المطالب الاجتماعية والديمقراطية للتعبير عن نفسها بشكل أكبر، وذلك لا سيما أن النظام أنفق، عبثاً، وخلال عقود عديدة، مئات المليارات من الدولارات على برنامجه النووي. ولما كانت الجمهورية الإسلامية مدركة الخطر، فقد انخرطت، منذ توقيع اتفاقية فيينا، في دورة جديدة من القمع ضد مناضلي الحركة العمالية، بوجه خاص، بهدف خنق اي رغبة في الاحتجاج. ويشهد على هذا التصلب القمعي مصرعُ القيادي النقابي شهروخ زماني، تحت التعذيب، في زنازين سلطة الملالي، في الفترة الأخيرة، وتوقيف العديد من القادة النقابيين الآخرين. ويدفع المناضلون العماليون ضريبة باهظة، ومعهم النقابيون المدرِّسون والمناضلون الأكراد، أو المناضلون لأحل المساواة في الحقوق. إن نظام الملالي الذي يبدو اليوم كحليف للدول العظمى الإمبريالية يبقى السلطة الثيوقراطية، والرجعية، والدكتاتورية، التي كانها على الدوام.

السياسة الإقليمية لجمهورية إيران الإسلامية

إذا نظرنا بصورة أكثر إجمالية إلى رفع العقوبات، وما يلازمها من تمكّن النظام القائم في طهران من الحصول على الأموال المحجوزة، نلاحظ أن هذا الأخير سيحصل بذلك على هوامش مناورة لخوض سياسته الزبائنية، وتعزيز حضوره في المنطقة. هكذا، سيكون في وسع سلطة الملالي أن تزيد أيضاً المساعدة المادية والبشرية المقدمة إلى الحكومة العراقية والميليشيات الشيعية، التي تخوض، تحت غطاء الصراع ضد داعش، حرباً مذهبية ضد السكان السُّنَّة.

إن السياسة المذهبية التي تمارسها السلطة في بغداد، بدعم من الجمهورية الإسلامية، سهّلت إلى حد بعيد رسوخ «الدولة الإسلامية». فهذه الأخيرة تستمد قوتها من تفسُّخ المجتمع العراقي، وإقصاء السكان السنة على يد الحكومات العراقية المتعاقبة، وهي حكومات حاظية بدعم الولايات المتحدة وجمهورية إيران الإسلامية، في الوقت ذاته.

وكرَد على السياسة السعودية، سوف تتابع طهران عملها النازع للاستقرار، في اليمن والبحرين. وفي الواقع، تندرج سياسة جمهورية إيران الإسلامية، الإقليمية، في حرب غير مباشرة ضد سلالة آل سعود الملكية، المفرطة في الرجعية. وطهران والرياض هما الداعمتان الرئيسيتان لتيارات الإسلام السياسي الرجعية، وتشجعان منطق المواجهات المذهبية وبين الأديان، التي تُغرِق المنطقة في الدم والنار. وخلف هذه التناقضات، يختفي صراع نفوذ ومصالح بين سلطتين ثيوقراطيتين رجعيتين «تُعبِّئان» السكان على قاعدة هوياتهم الدينية و/أو الإثنية. وهذه الحرب، عبر قوى متوسِّطَة، هي كارثة بالنسبة للمنطقة، كما للسكان. وهي لا تخدم إلا المصالح الدولَتِيَّة والرأسمالية الخاصة بالدولتين الثيوقراطيتين، اللتين تتمثلان بالعربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية. هكذا الأمر، في اليمن، حيث التدخل الإجرامي، الذي تخوضه المملكة السعودية وحلفاؤها، إنما هو من نوع المواجهة هذه، التي تكتسح المنطقة. وهذه الدوامة المأسوية تلائم الدول العظمى. ففي الواقع، لقد انخرطت دول المنطقة في سباق تسلح جديد لا يمكن أن تكون عاقبتُه غير مواصلة الحرب. والمستفيد الكبير هو صناعة الأسلحة التي تُقدَّم لها هكذا آفاقُ أرباح لا يستهان بها. ومن هذه الناحية، إن تنقُّل الوزير الأول الفرنسي بين ممالك الخليج، وإلى السعودية، والطلبيات التي بلغت حوالى العشرة مليارات دولار، ولا سيما فيما يخص التجهيزات العسكرية، تشهد تماماً على هذه السياسة الكلبية التي تمارسها الدول الكبرى.

