إصلاحات العبادي ووصايا موسى


قاسم علي فنجان
2016 / 1 / 24 - 21:54     

يذهب بعض علماء الاجتماع إلى إن أي مجتمع لا يمكن أن يظهر إلى حيز الوجود ويستمر في البقاء، دون أن يتفادى أو يتجنب مجموعة من الظروف التي قد يمر بها والتي ايضاً قد تؤدي إلى هلاكه أو زواله, من هذه الظروف حرب الجميع ضد الجميع, وتبلد عام لأعضاء المجتمع, وهي أسباب كافية لزوال أي مجتمع, وفي الحقيقة أن هذه الرؤية السسيولوجية المستمدة أصلا -في جزئها الأول- من الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز، هي جديرة بالانتباه وتلفت نظرنا إلى الكثير مما نريد قوله دون أن نؤكد على إيماننا المطلق بها.
شاهدنا وعايشنا وعلى مدار السنوات الماضية ومنذ عام 2003 ما نستطيع ذكره بدون تحفظ، بأن مجتمعا ما يسير نحو نهاياته إذا لم يتدارك هو نفسه هذه المأساة, فالحرب الطائفية ومن بعدها أو بالتوازي معها الحرب القومية هي من قبيل حرب الجميع ضد الجميع, وعندما تندلع مثل هكذا حروب فإنها دائما تطول وتطول مستنزفةً كامل قوى المجتمع ومخلفةً الخراب والدمار ومحولةً هذا المجتمع إلى بقايا مجتمع, هذه الحرب -أو من يقودها- دائما تعيد إنتاج نفسها بكيفيات معلومة -اعدام رجل دين هناك أو تدمير جامع أو دخول منطقه أو خروج من أخرى الخ-، ومن هذه الإعادة تستطيع أن تنتج قواها المسلحة التي تديم لها الصراع, فإذن هي تريد وتسعى دائما وأبداً إلى الهيمنة والبقاء, من هذا الصراع الدامي والمميت -الذي لا منتصر فيه- ينتج هذا المجتمع أفرادا يصيبهم الإحباط واليأس والانكسار والتبلد العام للمشاعر, فلا يكترثون أو يبالون أو يهتمون لأي شيء أو أمرً حصل أو قد يحصل..
وهذا هو الآن واقع المجتمع العراقي الذي يتجه من سيء إلى أسوأ, فحكومات قوى الإسلام السياسي والقوميين التي هيمنت عليه منذ 2003 إلى اليوم جرته من أزمة إلى أزمة وأدخلته كابوس بل كوابيس مظلمة ومرعبة لا تنتهي, من حروب قذرة لا أفق لها إلى أوضاع اقتصادية ومعاشية وخدماتية مزرية, فالفساد ينخر هذه الحكومات المتعاقبة بل أصبح شيئا ملازما لها, وأدوات الموت والقتل تسير في الشوارع, لا قانون يحمي سوى القوانين البدائية -قانون العشيرة أو العائلة-.
لكن المجتمع ليس دائما بحركة ميكانيكية ويتقبل ما يطرح عليه وهو ليس بهذه الآلية الفجة فهو أيضا يخضع لقوانين الجدل, وهذا الجدل يفرض عليه أن يصنع تاريخه بحركته المستمرة التي لا يمكن لها أن تتوقف. خرج هذا المجتمع أو جزء منه -المتنور, المتحضر, المتمدن, المثقف-أو هكذا أطلقوا عليهم -وهذه التسمية لم تأت اعتباطا بل لغايات ودوافع سياسية- طالب هذا الجزء "الكلي" بالإصلاح -مع أنه كان عليهم أن يطالبوا بإزالة هذه القوى الظلامية "وسيفعلون ذلك عاجلا أم أجلا"- هذا المطلب كان ناقوس الخطر الذي دق لينذر القائمين على هذه العملية السياسية, دعم رجال الدين هذه المطالب وهذه التظاهرات وكأنها ليست على احد من الحكومة أو البرلمان, وبدئوا يحثون الجماهير للنزول إلى الشارع فكانت مفارقة ما بعدها مفارقة, الكل يقول يجب على الحكومة أن تقوم بالإصلاح, طالب بعض رجال الدين بمقابلة قادة التظاهرات والبعض الآخر أقام تحالف معهم, ومنهم من نادي بإقالة الحكومة, وآخرين طالبوا بمحاكمة المفسدين, لقد جعلونا بمسرحية سارترية أو لوحة سريالية, لكنهم كانوا أذكى من أن يكونوا عبثيين, لأنهم باتوا يدركون خطورة الوضع وانه يجب أن يكون هناك تغيير أو قد يصبحون في مواجهة مع مريديهم أولا الذين بدئوا يشككون في خطاباتهم وبالتالي في حلولهم, فجاءت "إصلاحات" العبادي التي لم تسر خطوه واحدة, بسبب أنه من نفس العملية ومن نفس أدوات الحكم الفاسد أولا, وأنها ليست بـ"إصلاحات" بقدر ما كانت تصفية حسابات داخل المنطقة الخضراء ثانيا.
