الرأسمالية وصناعة الإرهاب المعولم


سعد محمد رحيم
2016 / 1 / 21 - 08:29     

تعمل الرأسمالية اليوم عبر قنوات سلطوية كبرى: مجلس الأمن، الأمم المتحدة، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة الجات، حلف شمال الأطلسي، ناهيك عن الشركات الاحتكارية العابرة للقارات، وبمؤازرة حكومات دول ممثِّلة لها، تمتلك جيوشاً قوية، واقتصاديات مزدهرة إلى حد بعيد، وتعمل تحت تصرفها أجهزة إعلامية بالغة التطور والكفاءة. وهذه الرأسمالية لم تعد بحاجة إلى تنسيق كلي خفي لكل شيء كما تتصورها مخيلات المهووسين بنظرية المؤامرة، بل تستخدم آليات متفق عليها تجعل الغاية واحدة دائماً: أن تكون بحوزة 1% من البشر ثروات أكبر مما يحوزه الـ 99% الآخرون. هذا على الرغم من الصراعات والمنافسة التي تشتد، سنة بعد أخرى، بين الدول والشركات الرأسمالية ذاتها. فوراء مظهر التشظّي والفوضى هناك نسق عام، يكاد يكون موضوعياً، ترسّخَ بفعل المرونة العالية للنظام نفسه.. نسق لا يأبه لمبادئ الأخلاق، وقيم العدالة والحرية، ومصالح الإنسانية. فالثقافة التي تسود وتتمدد وتؤثر هي الثقافة البراغماتية المعولمة المسوّقة بوساطة وسائل الإعلام والثقافة الرأسمالية، والتي باتت مفتقرة للقيم التي دعا لها الفكر الأنسني منذ قرون عديدة. حيث أصبح النجاح معياراً وحيداً للأداء بغض النظر عن الوسائل والسلوكيات الموصلة إليه.
ليست الدولة الرأسمالية كلية القدرة، وكلية السيطرة.. إنها تعاني من اختلالات وتناقضات عديدة، وتتعرض لأزمات دورية، بعضها مزمنة، وهناك أجزاء هشة فيها يمكن اختراقها وضربها. وقد عملت الشركات الكبرى والمافيات الكبرى على إضعاف الدول وتقليم أظفارها، ولكن ليس إلى درجة تفكيكها. فهي تحتاج إلى الدولة كقوة حامية، وأداة اقتصادية وسياسية وعسكرية منشِّطة لعمل النظام، ولا غنى عنها إطلاقاً.
إن العولمة حدّدت سلطات الدول في المراكز الرأسمالية نسبياً، وبما يوسع من أنطقة سلطتها هي، لكنها بالمقابل أضعفت، وإلى حد بعيد، الدول الطرفية، في ما كان يسمى بالعالم الثالث، حتى صرنا نشكِّك فيما إذا كانت هذه ( الدول ) تمتلك المعايير والشروط التي تجعل منها دولاً حقاً بمؤسسات وقوانين ووسائل وسلطة مؤثرة. وقد تفككت فعلياً، أو تكاد، دول، لاسيما في العالم العربي.
في هذا المناخ السام ازدهر التطرف الديني، وانتعش الإرهاب. وباعتقادي تكمن علّة ذلك في آليات عمل النظام الرأسمالي نفسه. فالتطرف والإرهاب ليسا رد فعل مجرد من خارج آليات عمل النظام، وإنما من داخله.. إنه إفراز موضوعي لذلك الجزء غير الشرعي، وغير القانوني، وغير الأخلاقي الذي يميّز قطاعاً واسعاً من ذلك العمل: التهريب، تجارة الأسلحة غير المنضبطة، غسيل الأموال، الرشا، تجارة الرقيق الأبيض، والمخدرات، الخ..
العولمة التي تضعف كيانات الدول القومية، وتوفر شروط قيام المؤسسات والجماعات المستقلة الناشطة خارج مجال قوانين الدول وأعراف المجتمعات وتقاليدها تساهم، بفعالية، في تغذية الأفكار المتطرفة وتعزيز قوة الحركات الإرهابية.
