في وثبة كانون 1948 عبر كثيرة


صادق البلادي
2016 / 1 / 30 - 05:51     



تخلو سيرة حياتي مما تحفل به سيرالكثيرين من الشيوعيين العراقيين من فترات طويلة في السجون والمعتقلات والنجاة في قطار الموت ، وما لحق بهم من عذابات وحرمانات. وتوضيح ذلك يسير، فقد قضيت سنوات طويلة في الخارج، وفي السبعينات عند عودتي الى الوطن لم أتوظف في الدولة ، بل عملت مديرا لمذخر أدوية ثم في سكرتارية تحرير طريق الشعب ، حيث كنت أعمل واكتب متطوعا في فترات الفراغ ، قبل ترك عملي والتفرغ للعمل بطريق الشعب عام 1976، وباقتراح من الحزب كنتُ أكتب باسم حركي : حمدان يوسف. أوقفت يوما واحدا في سجن مدينة كولون بعد شباط الأسود عام 1963 ، وأفرج عني في اليوم التالي بعد قضاء ليلة في زنزانة إنفرادية. كما جرى بعد هذا تحقيق معي مرة أخرى في دائرة الإقامة ، التي كانت يومها تابعة لمديرية الشرطة . وفي بغداد أفلتُ من الأمن الذي جاء يسأل عني بعد يوم واحد من سفري الى برلين الديمقراطية عام 1978.

كان الإعتقال في سجن كولون قد جرى في 3 آذار 1963 بعد المظاهرة ضد انقلاب شباط 63 واقتحام السفارة العراقية في بون. والتحقيق كان في نفس العام أيضا. كنت أسكن في شقة مرتفعة الإيجار، لكن بعد سحب جواز السفرومنع التحويل الخارجي عني للوقوف ضد الإنقلاب والنشاط لكسب رأي عام الى جانب شعبنا العراقي في ألمانيا الإتحادية ، التي كانت ، كما اكتشف فيما بعد، مركزا للتحضير ألأمريكي للإنقلاب حيث تم التباحث مع الفريق نجيب الربيعي في ميونيخ ، اضطررت على الإنتقال الى شقة أرخص. وبعد اسبوع على تسجيل عنواني الجديد،استلمت استدعاء للتحقيق من البوليس.اندهشت للإستداع، فضربت أخماسا بأسداس ف

ولكن لم أفلح بالشك في سبب الدعوى.

ذهبت في اليوم المحدد وبدأ الضابط في توجيه السؤال بعد الآخر، وأنا أجيبه ، واستمر لفترة يوجه الأسئلة ، حتى أنتبهت أنه يكرر و يكثر من الأسئلة ، ويباغت في تكرار الأسئلة عن يوم ميلادي ، فابتسمت.فاستغرب من إبتسامتي وسألني بقليل من الإنفعال لماذا تبتسم.

فأجبته أن يوم الميلاد في بلدنا لا يُسجل باليوم والشهر، بل يُكتفى بسنة الميلاد فقط، والكثيرون لا يعرفون حتى السنة ، وأنا كنت أعرف سنة ولادتي. ولما جئت

للدراسة وذهبت للتسجيل في الجامعة أعلمني ألزميل الذي أصطحبني للتسجيل أن علَيٌ أن أكتب ميلادي باليوم والسنة ، وأن اسجله عندي ولا أنساه ، وانه لا يجوز تغييره .

فأي تاريخ أقرب وأحفظ بالذاكرة من تاريخ الوثبة لأضيفه الى سنة ميلادي فسجلت 27.01.1936 حيث يحتفل سنويا بالذكرى التقدميون العراقيون كافة وخاصة الأتحاد العام للطلبة العراقيين. فاخترته يوما وشهرا لمولدي. ولكن في عام 62 تذكرت ان من عادة الوالد انه كان يسجل مواليدنا يوما وشهرا وسنة بالميلادي و الهجري في قرآ ن او دفتر الحسابات فرجوته أن يرسل لي يوم مولدي فأجابني أنه 06.04.1936 ، وهكذا سجلته عند تبديل الإقامة عام 1963،

تفهم المحقق السبب ، غير أنه ذكر لي أن ما قمت به هو تزوير وثيقة والقانون

يعاقب على التزوير، لكنه سيغلق القضية.

