المغرب: صعود حزب العدالة والتنمية بانتخابات 2015 المحلية، السياق والدلالة، ومهام اليسار العمالي


رفيق الرامي
2016 / 1 / 22 - 08:22     


شهد المغرب يوم 4 سبتمبر/أيلول 2015 انتخاب مجالس محلية ومجالس جهات، عنوانها الأكبر صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الموضوع على رأس حكومة الواجهة. هذا حدث يلقي، ولا شك، ضوءاً على واقع البلد السياسي، أياً يكن الطابع الثانوي لعمليات انتخابية.

تمثل الانتخابات في بلدان الديمقراطية البرجوازية مرآة تعكس على نحو مشوه المشاعر الحقيقية للجماهير المضطهدة. فالتمثيل الانتخابي لطبقة مضطهدة يكون دائماً دون قوتها الحقيقية، والعكس بالنسبة لتمثيلية البرجوازية التي تظل، حتى عشية سقوطها، مظهراً كاذباً لقوة خيالية. هذه المرآة المشوهة زادتها الملكية بالمغرب تشويهاً، بفعل تحكمها في اللعبة السياسية-الانتخابية. فالقوى المشاركة بتلك اللعبة هي المقبولة لدى النظام بعد تطويعها، والمصنوعة من طرفه، في تقاسم أدوار غايته تمويه حكم الفرد بواجهة «ديمقراطية»، تقيه في الآن ذاته غضب ضحايا الاستبداد والقهر الطبقي. مع ذلك، لا بد لتطورات في عمق المجتمع أن تنعكس في تلك المرآة، ما يجعل إحصاءات الانتخابات مساعدة على إدراك المعتمل واتجاهات تطوره. يتعين إذاً على مناضلي الطبقة العاملة النظر في نتائج الانتخابات، وربطها بإشارات أخرى من الواقع الاجتماعي السياسي، لإدراك ممكنات الوضع، للتدخل بأقصى فعالية.

فما هي الحصيلة الإجمالية لصنع المشهد الانتخابي، وما دلالته السياسية؟

تتحكم الملكية بالساحة السياسية، بتطويع قوى سياسية وصنع أخرى، مكرسة ذلك بقانون أحزاب رجعي، وتضبط نتائج الاقتراع بتقسيم مغرِض لدوائر الانتخابات، وبأنماط الاقتراع المعتمدة، وحتى بفرض حدود على قوى بعينها. ما يجعل نتائج الانتخابات لا تعبّر عن «إرادة شعبية» ما، بل عن إرادة الملَكية التي لا تقبل أي تعبير انتخابي إلا إذا كان في مصلحتها. فعندما كان الحسن الثاني يهيئ لتنصيب حزب الاتحاد الاشتراكي بحكومة الواجهة (قبيل وفاته، وبقصد تأمين ظرف سياسي ملائم لانتقال العرش)، أتاح لذلك الحزب تحقيق نتائج تؤهله للدور المنتظر منه. و الأمر عينه حدث لما استبد الخوف بالنظام وهو يواجه هبة 2011 النضالية، بعد سقوط بن علي ومبارك، بأن أتيح لحزب العدالة والتنمية تحقيق نتائج تمهد استعماله في حكومة الواجهة لاحتواء المدّ النضالي.

بعد بلوغ درجة كافية من تدجين المعارضة الشرعية التاريخية، لم تعد الدولة بحاجة لتدخل سافر في نتائج الانتخابات، ما يضفي على هذه قدراً من التعبير عن ميول الناخبين، وعن انتقال مراهنة الكادحين الواهمة من هذا الحزب إلى ذاك، في ظل غياب حزب حامل فعلاً لتطلعات الشغيلة وعموم الكادحين.

