المحاصصة الطائفية والهوية الوطنية


ابراهيم الحيدري
2016 / 1 / 19 - 08:45     


ان الظهور المتزايد لظاهرة الثقافات الفرعية وصراعاتها خلال العقود الاخيرة وتبلور مواقف وافكار سياسية ترتبط بالهوية والعقيدة والطائفة، هي ظاهرة ليست جديدة، ولكن بروزها بهذا الشكل القوي على مسرح الاحداث السياسية في العراق انما يعبر عن فشل الدولة ومؤسساتها والمكونات الاجتماعية نفسها في حل مسألة الهوية الوطنية بالشكل الذي يخدم الوحدة الوطنية وكذلك فشل النخب السياسية في بلورة وعي اجتماعي وطني وتطور تنظيمات مؤسساتية تسهم في انتاج عقد اجتماعي يقوم على تحريم ذهنية التجزئة والمحاصصة الطائفية وكذلك عقلية التغالب الأبوية وتقسيم الغنائم بين الاطراف التي قامت على منظومة من الايديولوجيات الوهمية وعلى الفصل بين الدولة والمجتمع، بوصفها تمثيلا اصيلا للمجتمع الذي يفتقد مرجعية وطنية مشتركة. وهي حالة اجتماعية غير طبيعية تعبر عن انفصال وتجزؤ وتفرد آيديولوجي يوظف خطاب الهوية في الصراع السياسي ويستغله في الدعاية والتعبئة وتحشيد الجمهور لإداء دور ديناميكي في الصراع السياسي، عن طريق التحكم وتوجيه الوعي الاجتماعي نحو انتاج معرفة هدفها السيطرة على الهويات الفرعية وقيادتها وتوجيهها فكريا وعمليا عن طريق تثبيت صور نمطية لعقائد وجماعات وقيادات، تختفي في اغلب الاحيان وراء اقنعة آيديولوجية مزيفة وتفرض نفسها كبديل عن المنظمات والاحزاب الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني الحقيقية. ويعود السبب في ذلك الى عدم وجود مرجعية وطنية عامة وشاملة لجميع مكونات المجتمع العراقي هدفها صياغة آلية لتوحيد القومي والديني والقبلي والطائفي في ثقافة تعاون وتسامح ووئام تقوم على ان " الدين لله والوطن للجميع". وهي آلية تضمن قدرا من الفاعلية في اعادة انتاج الهوية الوطنية التي تضم الجميع تحت راية دولة القانون والمجتمع المدني.

ان مفهوم الهوية هو مفهوم مرن متعدد ومتنوع العناصر والثقافات ويتمظهر في اشكال حسب الزمان والمكان، وفي ذات الوقت لا يتناقض مع وجود هويات فرعية وثقافات متعددة، لان الهوية الوطنية المتكاملة من الممكن ان تتشكل من هويات فرعية ذات ثقافات متعددة كما في سويسرا وبلجيكا وغيرها.
غير ان العراق ليس سويسرا وبلجيكا، فبالإضافة الى التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فان تراكم الاستبداد والقمع ومآسي الاحتلال والفوضى والعنف والارهاب الذي اعقبه، قطع اوصال المجتمع وزاد في تقسيمه الى هويات فرعية متعددة دفعت العراقيين الى الاحتماء بها، خصوصا بعد ان فقدوا الأمن والاستقرار والعدالة واجهضت احلامهم الوردية بعد سقوط النظام السابق، واخذوا يتمترسون دينيا ومذهبيا وطائفيا وينظرون الى الاخر المختلف كعدو ومحاصرته فكريا وجسديا وهو ما يتناقض مع التعددية والديمقراطية وروح الاسلام المتسامح وجوهره. كما ان ضعف الدولة والفوضى الشاملة وانعدام الامن وضعف التوازن الاجتماعي والنفسي جعل الافراد يتوجهون الى القبيلة والطائفة والمنطقة لتخفيف حدة القلق والخوف من المجهول لان الانتماء الى قبيلة او طائفة يكون صمام امان يعطي المرء الشعور بنوع من القوة والتضامن العضوي ويزيد بدوره الولاء لها والدفاع عنها والتعصب لها ضد اعدائها ومشاركتها بالأعراف والطقوس والتقاليد بوعي او بدونه.