أخيراً، إن نظام طهران سيكون قادراً كذلك على زيادة مساندته للديكتاتورية السورية، ولحزب الله اللبناني، اللذين يقاتلان الشعب السوري بوحشية. ففي الواقع، ومن وجهة نظر طهران، يشكل الدعم السعودي للقوى السلفية السنية في سوريا، تهديداً لا يمكن القبول به. والجمهورية الاسلامية ترفض سقوط نظام الأسد، لأن هذا قد يشكل ضربة أساسية لنفوذها الإقليمي. ففي الواقع، إن سوريا هي «الجسر» الاستراتيجي المباشر بين طهران وحزب الله اللبناني. ومن جهة أخرى، يمكن أن يحدث، بعد سقوط السلطة في دمشق، ضعفٌ للحكومة العراقية، لا بل انهيار. والحال أن هذا يمثل، بالنسبة لجمهورية إيران الاسلامية، نوعاً من تطويق العربية السعودية لها. ولنفهم ذلك، علينا أن لا نهمل أطماع سلطة الملالي الإقليمية. وهذه الأطماع تعبِّر عنها باستفاضةٍ وسائلُ الإعلام والصحافة القريبة من حراس الثورة والقطاعات الأكثر تشبُّعاً بالميول القومية، ضمن السلطة الدينية الإيرانية. وبالفعل، إن التأكيدات حول أن طهران تسيطر على ثلاث عواصم عربية، هي بغداد وبيروت ودمشق، تجري على ألسنة الموظفين الكبار الإيرانيين. وهذا يشير إلى الأهمية التي توليها جمهورية إيران الإسلامية للنزاعات الإقليمية الجارية.

إخفاق التدخلات الامبريالية

من المؤكد أن فشل حملة القصف ضد داعش، التي بادرت إليها الولايات المتحدة و«التحالف الدولي» الخاص بها، والتقارب مع طهران، تفتح المجال أمام مشهد جديد. ففي الواقع، بات مرجحاً أن نظام الملالي، وروسيا والدول الكبرى الغربية، متفقة على إنقاذ النظام السوري. وعلينا أن نلاحظ أن التدخل الروسي ما كان يمكن أن يتم من دون «غض للنظر» من جانب البيت الأبيض. فإدارة أوباما تسعى للوصول إلى حل سياسي قائم على الإبقاء على نظام الأسد، ولكن مع رحيل بشار الأسد، في أجل متوسط. وهذا لا يشكل، في ذاته، نقطة خلاف مع موسكو. والتدخل الروسي يتيح إنقاذ سلطة دمشق، في حين يلغي المكونات السياسية الديمقراطية والثورية، التي لا يزال لها نشاط في سوريا.

ولا ريب إطلاقاً في أن انعطاف فرانسوا هولاند، الذي ألزم فرنسا بقصف مواقع داعش في سوريا، أو تدخلات موسكو وواشنطن الامبريالية، لا تفعل غير إغراق المنطقة أكثر في الخواء والفوضى. كما لم تفعل التدخلات الامبريالية غير زيادة الكارثة الانسانية وتعزيز التحاق بعض السكان بالدولة الإسلامية. والسيناريوهات الامبريالية لن تمنع تفتت سوريا والعراق، وتقسيمهما.

لأجل الحرية، والمساواة والعدالة الاجتماعية

إن التطلعات إلى الحرية، والمساواة والعدالة الاجتماعية، في إيران كما في كل المنطقة، هي قوية. وهذه التطلعات المشروعة تصطدم بالثورة المضادة التي تخوض غمارها الدول العظمى، وشتى حكومات المنطقة، سواء كانت «علمانية»، كما في سوريا أومصر، أو كانت تمثل أحد اتجاهات الإسلام السياسي، وهي كلها رجعية على حدٍّ سواء، كما الحال في العربية السعودية، أو تركيا، أو إيران.

وسوف تلتقط الشعوب كل الإمكانات لوضع حد للمظالم، وللأنظمة الثيوقراطية والديكتاتورية في الشرق الأوسط. وتبرهن التحركات الاجتماعية والديمقراطية الأخيرة في لبنان، والعراق، على أن شعوب المنطقة لم تستسلم. وعلينا مساندتها في نضالها للتخلص من التدخلات الأجنبية والسلطات المستبدة التي تضطهدها، ومن كل تيارات الإسلام السياسي.

وبمواجهة الخواء والفوضى، والتجزئات المبنية على الهويات الإثنية والدينية، على القوى التقدمية والاشتراكية أن تردَّ بمنظور طبقي ديمقراطي، وعلماني، وأممي، واتحادي، يقوم على المساواة في الحقوق بين الشعوب، وعلى التقاسُم العادل للثروات.

--

عن الكاتب: باباك كيا (اسم مستعار). وهو ماركسي ثوري، مناضل في التضامن الاشتراكي مع شغيلة إيران (ت ا ش ا)، والحزب الجديد لمناهضة الرأسمالية (NPA، فرنسا)، والأممية الرابعة. وهو يُبقي على روابط عديدة له داخل إيران.