يغطي النظام الرأسمالي، في قرننا الواحد والعشرين، معظم أجزاء العالم المسكون بالبشر.. ومن ذلك الجزء المظلم من النظام يتخلق قوى متمردة طابعها الإرهاب.. لا يتمركز الإرهاب في مكان بعينه.. إنه يتسرب إلى ما هو هش وفارغ ويفتقر إلى الحماية الكافية. فالإرهاب الحديث نتاج عَرَضي لتناقضات عصر ما بعد الحداثة، وافتراضنا بهذا الخصوص أن هذا الإرهاب ليس ظاهرة محلية اتخذت بعداً أوسع، عابراً للحدود، وإنما ظاهرة كونية وجدت لها بيئات محلية خصبة، ومستقبلة، هنا وهناك.
دعمت الدول الرأسمالية الكبرى أنظمة ديكتاتورية، في عالمنا العربي، تمارس ما نطلق عليه بإرهاب الدولة، وساعدت أحزاباً وحركات دينية، تعد حركات التطرف والإرهاب اليوم سليلها الشرعي، فقط كي تواجه الأحزاب الوطنية ذات الطابع اليساري. وهي نفسها وظّفت حركات التطرّف والإرهاب، منذ سنوات، أو هيأت الأرضية لها، كي تحقق تلك الدول أجندات بعينها، من خلال تلك الحركات، في شرقنا الأوسط الكبير، خالقة بؤر توتر واضطراب، وحروباً مسيطراً عليها، تنعش تجارة السلاح، وتحلب موارد الدول النفطية المالية، وتبقيها أسواقاً دائمة لسلعها، مانعة إياها من أن تستقر، وتنتج، وتتطور. وبذا عرقلت عجلة الديمقراطية الحقيقية التي روّجت لها.. وكما يقول أحد المفكرين الغربيين البارزين فإن الخطر الأكبر على الديمقراطية اليوم يأتي من سياسات الأنظمة الرأسمالية الليبرالية ذاتها.
يتخطى الإرهاب اليوم الحدود، ويتمدد في الأمكنة أفقياً وعمودياً، متخذاً بعداً كونياً، كما هو حال أشياء كثيرة أخرى. فهو الورم الذي يسعى للتغلغل في الخلايا الحية للعالم كله. وأولئك الذين يحفِّزونه لأسباب يرونها استراتيجية نسبةً لهم سيتفاجأون، وليس على المدى البعيد، بأن الورم وصل إلى أجسامهم، وأنه يهددهم في الصميم. وهذا ما حصل فعلا، بهذه الدرجة أو تلك، هنا وهناك.. استثمار الإرهاب لتهديد سلام حيوات الآخرين واستقرارهم هو في حقيقته نوع من اللعب بالنار.
كثر من المراقبين السياسيين، والباحثين، والمفكرين، فسّروا هذه الظاهرة الخطيرة، أي الإرهاب، بعدِّها ردّ فعل إزاء غياب العدالة والفقر والبطالة والقمع واختلالات النظام الرأسمالي المتحكم بمفاصل السلطة والثروة والنفوذ على مدار القارات. وهؤلاء لم يكونوا، قطعاً، على خطأ. غير أن هذا يلقي الضوء على جانب واحد منها.. ويتحرى عن جذر مغذٍ واحد لها. ولا يرى الوجه الآخر منها، أو الوجوه الأخرى، ويختفي عن ناظريه الجذر الآخر المغذي لها، أو الجذور الأخرى.
يصوغ الإرهاب، في أشد نماذجه وضوحاً اليوم، والذي يلبس عباءة الإسلام، خطابه الإيديولوجي، والسياسي، والإعلامي بوحي من أفكار مؤولة لمجتزءات من نصوص مقدسة، وبذا تقوم بلبس رداء ثقافي فضفاض يدّعي تمثيل المقدّس، وأنه وحي إلهي من السماء، ليجذب ويخيف.