ان مفهوم الانتماء يعتبر محورا اساسيا في العلاقات الاجتماعية التي تربط ابناء المجتمع الواحد بوطن واحد، ويكشف عن الآلية النفسية التي تتحكم في هذه العلاقات، وبخاصة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذلك بالقيم والمعايير والاعراف التي توجه سلوك الافراد نحو هوية وطنية واحدة. اما الولاء فهو حالة دمج الذات الفردية بذوات اوسع واشمل بحيث يصبح الفرد جزءا من كل الجماعة الاجتماعية التي ينتمي اليها، كأن يكون الفرد واحدا من افراد قبيلة او طائفة معينة، ولكن ليس بالضرورة ان يشعر الفرد بالولاء للقبيلة أو الطائفة حتى لو كان منتميا اليها. وقد لا ينتمي الفرد الى قبيلة أو طائفة، ولكنه لا يكون قبليا أو طائفيا بمفاهيمه وتصوراته وسلوكه. ولذلك هناك تعارض بين الولاء للوطن والولاءات الاخرى، لان الوطن حاضن لجميع الولاءات.
والحقيقة فان الانتماء للقبيلة والطائفة انما يستمد وجوده من الهويات الفرعية، ويظهر في الجماعات ذات الثقافة التقليدية والنزعة الابوية – البطريركية والقيم والعصبيات العشائرية حيث يكون الولاء للقبيلة او الطائفة اشد واقوى من ولاءه للدولة والوطن، ولهذا يتحول الاعتزاز بالقبيلة الى "قبلية" والاعتزاز بالطائفة الى "طائفية". وهذا يشير الى ضعف الاندماج الاجتماعي العضوي في المجتمع وعدم قدرته الجماعات المختلفة على التوحد في هوية وطنية واحدة تحقق الانسجام والامن والاستقرار والتعايش السلمي فيما بينها، بحيث تصبح النظرة الى الآخر ذات بعد واحد، وهنا يكمن خطرها والخطر الذي يهددها من جراء تقديس الهويات الفرعية والمبالغة فيها بحيث تتحول الى حالة خوف وتربص ودفاع مستمر عنها، وفي ذات الوقت، العجز عن مقابلة الآخر بالتفاهم والتواصل والحوار.

لقد كانت "الطائفية " في العراق تخضع لقوانين خاصة بها، ذات بعد سياسي وليس دينيا او عنصريا. فلم يحدث ان اختلف المسلمون في العراق فيما بينهم، ولم يحدث ان اختلف المسلمون مع المسيحيين وغيرهم من الاديان والطوائف الاخرى حول مسائل او مشاكل ذات اساس ديني. وما حدث ويحدث من خلاف هو في اغلب الاحيان تمايز طائفي ذو دوافع سياسية ومصلحية دفع اليها الحكام والسلاطين ورؤساء القبائل والطوائف من اجل تثبيت سلطتهم واشباع مصالحهم فساندوا جهة على حساب اخرى.
وإذا كانت هناك صراعات طائفية خفيفة تظهر على السطح احيانا وتختفي في احيان اخرى، فان قمع انتفاضة 1991 قوضت الوطنية العراقية وقسمت الهوية الوطنية وأججت في ذات الوقت نار الطائفية الخامدة وهو ما قوى الميل للتفكير بشكل متزايد بالاحتماء بالهويات الفرعية المرتبطة بالطائفية. والحال فالصراع والتمايز الطائفي لم يحدث بين السنة والشيعة، بقدر ما كان يحدث بين الشيعة و"السلطة " التي ميزت وفرقت في سياستها "الطائفية" بين من هو سني ومن هو شيعي.

فالطائفية تتغذى من الاشتراك في العقيدة وفي الشعائر والطقوس والعيش المشترك في مناطق ومدن واحياء محددة وتربط افرادها بنسيج معقد من العلاقات القرابية والمصالح والاعتبارات الاجتماعية التي تخرج احيانا عن دائرة الدين والمعتقد. وهو ما يطلق عليه علماء الاجتماع بالتضمن التقليدي الذي ينشأ منذ الطفولة وينمو إلزاميا وطوعيا احيانا مثلما هو الانسلاخ عنه. ومن اهم المؤسسات الاجتماعية التي تغذيه هو البيت والعائلة والعشيرة والمؤسسة الدينية والسياسية.