سياق انتخابات 2015

متأثراً بمحيطه العربي المنتفض، وبفعل احتدام المسألة الاجتماعية، بعد عقود سياسات مضرّة بأقسام متسعة من قاعدة المجتمع، شهد المغرب موجة كفاحات غير معهودة. كان معظمها اجتماعياً، واجتاح البلد في شكل حركات مطالبة بالعمل وبتحسين الخدمات الاجتماعية. وتمثلت مقدمتها السياسية في حركة 20 فبراير المطالبة بإصلاح الملكية. أفلح النظام في التحكم بالوضع بتنازلات اجتماعية غير مسبوقة، وبمناورة سياسية قوامها تجديد البرلمان قبل الأوان، وتنصيب حكومة واجهة جديدة يتصدرها حزب العدالة والتنمية الإسلامي1. وقد أفاد الحكم من تبدل الوضع الإقليمي لغير صالح قوى التغيير، لتثبيت الوضع، مستعيناً بقيادات النقابات العمالية الحريصة على «الاستقرار» و«السلم الاجتماعي». ضمن هذا الإطار العام، تواصلَ تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، المفيدة للرأسمال الامبريالي وشريكه المحلي، والمدمرة لمكاسب الكادحين الاجتماعية، والمتمادية في قهر قوة العمل. جرى تطبيق هذه السياسات باستعمال حكومة واجهة يرأسها حزب العدالة والتنمية، لا سلطة فعلية لديها. وباسمها استمر كبح البلد بعبء الديون الخارجية، والتقشف في كل ما له طابع اجتماعي، وحتى فرض تراجعات منها وقف التشغيل المباشر لخريجي الجامعات، وخفض دعم مواد استهلاك أساسية، وتحرير أسعار الوقود، وزيادة أسعار الماء والكهرباء، والعزم على رفع سن التقاعد وخفض معاشاته، وخصم أجور الموظفين المضربين، إلخ. وتميزت الساحة الاجتماعية طيلة السنوات الأربع من عمر حكومة الواجهة، برئاسة إسلامية، بفتور الحراك الاجتماعي الذي طبعَ المناطق المهملة، وبتراجع حركة المعطلين خريجي التعليم العالي، وبركود في الساحة النقابية لا تململه مبادرات القيادات البيروقراطية بقدر ما تفاقمه، بتلاعبها بالإضراب العام (29 تشرين الأول/أكتوبر 2014)، وبمسيرات وطنية متحكّم بها، غايتها القصوى الضغط لتحريك «الحوار الاجتماعي». وطيلة هذه الفترة، ظلت صبوات النضال الشعبي، جزئية محلية بدائية، ما سهّل على الدولة وأدها بدرجات متباينة من المناورة والتنازل الضئيل وشدة القمع. وضمن استراتيجية النظام لاحتواء الاحتقان الاجتماعي، أشرفت حكومة الواجهة برئاسة حزب العدالة والتنمية على تطبيق إجراءات ترقيع البؤس، من قبيل مساعدة مالية للأسر الفقيرة لحفز تعلُّم أبنائها، ودعم الأرامل والمطلقات الأشد فقراً، و توسيع نظام «راميد» (وهو نظام صحة من الدرجة الثالثة خاص بالفقراء). وإحداث نظام هزيل لتعويض فقدان العمل، وزيادة في منح طلاب الجامعة، إلخ...

وعلى الصعيد السياسي، تشتغل آلية النظام السياسية (برلمان، ومجالس محلية، ومؤسسات متنوعة: مجلس حقوق الإنسان، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ومجلس أعلى للتعليم...)، في تمرير التعديات على حقوق الكادحين ومكاسبهم، في مناخ عدم اكتراث سياسي عميق لدى الجماهير الشعبية بما يجري على الساحة السياسية، بالنظر إلى انعدام أدوات عمل سياسي لديها، وبالنظر لما تتعرض له من تخبيل سياسي بآلة الطبقة السائدة الإعلامية والإيديولوجية (تعليم، مساجد، جمعيات...).

كما أن شهور النضال السياسي الذي قادته حركة 20 فبراير في العام 2011 لم تكن كافية لتراكم خبرة وطليعة سياسية لمواصلة التحرك، سياسياً، إذ توقّف كل شيء عملياً مع تجديد النظام لحكومة الواجهة. وليس لدى اليسار غير المدمج قدرة على بناء تعبئات سياسية، فعاد الوضع إلى ما كان عليه قبل 20 فبراير. لم تنفذ مطالب موجة 20 فبراير النضالية إلى الأعماق بما يكفي لإزاحة آثار عقود من إفساد وعي الكادحين السياسي باللعبة الديمقراطية المموّهة للاستبداد، وأدى غياب قوة سياسية مناضلة تنير طريق الكادحين إلى انسياق المستائين منهم إلى اللامبالاة السياسية، ما تعبر عنه ضآلة تسيُّس قواعد النقابات العمالية، ونسب المستنكفين عن الانتخابات وعن أي نشاط سياسي2.