لا يقل إرهاب اليوم خطورة عن النازية والفاشية، لكنه، في حقيقة الأمر أشد دهاءً منهما ومخاتلة ومرونة.. فالنازية والفاشية تجسدت في دول وجيوش متعينة مشخصة يمكن محاربتها في الميدان وجهاً لوجه، وبثقافة دنيوية عنصرية يسهل تفكيكها وتسخيفها. في مقابل أن للإرهاب وجوداً شبحياً ليس من السهل تعيينه وتشخيصه، إنه يتحرك من غير أن تعيقه الحواجز والحدود، لاسيما أن التكنولوجيا الحديثة وفّرت له ممكنات تقنية هائلة. كما أن جاذبية الإرهاب لكثر ممن هم في عمر الشباب في راهننا مردّها إلى حذاقة استخدام تقنيات الإعلام والاتصال الحديثة في إيصال خطاب مكثف ومسطح، يتضمن تأويلات تبدو منطقية في الظاهر، لنصوص لها قدسيتها في قناعات مئات الملايين من البشر.
قد نرجع سبب انتماء كثر من الشباب إلى الحركات الإرهابية إلى الفقر، أو الكبت الجنسي، أو الجهل، أو الظلم، أو العزلة، وهؤلاء يؤثر فيهم الخطاب الجهادي ذو الوعود المعسولة، ولكن كيف يستطيع هذا الخطاب الذي يكفر بمباهج الحياة وفرصها إقناع أناس يبدو أن لا شيء ينقصهم، وينتمون أحيانا إلى فئات ثرية، وبعضهم أذكياء، وناجحون بالمعايير البراغماتية، إلى ترك مواقعهم والانضمام إلى موقع نقيض، فيه يجري الفتك بحياة الآخرين وسلام المجتمعات.. لا أظن أن حب المغامرة يفسِّر هذا الأمر، فللمغامرة طرقات كثيرة يمكن سلوكها من غير إيذاء الآخرين عن سابق ترصد وتصميم. وقد يكون الفراغ الروحي، والعقد والاستعدادات النفسية الخاصة والتجارب المخيبة تفسيراً آخر..
باعتقادي الشخصي أن للإرهابيين أفراداً دوافع شتى، وحتى متناقضة في اختيارهم لسبيلهم. فلكل إرهابي موجِّهه النفسي والاجتماعي والسياسي والفكري والاقتصادي المختلف، وهؤلاء جميعا يجدون بيئة مشجِّعة مغرية تتسق مع موجِّهاتهم تلك، وتستجيب لنوازعهم الخفيّة، تستهويهم وتجذبهم.. وما يجب التفكير فيه بهذا الصدد هو دراسة هذه البيئة، وتفكيكها..
إنها بيئة مهيِّئة في جانب، لها بعد ثقافي، وهذا ما يمثل الإرهاب في حالة كمون. ومصنوعة في جانب آخر، بنوايا سياسية اقتصادية توظف الثقافي وتستثيره، وتحفِّزه. وهذا ما يمثل الإرهاب في تحققة الفتاك في الواقع المعيش.
الإرهابيون لا ينتمون لجنس بشري واحد، ولا يصدرون عن مرجعية فكرية واحدة، ولا يحرِّكهم السبب نفسه، ولا يستخدمون الوسائل ذاتها، لكن لهم أهداف مشتركة.. وقد يكون ما يجمعهم في النهاية أكبر مما يفرِّقهم، على الرغم من صراع بعضهم مع بعض.. أنهم ينعشون بعضهم بعضاً، ويمنحون المسوِّغات لبقائهم واستمرارهم معا، جميعا، بالضد من الآخرين الذين يغدون في نظر الإرهابيين مشاريع ضحايا، يستحقون مصيرهم..
ما هو نفسي في السلوك الإرهابي يعادل ما هو ثقافي، وما هو سياسي، وما هو اجتماعي.
الإرهاب الحديث لا يُفسَّر بالعلّة الثقافية وحدها، إنه ليس ظاهرة ثقافية محض، لكن مواجهته تقتضي التسلّح أولاً بعدّة ثقافية. فبتقويض أسسه الثقافية سيُصاب جهازه التنفسي بالاختناق، كما أن قطع التمويل عنه يجلِّط دورته الدموية، ومحاربته بالسلاح الناري على الأرض يترك جروحاً غائرة في جسمه الاجتماعي ـ السياسي.