مع إنتهاء الحرب العالمية الثانية وإنتصار الديمقراطية على الفاشية شهد العالم مدا ديمقراطيا عاصقا ، وصارت الشعوب تطمح الى تحقيق ما جرى التأكيد عليه من حقوق الشعوب المستعمرة والتابعة. وتغيرت موازين القوى في العالم بانقسام العالم الى كتلتين، وإعلان الحرب الباردة ، و برزت أمريكا القوة الأقوى في العالم الرأسمالي بعد الضعف الذي أصاب القوى الإستعمارية الغربية، البريطانية و الفرنسية، واللتان صارت تسعى الى الحفاظ على نفوذهما بعدما حل بهما من ضعف، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط ، وكان ذلك يجري بالتأكيد ضمن إتفاقية يالطا التي توافقت على تقسيم مناطق النفوذ ، وكان الشرق الأوسط من حصة الدول الغربية ، والتي أخذ الصراع فيما بينها يشتد ، ولضبط ذلك الصراع بينها كتب تشرشل الى روزفلت رسالة ورد فيها: " أشكركم شكرا جزيلا على تأكيداتكم الخاصة بعدم التطلع إلى حقولنا في إيران والعراق. ودعني أعاملكم بالمثل فأعطيكم أوفى تأكيد بأن ليس لدينا أي نية في محاولة إقحام أنفسنا في مصالحكم أو ممتلكاتكم في المملكة العربية السعودية ، فراحت بريطانيا تسعى الى عقد معاهدات باسم الدفاع عن الشرق الأوسط ، ولما لم تنجح في ذلك لجأت الى عقد معاهدات ثنائية مع البلدان العربية ، فكان مشروع معاهدة بورتسموث ، التي تم التوقيع عليها في ميناء بورتسموث يوم العاشر من كانون الثاني 1948 ، وكانت قد بدأت المعارضة الشعبية لها تتنامى منذ أواخر عام 1947.و تجمعت القوى الديمقراطية اليسارية في " لجنة التعاون الوطني" في تشرين الأول 1947 وضمت اللجنة ممثلين عن الحزب الشيوعي العراقي و حزب الشعب وحزب رزكاري كورد و الجناح التقدمي من الحزب الوطني الديمقراطي، واختير كامل قزانجي رئيسا لها. كما شكل الحزب الشيوعي لجنة من ممثلي المنظمات الحزبية في الكليات ( لم تكن يومذاك قد تأسست جامعة بغداد بعد) ، عملت على التنسيق مع الطلاب المؤيدين للحزب الوطني الديمقراطي و لحزب الإستقلال.وما أن نشرت بنود المعاهدة في صحف بغداد يوم 16 كانون الثاني وأعلنت الأحزاب الوطنية معارضتها لها ، حتى جرت الدعوة الى الإضراب عن الدراسة لمدة ثلاثة أيام وفي اليوم الثالث للإضراب اندفع الطلاب في مظاهرات تطالب بسقوط المعاهدة و بسقوط وزارة صالح جبر.ومع أن الفعاليات لمعارضة المعاهدة سلمية بعيدة عن أي عنف قامت الحكومة بمجابتها بالعنف فأطلقت الشرطة النار على المتظاهرين فسقط عدد من القتلى وعدد كبير من الجرحى،وكذلك سعت الى شق الصفوف باستخدام ورقة الطائفية ، لكنها لم تفلح آنذاك وفي اليوم التالي خرجت الجموع تشيع شهيد الأمس شمران علوان، وقامت الشرطة بإطلاق نيرانها ثانية، وتصاعد النضال يوما بعد آخر رغم تشديد القمع،وانتشر في كافة أنحاء العراق، ومع عودة رئيس الوزراء من لندن يوم 26 كانون الثاني وتهديدادته استمر تصاعد شدة التظاهرات وتشديد القمع وتصويب النيران على المتظاهرين من قبل قوات الشرطة، ولما لم يعد القمع يوقف تدفق الجماهير، ولما صار الأمر يؤذن بثورة في يوم 27 كانون الثاني لم تجد قوى السلطة للحفاظ على حكمها سوى الرضوخ لمطلب الجماهيرفقدم صالح جبر استقالته وفر من بغداد الى الفرات الأوسط، هاربا الى لندن.واضطرار الوصي الى الإعلان عن استقالة الوزارة و تكليف محمد الصدر بتشكيل وزارة جديدة. وصار يوم السابع و العشرين من كانون الثاني 1948 يعرف بيوم الوثبة.

ومما جاء في التقرير السنوي للسفارة البريطانية في العراق عن عام 1948 عن الوثبة : " سيبقى العام 1948 من الأعوام التي يتذكرها العراقيون دوما ..ففي أواخر كانون الثاني تمكن العب بعد سلسلة من أعمال العنف الواسعة النطاق و التي شملت العاصمة بغداد وبدرجة أخف بعض الألوية ( المحافظات) من إفشال وإسقاط اتفاقية بورتسموث التي وقعها رئيس الوزراء صالح جبر في اليوم الخامس عشر من ذلك الشهر في ميناء مدينة بورتسموث حيث كان يقضي زميله وزير الخارجية البريطاني ارنست بيفن عطلته."

وكان السفير مصيبا في تشخيصه للوثبة ، التي ظلت تؤجج شعلة النضال الوطني ضد الإستعمار و الرجعية، من أجل الإستقلال و الديمقراطية وضد الإقطاع من أجل العدالة الإجتماعية ، فكانت إنتفاضة تشرين ثاني 1952،وانتفاضة تشرين 1956 إسنادا للشعب المصري ضد العدوان الثلاثي، الذي قامت به اسرائيل مع بريطانيا وفرنسا ، حتى تم الإنتصار العظيم في 14 تموز 1958 . ورغم الإختلاف الكبيرعن ظروف أربعينات القرن المنصرم فما يزال في الوثبة عبر كثيرة يمكن للحراك الشعبي استلهامها.