جورج لابيكا: نقد البراكسيس


حسان خالد شاتيلا
2016 / 1 / 19 - 22:32     

                          في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم،
                                 حوار مع جورج لابيكا،
                     أجرى الحوار ومهَّد له حسان   خالد شاتيلا
                                           
                            الـمـــقـدمــة الـثــالـــثة
 
                                                     جـــورج  لابــيـكــا:
                                  نـقـــد الـبـراكــســـيـــس
 
                                                  النـظـــرية رمـــاديـة الـلـــون
                                                 الـحـــيـاة ذو لـــون أخـضـــر
                                                                                             لـينين نـقــلا عــن غـوته
                                                                                           "رســائل حــول التكــتيك"
                                                                       
                                                                حســـان خــالــد شـــاتـيـلا
 
تُشير الأطروحة الحادية عشرة لفويرباخ إلى "أن الفلاسفة لم يفعلوا أكثر من تفسير العالم بصور مختلفة، في ما يقتضي الأمر تغييره". هذه الأطروحة تؤكِّد الوحدة الاندماجية للنظرية والممارسة، فضلا عن تاريخية الفلسفة. إنها تَعني أيضا رفض الفلسفة رفضا مطلقا، سواء أكانت تجريدية أو تأملية. هذا من جهة. إنها تَعني، من جهة ثانية، أولويةَ الممارسة. أي إن تغيُّر التاريخ الواقعي للعلاقات الاجتماعية، بما في ذلك الاقتصاد، وبالأحرى الاقتصاد السياسي، متأتٍ، في نهاية المطاف، من الاقتصاد السياسي، من حيث هو مصدرٌ للمشكلات التي تتصدى لها النظرية لمعالجتها.
 
أولا/ النظرية- الممارسة:
هذا، وإن مشكلات المعرفة المتأتية من الممارسة تأخذ شكلين اثنين: شكل عفوي يبقى ضمنيا خلال مرحلة الممارسة، وشكلٌ يصبح، بصورة علنية صريحة، نظريةُ. شكل الممارسة يَتْبَعُ الوعي الضمني التلقائي للجماهير والطبقة العاملة. بيد أن الوعي التلقائي، حتى وإن لازم عتبة الوعي الضمني، وكان ما يزال خلواً من المفاهيم المدروسة، وكان أيضا خلوا من الأحكام النقدية للواقع، فإنه بالرغم من ذلك يشكِّل نمطا من أنماط حيازة الواقع؛ شأنه في ذلك شأن الوعي العلمي. إذ إن الانتقال من العفوية الضمنية للممارسة والوعي، إلى النظرية العلمية، يأتي نتيجةً لما يأتي عن الانسان الاجتماعي من إحداث في المجتمع، والتاريخ، والطبيعة. بمعنى آخر، فإن الإحداث في الواقع يتحوَّل منطلقا من الممارسة كي يضحى       المعرفةَ / النظريةَ/ العلمَ. هذه المعرفة بشكليها، التلقائي ثم النظري، هي من وجهة نظر "أطروحات فويرباخ، وبصورة جوهرية، شكلُ، من حيث الأساس، من نمط الممارسة.
 
ثانيا/ العلاقة ما بين النظرية والممارسة:
من جراء ذلك، فإن جورج لابيكا يَعْتَبِر أن المعرفة، من حيث الأساس، نمطٌ من الممارسة، سواء في ما يتعلق بالوعي التلقائي، أم في ما يتعلق بالوعي العلمي (1). الماركسية، من ناحية أخرى، اتَّبعت خلال تاريخها المديد، ومنذ ظهورها، مسارات من سياق واحد أحيانا، ومتناقضة أحيانا أخرى، غير ناضجة، متماثلة أو متنوعة، عقائدية، مذهبية، وثوقية، أو مبتَكِرة. هي وليد هذا الوضع. بل، وإن هذا المسار التاريخي - يلاحظ لابيكا- هو "بامتياز غير مكتمِل ومتناقض. إن لينين يلمس هذه المسارات عن كثب وهو يقرأ إنجلز: إن الممارسة متفوقة على المعرفة النظرية، طالما هي تحوز، ليس فقط بكرامة الشامل، وإنما تحوز أيضا بكرامة ما هو واقفي مباشر" (ملخَّص "علم المنطق"، الأعمال الكاملة بالفرنسية، الجزء 29، ص 203). أو عندما ينقل لينين عن غوته قوله: "يا صديقي إن النظرية رمادية اللون، أما الشجرة الأبدية للحياة فإنها دائمة الاخضرار" (رسائل حول التكتيك، الأعمال الكاملة،، الجزء 24، ص 35) (2).
 