ماذا غيرت نتائج انتخابات أيلول/سبتمبر 2015 في المشهد السياسي المتحكَّم به؟

تنقسم القوى التي تستوعبها لعبة النظام الديمقراطية إلى:

- صنائع النظام: وهي أحزاب أشرفت وزارة الداخلية على بنائها أدوات للتدخل في الساحة السياسية، وفق مصلحة الملَكية، في مواجهة المعارضة التاريخية. منها المستجد (حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه علي الهمة، مستشار الملك حالياً)، وأخرى كحزب التجمع الوطني للأحرار (أسسه صهر للحسن الثاني)، والاتحاد الدستوري والحركة الشعبية (أسسها المحجوبي أحرضان، أحد أكبر خدام الحسن الثاني، والسبَّاق إلى الاستعمال الرجعي للمسألة الأمازيغية)...

- أحزاب المعارضة التاريخية: حزب الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي، وحزب التقدم والاشتراكية. ناوشت لتقاسُم السلطة مع الملكية (ما يسمى استراتيجية النضال الديمقراطي)، وألقى بها الإفلاس السياسي إلى تحوّلات يزداد معها امِّحاء الفروق بينها وبين صنائع النظام.

- حزب العدالة والتنمية: وهو نتاج دمج الملكية لقسم من الحركة الإسلامية في اللعبة الديمقراطية.

وكل هذه القوى المستوعَبة مُجمِعة على ثوابت النظام (حكم الفرد، الرأسمالية التابعة، سياسته في الصحراء)، تتنافس في خدمته، وحول الامتيازات التي تتيحها مقاعد المؤسسات «المنتخبة» و«الاستشارية». يفرغ هذا الإجماع الحملة الانتخابية من أي مضمون سياسي، حتى قضايا الخلاف الثانوية التي تهز المؤسسات البرجوازية بين قوى لا تضع الرأسمالية موضع نقاش، من قبيل درجة تدخّل الدولة أو سياستها الاجتماعية، غائبة كلياً. فيتّسع في هذا الخواء السياسي سوق شراء أصوات الفقراء بالمال وشبكات الزبائنية السياسية.

تقاسمت هذه الأحزاب أصوات 54% من 14 مليون مسجل في قوائم الناخبين. وهي نسبة مشاركة معادلة لسابقتها في العام 2009، علماً بأن التعبير عن النفور من الانتخابات يكون أيضاً بالامتناع عن التسجيل في قوائم الناخبين.

نسبة نفور عالية، لكن أقل من مستوى العام 2007

لا ريب أن استنكاف قسم عريض من الجماهير عن الانتخابات ناتج من الاستياء من «اللعبة الديمقراطية»، التي لا تُدخِل تحسيناً على الوضع الاجتماعي، استياء لم يجد موجهاً نحو التطلع إلى بدائل، فاستحال لامبالاة شعارها: فليفعلوا ما شاؤوا. لم تكن نسب الامتناع عن الانتخابات تصل إلى مستويات عالية إلا بعد اجتياز المعارضة التاريخية تجربة إشراكها في حكومة الواجهة (ما نُعث بـ«التناوب التوافقي»). كانت تلك المعارضة، المتحدّرة من حركة النضال من أجل استقلال البلد، تستقطب تعاطف قاعدة شعبية مستاءة، وتجرّ خلفها قسماً هامّاً، وأكثر فِعلاً في الساحة، من الحركة النقابية العمالية. وبعد المشاركة في حكومة الواجهة تبددت أوهام تلك القاعدة الشعبية، واتّجهت إلى الاستنكاف عن المشاركة، ثم لاحقاً إلى منح أصواتها لقوى أخرى. بلغت نسبة الممتنعين عن التصويت ذروتها في انتخابات برلمان 2007، أي 63% فضلاً عن 19% من الأصوات الملغاة. وقد اتخذ هذا الامتناع عن المشاركة في الانتخابات طابعَ احتجاجٍ على تدهور الوضع المعيشي، معبِّرِ في مناطق مهملة بشكل جماعي.