ان التضامن التقليدي، الذي تكلمنا عنه، يأخذ عادة شكل عصبية طائفية أو محلية أو مناطقية، وهي الوجه الآخر للعصبية القبلية بكونها تضامنا سلبيا ضد المجتمع وايجابيا مع افراد الطائفة. وهذا يعني تعصبا اعمى يسقط به الانسان كل حق للطائفة او الطوائف الاخرى لصالح طائفته، وان كان على باطل، أما إذا كان الحق مع الطائفة أو الطوائف الاخرى، فهو ظلم وهضم وحرمان لحقوق الاخر وانتقام منه. كما ان التضامن التقليدي، إذا كان مع القبيلة او الطائفة أو المنطقة، فهو يتخذ من البنية الأبوية – البطريركية دعامة له. فهو الذي يمنح القبيلة والطائفة مكانتها وقوتها ووحدتها وعصبيتها. والفرق بين التضامن في القبيلة والتضامن في الطائفة هو ان التضامن القبلي يقوم على التعصب لأفراد القبيلة الواحدة التي تقوم على صلة الدم والقربى، في حين يقوم التضامن الطائفي على التعصب لأفراد طائفة او مذهب ينتمون الى عقيدة واحدة وهوية فرعية واحدة.

ومع ان جميع الطوائف والاحزاب والنخب السياسية على المستوى الشعبي والرسمي تجمع على رفض الطائفية والاقرار بحق جميع القوميات والمذاهب والأقليات والأفراد في العراق في تقرير مصيرهم وممارسة جميع حقوقهم، ولكنهم جميعهم، شيعة وسنة، يمارسون الطائفية بالقول مرة والفعل مرة أخرى. وبخاصة في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة التي تجري فيها عملية بناء الدولة ومؤسساتها من جديد ومحاولة الكتل السياسية استغلال الفرص للحصول على مكاسب طائفية، مما حول التعدد والتنوع للطيف العراقي الى عامل سلبي وليس ايجابياً، وأدى الى اضعاف وحدة العراقيين وتماسكهم الاجتماعي والاخلاقي. كما ساعدت الأحزاب السياسية، التي تشكلت على أساس اثني أو مذهبي أو طائفي، على زعزعة النسيج الاجتماعي الموحد وعمقت الشعور بالسلبية والفردية والتعصب في سيكولوجية الشخصية العراقية المزدوجة الولاء والانتماء التي لم تستطع التعالي على الحس الطائفي والمحاصصة الطائفية.
المحاصصة الطائفية
ان الصراعات الطائفية ذات الدوافع السياسية والمصلحية برزت بوضوح بعد الغزو والاحتلال الذي ساعد على تعميقها مكونة اطارا بالغ الاهمية للتضامن التقليدي الذي يتناقض مع اشكال التضامن الديمقراطية الحديثة. وقد أصبح من الثابت والأكيد اليوم وعند معظم العراقيين هو ان المحاصصة الطائفية هي أزمة لازمة لأزمة النظام السياسي وانعكاس لها أفرزت تداعيات متتالية وأثرت على جميع نواحي الحياة بعد ان أخذت تترسخ شيئا فشيئا بحيث أصبحت ثقافة سياسية واجتماعية عامة طبعت الشخصية العراقية بسمات طائفية جديدة وأشرت الى انقسام المجتمع والهوية وضعف إرادة المجتمع على مواجهتها والتصدي لها.
والحقيقة كان من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال هو إقامة نظام سياسي جديد على أسس طائفية، انطلاقا من حكم مسبق هو، ان المجتمع العراقي مجتمع متعدد ومتنوع في تكويناته الاجتماعية ويجب ان يحكم بمشاركة جميع مكوناته الاجتماعية على أساس المحاصصة الطائفية. وهكذا شجعت قوات الاحتلال على اختيار عدد من السياسيين لتشكيل أول حكومة عراقية غير منتخبة (مجلس الحكم) على أساس عرقي وديني وطائفي كرس الولاء الى قوميات وأديان وطوائف وأحزاب على حساب الولاء والانتماء للهوية الوطنية.