يوضِّح لابيكا في مقاربته للعلاقة ما بين النظرية والعمل، أن هذه العلاقة ليست تكاملية، وليست آلة، وهي أبعد ما تكون عن جدلية مفترضة ما بين ماهيتين اثنتين: الفكر من جهة، والممارسة من الجهة الثانية. ذلك أن ما بين النظرية والممارسة ليس علاقةً، وإنما هو تماهٍ ما بين الذات والموضوع. إن هذه العلاقة ليست جدلية، إذا كان المنطق هو المقصود بالجدل. لكن هذه العلاقة جدلية إذا كان الجدل من طبيعة المادية التاريخية نفسها، بتكويناتها نفسها في الواقع الفعلي: صراع الطبقات، التغيُّر، التطور، التحوُّل، الصيرورة، نمط الإنتاج، إلخ، عبر زمانها الذي ينتقل من الوعي التلقائي العفوي، إلى الوعي العلمي. إنها علاقة جدلية بمعنى واحد إذا ما أُخِذَ الجدل من حيث هو نفسه عجينة التاريخ. التاريخ الذي يُحيل إلى الأزمنة، بما في ذلك زمان المعرفة الذي يجتاز المسافة ما بين الممارسة والنظرية بالممارسة نفسها. فبالانطلاق من أطروحة فويرباخ تشير أعمال لابيكا إلى أن هذه الأطروحة تعني أن الممارسة هي نفسها بصورة جوهرية، ومن حيث الأساس، مضمون الفكر. تقول هذه الأطروحة: "إن معرفة ما إذا كان الفكر الإنساني حائز بنفسه على حقيقة موضوعية ليست مسألة نظرية، وإنما هي مسألة تتعلق بالممارسة. إذ إن الإنسان يلمس الحقيقة عبر الممارسة، الحقيقة الواقعية، القوة، والطبيعة الأرضية التُرابية للفكر. إن المجادلات لمعرفة ما إذا كان الفكر معزولا عن الواقع الفعلي واقعيٌ فعليٌ أم لا، إنما هي مجادلات مدرسية، ليس غير".
 
يلاحظ لابيكا، في ما يتعلق بأطروحة فويرباخ الثانية أن الفكر ممارسةٌ بصورة جوهرية، أو إن الفكر ممارسةٌ من حيث الهوية. ف/"محمول الأطروحة الثانية من الأهمية بمكان. إنها تُحْدِثُ ثورة في مجال نظرية المعرفة (...). إن معناها على وجه التبسيط يقول ما يلي: إن الفكر يَتْبَع نمطَ الممارسة. ذلك أن الفكر لا يُدرَك ولا يُفهَم بدون ممارسة. فالفكر هو نفسه ممارسة. فالإنسان من حيث هو حامل للفكر، أو من حيث هو ذات ٌمُفَكِّرةٌ، هو نفسه كائن طبيعي- تاريخي، هو نفسه ذات- موضوع لتطوره وتحوُّلِه، وهو نفسه مُنتِج ومُنْتَج لمجموعة معقَّدَة من الحتميات"(3).
 
ثالثا/ لُبْسُ براكسيس غرامشي:
يشير لابيكا - في الحوار اللاحق - إلى أن مفهوم غرامشي عن وحدة النظرية والممارسة حسب ما تتبدّى
ب/"البراكسيس، لا تخلو من الالتباس. فإذا كان براكسيس غرامشي يتضمن عددا من الصياغات التي تُفِنِّد نهائيا الثنائية ما بين النظرية والممارسة، فإنها، بالرغم من ذلك، توحي بأن ثمة قَبْلِيَّة زمانية لأحدهما على الآخر (4). إن انتقاد لابيكا لبراكسي غرامشي بأتي من مقاربة مادية مؤدَّاها أن الفكر ممارسة. بل وإنه يتبنى تكوين "المفهوم المعرفي للفعل من حيث هو ممارسة"، المفاهيم، مفردات الفكر، من حيث هي غير قابلة للتكوُّن بصورة مستقلة ذاتيا عن الممارسة، ما دام الإنسان يُحْدِث بالواقع الفعلي. إنه إذ هو يُحْدِثُ، فإنه، بالمقابل، يتغيَّر.
 