لا يعبر رفض الانتخابات عن وعي بأصل البلاء، أي الحكم الفردي، بل يظل تعبيراً رافضاً داخل اللعبة الديمقراطية نفسها، أي وفق المنطق الذي كرّسه الملك: منطق أن الأحزاب بمختلف تلاوينها تسيء استعمال سلطة المؤسسات التي أوكلها إليها الملك. أي وضع هذا الأخير الذي هو الحاكم الفعلي، خارج المعادلة. وجلي أن لعقود القمع الفتّاك، وما نتج عنه من خوف من تبعات أي اتهام سياسي للملَكية، دوراً في تعويد الجماهير على البقاء في إطار «اللعبة الديمقراطية». لكن العامل الأساسي المحدِّد لسلوك الجماهير الشعبية السياسي هو عقود التخبيل وإفساد الوعي السياسي، الذي مارسته معارضة نشأت تاريخياً في دورٍ مكملٍ للملَكية، منذ النضال من أجل الاستقلال، مع أن هذا الدور المكمِّل لا يُلغي مناوشات وتصادمات.

ولا يعني تراجع نسبة الرافضين المشاركة الانتخابية من 63% عام 2007 إلى نسبة 46% عام 2015، غير انتقال قسم من «المقاطعين» سابقاً إلى التصويت للحزب الإسلامي، على قاعدة وهم تحقيق قوة سياسية جديدة ما عجزت عنه سابقاتها، في ظل استمرار افتقاد الوعي والقدرة السياسية على استهداف الحاكمين الحقيقيين.

إن ما يجعل الاستياء من «اللعبة الديمقراطية» لعبة تمويه للحكم المطلق، إنما هو انعدام قوة سياسية يسارية، تستعمل اللعبة الانتخابية ذاتها للتشهير بالاستبداد، وبالقوى السياسية «المعارضة» المساندة له، وإيصال المطالب الديمقراطية غير المبتورة، والبرنامج اليساري العمالي والشعبي الى القاعدة العريضة للشعب الكادح.

تقسيم المقاعد

كما سبق القول، تعبِّر نتائج الانتخابات عن إرادة الناخبين في الحدود التي تقبلها الملكية، ولها قسط من المصداقية بسبب انتفاء حاجة النظام إلى التزوير السافر الوقح، طالما لا يشارك في اللعبة سوى القابلين بثوابت النظام.

ضمن 31503 مقعد في المجالس البلدية والقروية، جاء حزب الأصالة والمعاصرة في الصدارة، تلاه حزب الاستقلال، ثم حزب العدالة والتنمية. وضمن 678 مقعداً في مجالس الجهات، تصدَّر حزب العدالة والتنمية، يليه حزب الأصالة والمعاصرة، ثم حزب الاستقلال.

أحزاب الملَكية حافظت إجمالاً على مواقعها، أو حسّنتها تحسيناً طفيفاً، على حساب تراجع بعضها (لا سيما الاتحاد الدستوري)، وواصل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تدحرجه. ومكانة حزب الأصالة والمعاصرة مرتقبة، بالنظر إلى كونه حزب الملكية الجديد. وقد استفاد من استعمال وزارة الداخلية تقنياتها المعهودة، لا سيما في العالم القروي، حيث «تفوق» هذا الحزب. أما حزب الاستقلال، وهو من مكونات «معارضة» التسعينيات، المسماة «كتلة ديمقراطية»، فلَهُ، فضلاً عن جذوره التاريخية، شبكة زبائن وآلة انتخابية أقرب ممّا لدى الأحزاب صنائع النظام.

برز بالمقدمة حزب العدالة والتنمية، حاصلاً على أكبر عدد أصوات (1،5 مليون مقابل 600 ألف في العام 2009)، ما رفع عدد مقاعده من 1500 إلى 5000. وليس هذا الصعود آنياً، فقد بدت أماراته من قبل، وحجبته العوائق التي تضعها الملَكية أمام هذا الحزب، بغية ترويضه أكثر فأكثر. فلأول مرة يقدِّم حزب العدالة والتنمية مرشحين في جميع الدوائر، بعد أن كان النظام يفرض عليه حدوداً. وضعت هذه النتيجة حزب العدالة و التنمية في المرتبة الثالثة، من حيث عدد المقاعد بالمجالس المحلية، وبات حزب أغلبية بمجالس معظم كبريات المدن. وتبوّأَ المقدّمة في مقاعد مجالس الجهات. (لعبة الملَكية انتزعت منه رئاسة عددٍ منها، ضمن توازنات يسهر عليها القصر).