وتعني المحاصصة تقاسم السلطة بين الكتل السياسية وترتبط في السياق العراقي بشكل خاص بالتركيبة العرقية والقبلية والطائفية وبحكومة تقاسم السلطة التي أسستها إدارة الاحتلال الأمريكي بقيادة بول بريمر الذي أسس مجلس الحكم عام 2004على أساس مفهوم رئيسي هو "ان مؤسسات صنع القرار الوطني يجب ان تعكس نسبة التوازن الديمغرافي الطائفي العرقي". فقد ذكر في مذكراته كيف انه استبعد تجمعا من ستة عراقيين كونهم غير ممثلين للعرب السنة بشكل خاص وكيف انه في سياق آخر رفض مشاركة ممثل ثاني عن المسيحيين في مجلس الحكم بسبب ان التمثيل المسيحي في المجلس سيكون غير متكافئ في حال وجود عنصرين من الطائفة المسيحية بدلا من واحد". كما أضاف بان معظم المؤسسات في عراق ما بعد 2003 ستكون ذات أغلبية شيعية مسبقا.
لقد قاد نظام المحاصصة الطائفية البلاد الى متاهات خطيرة واحتمالات لا يمكن تقدير نتائجها، خاصة بعد ان أخذ يتعقد ويترسخ في البنية السياسية المرتبطة بنمط من التفكير اللاديمقراطي الذي ينطلق من أفق ضيق وعقلية مغلقة ولا يعرف التسامح لأنه يقوم على تقاسم الثروة والسلطة والنفوذ وتعطيل العملية السياسية وتحويلها الى لعبة انتقائية مصلحية وليس مشاركة سياسية حقيقية كتعبير عن عقد اجتماعي طوعي بين المواطنين.
والحال ان نظام المحاصصة الطائفية يعرقل اليوم أي جهود عقلانية لتنمية بشرية شاملة ومستدامة بإسناده جميع مفاصل الدولة الى عناصر حزبية وطائفية وعرقية مستثنيا جميع الكفاءات والمواهب والقابليات التكنوقراطية، وهو ما ساعد على انتشار الفساد والمحسوبية والمنسوبية. كما ان نظام المحاصصة الطائفية اخضع جميع الأجهزة الأمنية والدفاعية الى المحاصصة مما سهل عمل اختراقات أمنية اضرت ضررا بالغا بمصالح البلاد وأمنه واستقراره.
ان من السخرية الحديث عن تحويل العراق الى بلد ديمقراطي مع تبني نظام المحاصصة الطائفية من قبل أغلب أطراف المعارضة وتمسكها بهذا الخيار من أجل تقاسم الأدوار والثروة والنفوذ باعتبارها استحقاقات "طائفية". وهذا كاف لولادة نموذج مسخ لا يمت الى جوهر الديمقراطية وروحها ولا لمبادئها وأهدافها. كما ان ممثلي الكتل السياسية المشاركة في الحكم لا تمتلك رؤية واحدة نحو قضايا الدولة والمجتمع لاختلاف آراءها ومصالحها وتضاربها. وبسبب فقرها الى قيادات سياسية وطنية كفؤة تضطر الى تنصيب أفراد لا يمثلون إلا أنفسهم لأنهم يدينون بالولاء الى كتلتهم او طائفتهم بدل الولاء الى الوطن وهويته الموحدة.
ومن الضروري القول بأن قوات الاحتلال ساعدت على ترسيخ المحاصصة الطائفية التي اعتمدها بريمر من اجل تثبيت تطلعاته الخاصة في عراق مفكك الأوصال وهو ما أدى الى تزايد التكتل الطائفي وتوزيع الأدوار والمناصب على هذا الأساس، حيث أخذت كل كتلة او حزب او عشيرة او طائفة تنهش جزءً من جسده الجريح الذي تعرض لسياط الجلادين الكبار والصغار على مدى العقود الماضية مخترقة جميع القيم والأعراف والمقدسات من أجل اهتبال هذه الفرصة الذهبية لإشباع اطماعها وأنانيتها وجشعها وهي ما زالت في عنفوان قوتها وأول خطواتها في الطريق. فالحرية والديمقراطية التي لم تمارس وتختبر في الواقع الاجتماعي بشكل صحيح، تطلق العنان للمكبوت والمحرم والممنوع وتغلفه بشعارات قومية ودينية وطائفية براقة وتشجع على انفجار الصراعات الاجتماعية والسياسية والعصبيات القومية والقبلية والطائفية. الخلل اذن في طبيعة النظام السائد الذي يتناقض مع أسس الديمقراطية الحقيقية والذي لا يمكن حله إلا بتفكيك نظام المحاصصة الطائفية وخلق نظام سياسي وطني وديمقراطي تعددي بديل له.
ان الدولة التي لا تستطيع حماية مواطنيها وتوحيدهم في هوية وطنية واحدة تفقد هيبتها وشروط أمنها واستقرارها.