إن لابيكا إذ هو يؤكِّد على الثورة الماركسية في مجال نظرية المعرفة، فإنه يشير أيضا إلى الإضاءات التوضيحية التي تحملها معها قراءة غرامشي الأطروحة الثانية لفويرباخ. فإذا كان الفكرُ ممارسةً، فإن  كل تفسير لمفهوم "وحدة النظرية والممارسة"، وكأنهما تكوينين اثنين منفصلين بصورة قَبْلِيَّة، وأنهما يتَّحدان بصورة بَعْديَّة تلبيةً لعلاقة أساسية سَنَدُها أداة من نمط أدوات المعرفة، إنما هو يُوظِّف النظرية ويجعلها في خدمة الممارسة، ويجعل، بالمقابل، الممارسة  في خدمة النظرية. لأن العلاقة ما بين النظرية والممارسة ليست علاقة ما بين أداتين اثنتين تتبادلان الدور في سعيهما المشترك لبلوغ معرفة هي نفسها أداةٌ. ذلك أن هكذا مفهوم للمعرفة سَنَدُها أداتين اثنتين، أداة الفكر، وأداة الفعل، من شأنه أن يقود المادية التاريخية إلى انحرافين اثنين، كلٌ منهما يشدُّ الأولية ضمن هذه العلاقة لجهته. فإما أت تكون تنظيرية، وإما أن تكون وليدة مذهب الممارسة.
رابعا/ الظروف الموضوعية من حيث هي مصدر الفعل والفكر:
لكن الأطروحة الثامنة لفويرباخ – حسب ما يكتبه لابيكا – تذوِّبُ ماهية الدين لتجعله مادية الإنسان. لكن ماهية الإنسان ليست تجريدا يلازم الفرد المُفْرد. إذ إن الماهية، من حيث واقعها الفعلي، هي مجموعة العلاقات الاجتماعية (5). فالأطروحة الثامنة تبيِّن "أن الحياة الاجتماعية من حيث ماهيتها ممارسةٌ. ذلك إن كل الأسرار التي تلتف على النظرية لتذهب نحو التصوف، إنما تجد جوابها العقلاني في الممارسة الإنسانية، وفي تفهُّم هذه الممارسة. إن النظرية، من حيث هي من عجينة الممارسة نفسها، فإنها تعود دائما وأبداً إلى التكوين الذين أتى بها". إن وحدة النظرية والممارسة لا تُوجَد على عتبة النظام الفكري التأملي، كما هي لا تُوجَد على صعيد ما تُنتِجُه هذه الوحدة من حركات ملازمة لها، إنما هي توجد متن الشروط الموضوعية المشتركة للتصورات النظرية وهي في حالة الفعل، وبتعبير آخر، فإن الظروف الموضوعية هي التي تحدِّد الفعل والمعرفة". فإذا كانت النظرية إحداث بالممارسة - حسب ما يأتي في "المعجم النقدي للماركسية"، فاتحة "نظرية" – فلأن الممارسة إحداث بالفكر يُحدِّد للنظرية شروطها ومعاييرها الموضوعية.
 
خامسا/ البروليتاريا من حيث هي حاملة الثورة المعرفية
لكن أسبقية الممارسة، إن لم يكن أسبقية كلا من التاريخ والسياق الموضوعي، شرطَ أن يُفْهَم من الأسبقية أنها أسبقية بالفعل، شرط أن تكون مندمجة بمفهومها، وأن هذا الاندماج يبقى في حيِّز النظرية، ويفتقد إلى الواقعية الفعلية، عاجزاً عن بلوغ مستواه الإحداثي (الإعمالي أو العملياتي)، عاجزا عن بلوغ مستواه النقدي، إلا عندما يضحى من وجهة نظر البروليتاريا. إن النصوص ضمن أعمال ماركس وإنجلز والتي "تُستحق وصفها بأنها تاريخية، هي كتاباتهما النقدية في الاقتصاد السياسي. ليس فقط من حيث الحيِّز الذي يشغله تاريخ المعتقدات المعاصرة لهما، وليست فقط من حيث الحركات ، إن لم يكن ما يأتي في "رأس المال" حول التراكم البدائي، وزمن العمل، والتشريعات المتعلقة بالورشة أو الدخل، ليس هذا وذاك فقط، إنما من حيث أن مقاربتهما في "رأس المال" تشكِّل وجهة نظر البروليتاريا". لأن الماركسية إن هي فُرِّغَت من البروليتاريا، فإنها تكف عن كونها الشيوعية. بتعبير آخر: إن المعرفة المحايدة لا وجود لها، إنها معرفة الطبقة، وبالأحرى حزب الطبقة من حيث هو مُنتِجُها.
لابيكا يؤكِّد بصورة ملحَّةٍ، في مؤلَّفِه "كارل ماركس، أطروحات فويرباخ" على الوحدة ما بين المادية والممارسة. فقد جاء فيه إن هذه الوحدة "هي الدرس الأوضح المستقى من أطروحات فويرباخ"، وذلك بالإضافة إلى "الأفضلية الممنوحة للممارسة" (7). نحن هنا، حسب ما يشير إليه، بصدد مادية الممارسة، ما دام حيِّز المادية وحيِّز الممارسة "يَتْبَع أحدها الآخر، لأن نقد الإيديولوجيا ينتهي إلى استبدال المادية الحدسية/التأملية بمادية الممارسة" (8).
 
سادسا/ ماركسية الأنفاق المختفية تحت الأرض: يَستخلص لابيكا من التاريخ المديد للماركسية، والذي تحفُّه من كل جانب الأرثوذكسية والهرطقة معا، ما يسميه "ماركسية الأنفاق المختبئة تحت الأرض" أو ماركسية الأُندِرغراوند" le marxisme d’Underground  (9)، حيث يتَّحِد في أعمال ماركس وإنجلز المفهوم والممارسة، ليس من حيث هما جمع لهما، أو ليس من حيث هما تركيب ما بين الأطروحة ونقيضها، وليس بالأحرى براكسيس النظرية والممارسة، إنما من حيث ان الذات والموضوع يشكلان وحدةً. ماركسية الأنفاق تحت الأرض أشبه ما تكون إلى خزان متضارب من أُطروحات مؤيِّدة للوحدة ما بين النظرية والممارسة، وأخرى تدافع عن الانفصال ما بين النظرية والممارسة. هنا تظهر "ماركسية الأنفاق تحت الأرض" في أعماله، من حيث هي مرتبطة بالوحدة الجدلية الاندماجية للنظرية والممارسة، أو بالأحرى من حيث أن ماركسية الأنفاق تحت الأرض هي نتيجة مباشرة لفصل النظرية عن الممارسة ، مما يؤدي إلى ظهور الانحرافات الأرثوذكسية والمنحرفة.
 