يُمَثِل صعود هذا الحزب في المجتمع، وانعكاس ذلك انتخابياً، أحد تجليات موجة أعماق اكتسحت المجتمع المغربي، في سياق انهيار اليسار الوطني الشعبوي، وكذا اليسار المنتسِب إلى الماركسية: فما كان يسمّى حزباً شيوعياً (حزب التقدم والاشتراكية حالياً) سار دوماً في ذيل المعارضة البرجوازية، واستكمل تحوّله الليبرالي بعد انهيار الستالينية العالمية. وعانى اليسار الماركسي- اللينيني (قسم منه من أصل شعبوي، وآخر من أصل ستاليني) قمعاً شديداً فاقمَتْ مفاعيله أخطاء سياسية فادحة، لا يتّسع لها المقام هنا. ولا تقتصر هذه الموجة على الحزب الصاعد انتخابياً، فمكوّنها الأعظم (جماعة العدل والإحسان) لا يشارك في الانتخابات، فيما كان له أكبر دور تنظيمي في حراك 20 فبراير 2011. هذا فضلاً عن مجمل الحركة السلفية، بقسميها الموالي للملَكية وذاك المعارِض لها. وتمتدّ هده الحالة الإسلامية عميقاً في المجتمع، من فئات وسطى إلى الطبقات المقهورة، في أحزمة الفقر المحيطة بالمدن، بوجه خاص. وتنطوي على احتياطي لم يستعمله النظام بعد سياسياً، وإن كان حرَّكه في حملته لتمرير دستور 2011، لمّا اهتز خوفاً من تصاعد حراك 20 فبراير.

آنياً، يُمثّل فوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي فوزاً للنظام، بالدرجة الأولى: فهو نفس جديد لما يسمى «المسلسل الديمقراطي» الذي أنهكه تآكل شعبية المعارضة التاريخية، بعد مرورها من حكومة الواجهة، وهو فوز لأن حزب العدالة والتنمية منصاع كلياً لتطبيق سياسة صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي الامبريالية، اللاغية للسيادة الوطنية والشعبية، والمدمّرة للمكاسب الشعبية.

والبرجوازية مرتاحة لحزب العدالة والتنمية، وترى فيه آلية لتفريغ قسم من الشحنة الإسلامية المخترقة للمجتمع، والتحكم فيها، وفي الآن ذاته المساعدة على مواصلة تطبيق نفس السياسة الاقتصادية. كما أن الكلفة السياسية لهذه السياسة لن تتحملها الملكية، ولا أحزابها الأخرى، ما دام حزب العدالة والتنمية في المقدمة بترؤسه حكومة الواجهة.

ما تبقى من اليسار

إن كان حزب النهج الديمقراطي (تشكيلة اليسار الجذري الوحيدة الحاظية بصفة حزب سياسي معترف به) قد واصل الامتناع عن المشاركة بالانتخابات، مسمياً ذلك «مقاطعة»، فإن ما تبقى من تشكيلات متحدّرة من اليسار التاريخي، المكوّنة لما يسمّى «فيدرالية اليسار الديمقراطي» (الحزب الاشتراكي الموحد، حزب الطليعة، حزب المؤتمر الاتحادي) شاركت على نحو مطابق لطبيعتها الليبرالية سياسياً، أي بمضمون سياسي قوامه وهم الإصلاح، عبر مؤسسات الديمقراطية الزائفة، ووهم بلوغ شروط تحقيق ديمقراطية بانصياع الملكية، وقبول نزع سلطاتها (الملكية البرلمانية). خلَتْ الحملة الانتخابية لهذه القوى اليسارية من أي مضمون ديمقراطي حقيقي، مستهلِكَة شعارات عامة جوفاء من أي حمولة طبقية، ومن أي مضمون معادٍ للرأسمالية التابِعة، المدمّرة للبلد.