لكن رجال الدين القائمين على هذه العملية السياسية والراعين لها صعدوا من نبرتهم على الحكومة والبرلمان تحت ضغط الشارع, فبدأت خطاباتهم في الفترة الأخيرة تتميز بحاله فصاميه كلما اقتربوا من الوضع السياسي والاقتصادي في خطبهم, فبدا عليهم الاضطراب, واللغة صارت تتعثر كثيرا رغم تكرارها, وطرحهم صار يبدو كعقلانية سقيمة مأزومه لا فائدة ترجى منها, لأنهم بدئوا يحسون بأن الخطر داهم, وفكروا كثيرا مع مستشاريهم في الداخل والخارج عن ماهية الحلول التي ستنقذ وضعهم، ووجدوا أن السرقة من جيوب العمال وعدم دفع رواتبهم وتسريح المتعاقدين منهم هي التي ستنقذ هذه العملية البغيضة, فقط الخداع والزور وحدهما من يستطيعا إنقاذ وجه قوى الإسلام السياسي وخطبائهم, فقط الفوضى وإشعال الحروب والصراعات الطائفية والقومية هي التي ستنقذ هذا النظام التافه, لقد كانت هذه حلولهم وبدئوا يعزفون عليها ولن تصمت جوقتهم.
كان تروتسكي يقول (ليس من الواجب إنقاذ الرأسمالية الألمانية بل إنقاذ ألمانيا من الرأسمالية).. ونتمنى على التيار المدني وكل المتظاهرين أن يرددوا معه أنه ليس علينا أو من واجبنا أن ننقذ قوى الإسلام السياسي من مأزقها وأزمتها التي تعيشها، بل يجب علينا إنقاذ المجتمع من هذا الوجه البائس والمزري. وبالعودة إلى "إصلاحات" العبادي فهناك أسطورة تتحدث عن خروج اليهود من مصر في زمن التيه, تقطعت بهم السبل ومات قسم كبير منهم من الجوع والمرض, فبدا عليهم التململ والسأم من انسداد الأفق وغموض أوضاعهم, وطالبوا قائدهم "موسى" بإيجاد حل لهم فقال لهم أني صاعد إلى الرب لأكلمه, فلما عاد أليهم وجد الانشقاقات والتشرذم قد أصابهم, فجمعهم وعرض عليهم وصايا الرب "الحلول", لا تقتل, لا تسرق, لا تنظر إلى امرأة جارك......الخ , فقالوا له متعجبين أهذه هي حلولك "إصلاحاتك" لما نحن فيه, نحن نموت جوعا وأنت تقول لا تسرق لا تزني لا تقتل؟ نسرق ممن ونقتل من ونزني بمن؟؟؟ وجاءت "إصلاحات" العبادي وبرلمانه ورعاتهم من فوقهم فكانت, دمج وزارتي الثقافة والسياحة, حظر المواقع الإباحية, هيكلة شبكة الإعلام العراقي...الخ من "الحزمة ألأولى" وهللت لها الفضائيات وبدا البراليون فرحين والمثقفين والعلمانيين يتراقصوا لها طربا وقالوا أننا على أول الطريق, لكن زمن التيه عاد إليهم وهم في ضياع ما بعده ضياع وبدئوا ينتظرون ما ستتمخض عنه المقابلة الأخرى.. وقال الرب لموسى..