في ضوء قراءته للأطروحات الثانية والثامنة والحادية عشرة، فإن أعماله تنحو في منحى "نظرية الإحداث"، أو بتعبير آخر: "الإعمالية"، أو العملياتية. لأن "الاستراتيجية" التي تشغل حيِّزا واسعا في أعمال لينين، وفي أعماله، تهدف في معظمها إلى اكتشاف، أو  بمزيد من التواضع المعرفي، إلى استشفاف العلاقة الواقعية الفعلية ما بين النظرية والممارسة بشأن هذا الواقع الملموس والتحليل الملموس.  جورج لابيكا، خلال الحوار مع كاتب هذه السطور، يؤيِّد هذا التعريف "الإحداثي" أو "العملياتي" للمادية التاريخية، ويرى أنه اَقرب إلى الاستراتيجية منه إلى "براكسيس" غرامشي.
 
سابعا/ تحليل الاندماج ما بين النظرية والممارسة: في ما يلي تحليل للمكوِّنات التي تؤلِّف في ما بينها الاندماج ما بين النظرية والممارسة في سياق من التاريخ والفعل:
 
1/ الممارسة متفوّقة على النظرية: إن الوحدة الجدلية ما بين النظرية والممارسة، شرط أن يُفهم من الجدل أنه ملازم للمادية التاريخية، فإن حالات النضال، ومنها الصراع الطبقي، هي مصدر المعرفة، التلقائية أو العفوية في مطلع الأمر، ثم العلمية في ما بعد. إن "السياسة البروليتارية"، يكتب لابيكا في مخطوط له بعنوان "عن لينين"، وهو ينقل عنه، إن السياسة "تركيب للأطروحة ونقيضها، تركيب مستمر، متطور ومتغيِّر للعلاقات الجدلية ما بين النظرية والممارسة". ذلك أن حالات النضال من حيث هي أفعال ذكية - كل عمل مهما قَّل شأنه فإنه ممارسة تنطوي على نسبة من الذكاء قلَّ شأنها أم عظم  - فإنها مصدرٌ للمعرفة. إن الفعل والمفهوم الفكري يشكِّلان حالةً تأشير، أو مفهوم تأشيري، واحد. "فإذا ما امتنعت الممارسة غابت النظرية"، حسب ما يأتي متن الحوار القادم. فالنظرية ما هي سوى ما تنتهي إليه الممارسة، أو ماهي سوى الممارسة وقد بلغت هدفها. إن قراءة لينين لهيغل – حسب ما يأتي في هذا المخطوط تقوده إلى النتيجة التالية: إن الممارسة متفوِّقة على النظرية لأنها حائزة على الكرامة، ليس فقط كرامة الشمولية، وإنما حائزة أيضا على الواقع المباشر".
 