قاعدة النقابات العمالية والانتخابات

في الساحة النقابية المغربية ثلاثة مكوِّنات نقابية تاريخية رئيسية، ومكوِّن جديد صاعد: المكوّنات التاريخية ثلاثة: النقابة الأم، أو الاتحاد المغربي للشغل، تمكّنت الملَكية من كسب قيادتها ورشوتها، ومن ثمة تحييدها من الصراع من أجل الديمقراطية، ويمثل هذا الخط الأمين العام، محجوب بن الصديق، من التأسيس (1955) حتى وفاته (2010)، وخلفاؤه راهناً. قاعدة هذه النقابة نشأت على معادة التسييس، ما يجعلها فريسة لأحزاب الملكية ولاستعمالات قيادتها الموالية أيضاً للملَكية. وهذا الوضع ما يزال مستمراً. إذ تخترق هياكل ورأس هذه النقابة العمالية، أحزاب ملَكية متعددة، منها حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أسسه المستشار الحالي للملك، علي الهمة. والمكوّن التاريخي الثاني، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بناها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في فترة صعوده كقوة معارضة شرعية رئيسية (1975-1998)، ومثَّلت ذراعه النقابي المساند سياسياً. كانت قيادة النقابة تدعو القاعدة العمالية للتصويت للاتحاد الاشتراكي، وما جاوره، بما هم «حلفاء» للنقابة. وقد أدت أزمة الحزب، وأزمة علاقته بالنقابة، وبوجه خاص استنفاد الاتحاد الاشتراكي شحنته «المعارضة»، بعد حكومة «التناوب التوافقي»، إلى تضييع تلك القاعدة الانتخابية العمالية، ما يتجلّى حالياً في هزال ما يحققه حزب المؤتمر الاتحادي- الاسم الحزبي لبيروقراطية نقابة الكونفدرالية- من نتائج انتخابية. والمكوّن التاريخي الثالث، نقابة الاتحاد العام للشغالين، تابعةٌ لحزب الاستقلال البرجوازي، الذي ما زال يستعملها انتخابياً.

المكوّن النقابي الجديد الصاعد هو نقابة حزب العدالة والتنمية، الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، ويرأسه أحد قادة الحزب. وقد تمكّن الاتحاد من الاستفادة من أزمة الحركة النقابية التاريخية ليحقّق اختراقاً، بوجه خاص في قطاعات الشغيلة الذهنيين، التعليم والوظيفة العمومية، كما في القطاع الخاص، في المواقع التي تعفّنت فيها باقي النقابات- المنطقة الحرة بطنجة مثلاً3.

بعد ثمانين سنة من بدايات الحركة العمالية بالمغرب، ظلّت هذه نقابية، أساساً. على صعيد سياسي، ظلّ الحزب الشيوعي المغربي ضعيفاً، بنتيجة موقف الأولى من مطلب استقلال البلد، وبعد الاستقلال الشكلي، سار في ذيل المعارضة البرجوازية، وكان ملَكياً أكثر من هذه أحياناً، ما دفعه إلى موقع هامشي ضمن اليسار. انتهت تجربة «اليسار الجديد» بشراسة القمع وبأخطائه. والطبقة العاملة سياسياً ألعوبة بيد قوى برجوازية. هذا جليّ في نتائج الانتخابات الأخيرة، فما من صوتٍ، حتى ولو إصلاحي، دوَّى في الحملة الانتخابية، رافعاً راية عمالية. وحتّى فكرة ترشيحات عمالية مستقلة لا أثر لها . درك أسفل في السياسة، هذا وضع شغيلة المغرب اليوم. العوامل التاريخية تفسّر منشأ هذه الحالة، لكنها لا تفسّر استمرارها. استمرارها تعبير عن افتقاد معظم اليسار المنتسب للطبقة العاملة لمنظور عمل في منظمات الشغيلة النقابية، وفي الساحة السياسية، وعن مصاعب الاشتراكيين الثوريين في البناء، وفق رؤيتهم. تجربة مناضلي اليسار الجذري النقابية تعود إلى زهاء ربع قرن. وقد حكمها منطق الوجود في النقابة وفي جهازها، من دون راية عمالية مستقلة عن البيروقراطية النقابية، ومسايرة هذه الأخيرة. لم يعِ ذلك اليسار قط أن تمثيلية هذا الجهاز لا قيمة لها، طالما لا تعبّر عن اختيار من جانب القاعدة لخط نضالي معارض.