2/ الموقِّع المتقدِّم للتاريخ: إن احتلال التاريخ موقع الأولوية على النظر يشكل حجر الزاوية في أعمال لابيكا الذي ينقل عن موزيس هيس Moses Hess قوله: "إن المقصود من الشيوعية حركة واقعية تحذف الطبيعة". لا بيكا، هنا، يتابع أقوال موزيس هيس، فينقل عنه قوله: "الاشتراكية تَعني الحركة التي تسكن في أحشاء المجتمع الرأسمالي، الحركة التي تهدف إلى إلغاء الشمولية". أنطونيو لابريولا Antonio Labriola  ، من جهته، يشير إلى أن "الأشياء مُحَمَّلة بالنقد الذاتي"، وهي "دموع الأشياء"، "إننا لا نُعرِّف العالم بأنفسنا كمذهبيين عقائديين محمَّلين بمبدأ جديد يقول: هذه هي الحقيقة، فاركعوا لها ! إننا نَحْمٍل إلى العالم مبادئ يُطَوِّرها ضمنه العالم نفسه" (لابريولا، رسالة إلى روج، أيلول/سبتمبر 1843 (L. à A. Ruge, sept. 1843)  ( (9). باختصار، فإن ما يقصده أنطونيو لابريولا من أقواله هذه، مفاده أن الحواس، والشهوات الحسية، ليست بعيدة عن المادية التاريخية طالما هي تَشْغل حيِّزا هاما من المعرفة.
3/ نظرية سياسية أو مادية تاريخية فاعلة: إن محمول الأطروحة الثانية لفويرباخ في غاية الأهمية، حسب لابيكا. إنها تُحدِث ثورة في مجال نظرية المعرفة، "أيا كانت هذه النظرية، مثالية أم مادية، طالما هي تفنِّد كل مفارقة ما بين الذات والموضوع، سواء أكانت هذه المفارقة ملازمة للفكر (حسب هيجل)، أو شرطا من شروط المعرفة (لدى كانط)، أو مبدأ أنطولوجيا (لدى فويرباخ). إنها بأبسط معانيها تعني ما يلي: إن الفكر هو نفسه من نمط الممارسة، فالفكرة لا يُحيط بها فهم، وهي عصيةٌ عن الإدراك ما لم تلازمها الممارسة؛ بل وإنها ممارسة" (10). إن المعرفة تُغيِّر، على هذا النحو، حيِّزها بعدما غادرت مجال النظرية، لتصبح الحيِّز السياسي. شرطَ أن يفهم، من الآن فصاعدا، من عبارة "سياسي"، الماديةَ التاريخية، من حيث هي حيِّزٌ لنظرية الإحداث (الإعمالية/العملياتية)، ومن حيث أن نظرية الإحداث تمارس ما تُحدِثُه هي في التاريخ، في الطبيعة والمجتمع. هذه الإحداثيات منظِّمة نظريا بمقتضى قوانين التاريخ/المجتمع/الطبيعة، قوانين الطبقة العاملة ومنظَّماتها الثورية. فأعماله، لينين أو لابيكا، تنفصل مجدَّدا، ما بعد ماركس وإنجلز، عما كان قبلهما قلعةً حصينةً للفكر، لتجعلَ من السياسة أو من المادية التاريخية الفاعلة حيِّزا للممارسة والنظرية، مع منح النظرية معناها من حيث هي إحداث، إعمال، أو عمليات استراتيجية.
 أعماله، في مؤلَّفيه "الديمقراطية والثورة"، و"نظرية العنف"، تُرسي لنظرية سياسية بروليتارية، وتُتَرْجِم عن تاريخ النضالات، فتتفوَّق النظرية السياسية على كل ما عداها في غيرها من المجالات، لتصبح السياسة حاملة للمعرفة العلمية، فتُعيد للثورة مصداقيتها. ولما كان شاغل لينين في المقام الأول أن يُعيد، اليوم، لتاريخ صراع الطبقات موقعه القَبْلي في المعرفة والنظرية، ولما كان شاغله، أيضا، أن يُذَكِّر بأن "الفكر من نمط الممارسة نفسها"، فإنه يتساءل كيف اْرْتَدَت الماركسية، وهي مشروع علمي (النقد)، وإحداث في التاريخ (السياق)، كيف اْرْتَدَت ملابس تنكرية لتصبح خطاب الشمولية، أو ما يُسَمَّى ب/"الوظيفة - الفلسفية – السلطوية، فتتخلَّى، على هذا النحو عن البحث والتاريخية؟ ثم يجيب إن النظرية ليست هنا وحدها المسؤولة عن الانحرافات النظرية، إنما اصطدامها – حسب ماركس – بالمقتضيات الإلزامية للواقع، بصراع الطبقات، وما يحمله، بوجه الإمكان، من انحرافات إيديولوجية، هو الذي يقودها على مسارات هذه الانحرافات (11). لذا، فإن لابيكا، بمعنى آخر، يعود إلى الشيوعية مرجِّحا "الممارسة السياسية". فلينين "يؤكد ان "نظرية ماركس" لا تفرض أي نسق إلزامي ساري المفعول على الفلسفة والتاريخ، وأنها ليست أكثر من تفسير لتكوين ما اقتصادي اجتماعي" (الأعمال الكاملة، باللغة الفرنسية، الجزء الأول، ص 211)، أو إن نظرية ماركس "مجموعة من المبادئ المُوَجِّهَة العامة" (الأعمال الكاملة، باللغة الفرنسية، الجزء الرابع، ص 2018). وأعمال لينين ذات الصلة بوضع روسيا ومراحله المتتابعة منذ القرن التاسع عشر، حتى غاية تشييد سلطة ما بعد- الثورة، هي من طبيعة واحدة من جهة أعمال ماركس في ما يتعلق بالأزمات في فرنسا. إنه يرجِّح بصورة حاسمة الممارسة السياسية، حيث تصطدم بصورة متتابعة مفاهيمها بما تفرضه الظروف بصورة قسرية (م.س.). فلقد كتب لويس ألتوسير ، كما يأتي لا حقا في الحوار، "قراءة رأس المال" استجابةً لشاغل، وهو العودة بالشيوعيين إلى المصادر، بعدما أُغلق عليهم ضمن القلعة الإيديولوجية الرسمية للأحزاب الشيوعية.
4/ النظرية هي في نفس الوقت ممارسة، استراتيجية وتكتيك:، من حيث أن الشيوعية أو الثورة البروليتارية هي هدف الماركسية. بتعبير آخر، فإن النظرية إن لم تكن الممارسة هي مصدرها، فإنها لا تطبخ – حسب إنجلز - بيضة واحدة. ذلك أن النظرية، من وجهة نظر المادية التاريخية، ليست فقط ممارسة، وإنما هي أيضا استراتيجية وتكتيك. "فالفلاسفة فسَّروا فقط العالم..."،حسب ما يأتي في أطروحة  فويرباخ الحادية عشرة. إن موقع الفعل والتاريخ في أعمال لابيكا، شأنه شأن الاندماج ما بين النظرية والممارسة - في إشارة إلى أهمية العودة إلى الشيوعية من حيث هي سياسة بروليتارية صادرة عن الاندماج ما بين النظرية والممارسة المندمجتين بالمادية التاريخية - إن موقع العمل والتاريخ ليس موضوع علم إلا بقدر ما يُصاغ به هذا الموضوع صياغةً استراتيجية سياسية على أسس من صراع الطبقات وعلاقات القوى. لذا، فإن أعماله بهذا المعنى تُذَكِّرُ بأن الوقت قد حان لدفن ماركسية المثقفين والفلاسفة وغيرها من الانحرافات التي غزت الماركسية، بما يرفع العراقيل المنتصبة أمام مادية تاريخية ذات أسس استراتيجية.
 