أية آفاق؟

لم تتح الملكية صعود حزب العدالة والتنمية انتخابياً إلا لحاجتها إليه، لمواصلة سياسة صندوق النقد الدولي/الاتحاد الأوروبي. ولو كان هذا الحزب الاسلامي مزعجاً فعلاً للنظام لتكتلَتْ ضده باقي أحزاب الملكية، واستعملت ضده كل خبرة وزارة الداخلية في صنع الخريطة الانتخابية. ويُبدي هذا الحزب استعداداً كبيراً للتكيّف مع متطلبات الملكية، معتبراً أن وظيفته هي دعمها، مفتخراً بدوره لصالحها أيام هبّة العام 2011 النضالية. هذا كسبٌ كبيرٌ للنظام، سيمكّنه من تشغيل آليته السياسية في السنوات المقبلة، ما لم يزعزعها بركان غضبٍ شعبي كامن، مع العلم أن هذا سيدفعه لتحريك احتياطات أخرى كامِنة في التيار السلفي.

ولا شكّ أن انتخابات البرلمان، المرتقبة في العام 2016، لن تدخل تغييراً جوهرياً إلى هذه الصورة الاجمالية. وستستمر أزمة اليسار غير العمالي بتواصل تعفن الاتحاد الاشتراكي وتفككه، وتردّي تحالف اليسار الديمقراطي العاجز عن فعل سياسي خارج انتظار مواعيد انتخابية، وإغراق ذراعه النقابي في سياسة التعاون مع البرجوازية ودولتها.

قد يطول أمد تفجر الغضب الشعبي، أو يقصر، لكنّه حتمي. وسينطلق من مكاسب الموجة السابقة، فقد بات الاحتجاج مألوفاً، تلقائياً، على نحو كرّسته موجة 20 فبراير 2011. وعلى المناضلين الراديكاليين، أي التوّاقين إلى تحقيق كامل وعميق لمطلبَي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، العمل من أجل تبلور أشكال تنظيمية هي وحدها ما سيتيح اتخاذ الاحتجاج طابعاً وطنياً موحَّد الأهداف، ومن ثمة سياسياً.

كما يستدعي العمل السياسي للراديكاليين استعمال كل تجليات الحياة السياسية، داخل المؤسسات الزائفة وخارجها، لتوضيح طبيعة الاستبداد وآلياته، وحقيقة القوى السياسية، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية الاسلامي، المضطلع بدور تمويه الاستبداد وتمرير سياسة صندوق النقد الدولي/الاتحاد الأوروبي، وكذا باقي مكوّنات الطيف الإسلامي. ويأتي على رأس أولويات المناضلين الراديكاليين الاتجاه صوب الجيل الشاب، المصطدِم بنظام التعليم المهترىء، وبمعضلة البطالة المتنامية.

وعلى صعيد النضال النقابي، تأكدّت بموجة كفاح 2011، وبمختلف مظاهر الحياة السياسية، ومنها الانتخابات الأخيرة، الحاجة الملحّة إلى قطبٍ يساري داخل النقابات العمالية يواجه سياسة البيروقراطية النقابية، المتعاوِنة مع العدو، بخطٍ سياسي وفيّ لمصلحة الأجراء الآنية والتاريخية. وفي هذا الاتجاه، اتجاه تطوير النضال الاجتماعي نحو توحيده وتنظيمه وتسييسه، والحملة السياسية ضد الاستبداد وخدّامه، وبناء المعارضة النقابية، يجب أن تتّحد جهود راديكاليي الطبقة العاملة.

الهوامش:

1- عن مسار حزب العدالة والتنمية الإسلامي، أنظر: المغرب وحركات الاسلام السياسي- الجزء الثاني- مجلة الثورة الدائمة، عدد 5، شهر آذار/مارس 2015.

2- عن حصيلة الوضع بالمغرب، بعد انكفاء موجة نضالات 2011، انظر: المغرب: الوضع الراهن لميزان القوى الاجتماعي والسياسي. مجلة الثورة الدائمة، عدد 5، شهر آذار/مارس 2015

3- بصدد الحالة النقابية الراهنة بالمغرب، أنظر: الساحة العمالية راهناً، ومهامنا، في موقع المناضل-ة.