5/ الفكر من لبنة التاريخ. فإحداثية التاريخ تجسِّد للموقع الراجح للممارسة في بناء التاريخ. فالمفاهيم – حسب ما يأتي في الحوار اللاحق – "صادرة عن التاريخ. ذلك أن ماركس لم يبحث عن ديكتاتورية البروليتاريا من جانبها النظري عبر التأملات الفلسفية، وإنما هو وجدها في كومونة باريس".  إن أعمال ماركس وإنجلز هي كلها، من الألف إلى الياء، "مندرجة في السياق والظروف الموضوعية".
فإن وحدة النظرية والممارسة تجد مصدرها الأصلي، من حيث النظرية والوحدة، بالتاريخ، أو بالمادية التاريخية، ليس غير. فقد كَتَبَ في المخطوط  "عن لينين": إن هذه المادية لدى ماركس ولينين، من وجهة نظر لينين، لاتقف عند حدي التاريخ والممارسة، وإنما تأطِّرهما. أي إن تأطير المادية لهما، ليس فقط تحليل مادي، إنما هو يستند إلى التاريخ، وموازين القوى، مع اندماج الممارسة بالوعي السياسي. هذا يعني، أننا لن نكون مثاليين في ما يتعلق بالتاريخ والممارسة، كي نكون بعد ذلك مجرد ماديين في الفلسفة".
 
6/ ماركسية الأنفاق (11 مكرَّر): تَظهَر هذه الماركسية في أعماله مرتبطة بصورة مباشرة بالوحدة الجدلية الاندماجية ما بين النظرية والممارسة، أو بالأحرى من حيث أن هذه الماركسية هي نتيجة مباشرة للانفصال القاطع ما بين النظرية والممارسة. هذا الانفصال القاطع الذي يقود إلى انحرافات أُرثوذكسية، كما يقود إلى البدع. منها على سبيل المثال الفصل ما بين المادية التاريخية والمادية الجدلية. بيد أن "ماركسية الأنفاق" هي ماركسية الوحدة الجدلية ما بين النظرية والممارسة المندمجة بالتاريخ الإحداثي (أحداث التاريخ)، وليس في منطق ما. بل وإن هذه الوحدة تَشْغَل، علاوة على ذلك، حيِّزا مركزيا في الماركسية وتاريخها. حتى أن أهميتها العظمى تتضح مع ظهور الانحراف من حيث هو ناتج عن إتباع  النظرية للممارسة، والعكس بالعكس. لابيكا يَسْتَخرج هذه الماركسية المكبوتة بالعودة إلى لبنة التاريخ، حيث المادة، المفاهيم التأشيرية، وغير هذه وتلك من مكوِّنات التاريخ المادي، كالدولة، الإيديولوجيا، الثورات، نمط الإنتاج، التكوين الاقتصادي الاجتماعي، وموازين القوى، إلخ. هذه المكوِّنات التي لا تكف عن التغيُّر. فلنلاحظ "أن ما يأتي به ماركس من تعديل على نصوصه ليس وليد ظرف عابر أو انتقاء مقصود بعينه. إن هذه التعديلات وليدة العمل النظري المندمج بصورة مباشرة وفورية بلبنة التاريخ. هذه اللُّبنة ليست حدثا عابراً من التاريخ نفسه، وليست أيضا شكلا توضيحيا للُّبنة التاريخ، إنما هي حيِّزِ الممارسة السياسية التاريخية حيث يجري امتحانها عبره. أي متابعة صراع الطبقات عبر التاريخ يوميا...حيث تتجدَّد مادته يوميا" (العمل المأجور ورأس المال، المقدِّمة). هاهنا يكمن السياق التاريخي، "اللحظة الراهنة"، أو "التحليل الملموس لوضع ملموس"، على حد قول لينين. هنا "يكمن التلاقي ما بين الحدث التاريخي والمفاهيم، هذا التلاقي الذي، إن هو يمضي إلى نهايته، فإنه ينتهي إلى نتائجه أو ما يترتب عليه على صعيد الممارسة" (12).
 
7/ النظرية هي "الفعل المفهوم": تَكتَشِف أعمال لابيكا عن كثب "ماركسية الأنفاق" عندما تُبَيِّن أن مكوِّنات التاريخ، من نمط الإنتاج، وصراع الطبقات، وموازين القوى، واستلام السلطة، تَرتَفع إلى مستوى المفاهيم، حيث تَمْثُلُ من حيث هي أنظمة فكرية، أو كما يَكْتُبُ "أفعال مفهومة" تتيح إدراك أعمال ماركس وإنجلز في ما هي تؤدِّي وظائفَها. هذه "المفاهيم" هي بمثابة قطار أنفاق مختبئة في أعماق الأرض، ثم لا تلبث عندما يصل الفعل إلى نهايته، أو إلى غايته، أن تظهر على السطح بعدما يكون الفعل قد اكتمل من حيث أدائه لوظائفه. "لذا، فإن صراع الطبقات إذا ما خضع للتحليل، فإنه معفىً من أي وظيفة تُسْنَدُ إليه، تكتيكية، تاريخية، إلخ، ما لم يَندرج الصراع الطبقي من حيث هو مكوِّن ومفهوم بين غيره من مكوِّنات ومفاهيم في سياق واسع من مكوِّنات التاريخ، كالتطور، علاقات القوى، الطبقات، استلام السلطة، الإيديولوجيات، أو المُكَوِّن التاريخي المحدِّد للحتمية، وغيرها من مكوَّنات/مفاهيم تشكِّل في ما بينها مقومات التحليل. إن مفهوم الصراع الطبقي لا يُستثنى عن غيره من المكوِّنات. بل، وإن هذه المُكوِّنات هي التي تتيح إدراك الصراع الطبقي أثناء تأديته لوظائفه ومهامه السياسية الواردة في برنامج سياسي (13). المثال الحي عل ذلك أن العلاقة في المصنع ما بين عامل فرد ورب العمل، لا تفي بمكونات الصراع الطبقي ما لم تندرج هذه العلاقة في برنامج سياسي؛ أي ما لم تُسَيّس هذه العلاقة.
 
8/ "المفاهيم المحدودة"، أو "المفاهيم الإشارة": تُشكِّل النظرية والممارسة في وحدتهما الاندماجية "موضوعا". هذا الموضوع يندرج في "سياق". هذا السياق هو نفسه ما يطرأ عليه من تغيير. هذا التغيير يُملي بدوره على الحيِّز النظري مكوِّناته، أي ما يطرأ من تغيير على موازين القوى، نمط الإنتاج، وصراع الطبقات، الحزب، إلخ. فالنظرية إذن هي، من حيث التعريف، أو من حيث هي ممارسة، أو من حيث هي ممارسة/نظرية، إن لم تكن "نظرية إحداث" أو نظرية عملياتية، فإنها تندرج متَّحدةً بسياق، لتصبح تغيُّرا مستمراً تحت تأثير ما يحمله التاريخ من متغيِّرات. لذا، فإن الأفعال المفهومة النظرية، أي الفعل من حيث هو يتغيَّر عبر الممارسة ليصبح مفهوما، أو من حيث هو ممارسة مفهومة، ممارسة/نظرية، فعل/فكر، إن هذه "الأفعال" التي تُشكِّل "نظرية"، على غرار الفكر الذي يتكوَّن من حيث هو لبنة وعجينة التاريخ والممارسة، هذه اللبنة هي التي تملي نفسها على النظرية/الممارسة، وهي التي تملي على الممارسة بعدما تحوَّلت إلى نظرية ما يطرأ عليها من تغيير. ستاتيس كوفيلاكيس (انظر، في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم، المقدمة الثانية، جورج لابيكا، شخصيته وسياسته) يوضِّح المعنى المقصود ب"المفاهيم التاريخية، من صراع الطبقات، نمط الإنتاج، الإيديولوجيا، السلطة، البروليتاريا، إلى الحزب، إلخ، في أعمال لابيكا، بالعودة إلى مصطلح "المفاهيم-المحدودة"، أو "المفاهيم من حيث هي إشارة"، والتي إذ هي تخضع لمتغيرات التاريخ، فإنها تغيِّر نمطها دون أن يمسَّ هذا التغيير ماهيتها. فالصراع الطبقى أو الحزب، على سبيل المثال، يتغير نمطه بالانتقال من نمط الإنتاج الرأسمالي، إلى نمط الإنتاج الاشتراكي، إلا أنه من حيث الماهية لا يتغيَّر كي يصبح ألف..، باء..، أو جيم.. . إنه يؤكِّد أن أعمال لا بيكا لا يتيَّسر فهم مكنونها ما لم تتوسط أطروحة تأسيسية مؤدَّاها أن الفلسفة تفتقد إلى موضوع مختلف عن موضوعات غيرها من المعارف. الفلسفة ليس لديها موضوع خاص بها. إنها ليست أنطولوجيا             ( الوجوديون)، "، وليست مفهوما عن العالم ذي أنظمة عقلية (هيجل)، وليست فلسفة البراكسيس (أنطونيو غرامشي)، وليست نظاما نظريا من صراع الطبقات (لويس ألتوسير)، و بالأحرى، إنها ليست مستودعاً احتياطياً لإنتاج المفاهيم. إن مقولاتها لا تعدو أن تكون "مفاهيم تأشير"، أو "مفاهيم محدودة". إنها ليست مجموعة من المقولات المستقلة ذاتيا والتي تزعم لنفسها أنها ميتاعلمية" (م.س.).
9/  الممارسة من حيث هي أساس اللينينية:  ليست الممارسة السياسية في أعمال لينين حيِّزا بين غيره من مكوِّنات المادية التاريخية، إنما تشكِّل الأساس في أنماط الإحداث لديه، بل وإن النمط الفعلي للممارسة هو الذي يجعل من التحليل تحليلا ماديا. يكتب لابيكا: "إن اندماج الشامل بالواقع المباشر الفوري هو الذي يتيح إدراك الأسباب التي من أجلها توجد الممارسة السياسية التي تستند إلى المادية، في قلب اللينينية". إنه يلح في مؤلَّفه "كارل ماركس، أطروحات فويرباخ" على الوحدة ما بين المادية والممارسة. "حيث تحظى الممارسة بمقام الأفضلية" (14). بل وإن المادية ممارسة لأن مكوِّن المادية ومكوِّن الممارسة يَتْبَع أحدهما الآخر مادام نقد الإيديولوجيا من حيث هي بمثابة الحجرة السوداء في آلة التصوير، تنتهي إلى استبدال المادية الحسية والتأملية بنقيضها، ألا وهو مادية الممارسة (15). أنه يضيف لمزيد من الإيضاح: "إن مفهوم السياق هو الذي يحتل حيِّزا مركزيا في أعمال لينين" (16). بل وإن أعمال لينين، حياته، وكتاباته ترافق من الألف إلى الياء، ومن أقصاها إلى أدناها، "السياق". "إن أعمال لينين من أولها إلى آخرها تُبَيِّن كيف يقارب عجينة التاريخ، حيث تمتنع هنا كل مفاجأة عندما تكشف هذه الأعمال عن التزامٍ لا انقسام فيه بين الالتزام من النمط النظري، والالتزام من النمط السياسي. حينئذ يظهر أن أعماله الكاملة هي التزام بالفعل السياسي انطلاقا من العمل على صعيد السياق" (17).
 
10/ النظرية والممارسة ظرفيتين: بخلاف ما يُرى بالمعتاد، فإن "نقد الاقتصاد السياسي" وكتاب "رأس المال"، وإن كانا من الكتابات "النظرية" لماركس وإنجلز، إلا أنها كلها كتابات في "السياق التاريخي". ليس فقط من جراء ما تمنحه من حيِّز هام لتاريخ المعتقدات، وإنما لأنها تُعنى علاوة على ذلك بالأحداث، إلى جانب "رأس المال" وما يحتوي عليه من كتابات في التراكم البدائي، أزمنة العمل، تشريعات العمل، المَشْغَل، المصنع، والدخل. ثم إنها، فوق ذلك وذاك، تَمْثُلُ من حيث أن طبيعة مقاربتها في "رأس المال" طبقية. فالمقاربة هي نفسها "وجهة نظر البروليتاريا" (مقدمة الطبعة الثانية، باللغة الألمانية). الاشتراكيون والشيوعيون يَمْثُلون هنا باعتبارهم "منظِّري الطبقة العاملة". الاقتصاديون هم "الممثِّلون العلميون للطبقة البورجوازية" (بؤس الفلسفة). أضف إلى ذلك أن اللحظة النظرية لا تُختَصَر إلى نظرية محضة، او نظرية من حيث هي نظرية، أي أنها ليست كياناً بحد ذاته، منفصلٌ عن سواه. إنها نظرية إحداثية (نظرية استراتيجية، سياسية، عملياتية). نظرية إحداثية طالما هي تُحدِث ضمن المعرفة، من حيث هي مسار من الممارسة المتطورة باتجاه النظرية ضمن سياق تاريخي سياسي خاضعٍ للظروف والشروط الموضوعية. فالنظرية، كي ما تجد حلا افتراضيا قيد الرهان للمفارقة والتناقضات ما بين الاقتصاد والسياسة، أو ما بين حركات سياسية مجتمعية متباينة، النظرية تكون غير منفصلة عن الممارسة التي تتطور عبر الزمان التاريخي، تناقضاته، تغيُّراته، تحوُّلاته الكميَّة النوعية، صراعاته، صيرورته التاريخية، إنها، بهذا المعنى "نظريةٌ إحداثيةٌ" لا تنفصل ممارستها عن فكرها. إن النظرية إذ هي تُحْدِثُ في المجتمع والطبيعة كي تحرِّك خطوط وجبهات الصراعات المجتمعية السياسية، فإنها تَخْضَعُ لما تمليه عليها الممارسة التي تفعل فعلها من داخلها، في ما تتلقى النظرية، في نفس الوقت، من السياق والظروف والشروط الموضوعية، قوانين الصراع والنزاع الذي يٌفرض عليها من خارجها، أي من العدو الطبقي. ثم إنها، في نهاية المطاف، نظرية إحداثية طالما هي، نظرية/ممارسة، في حالة نزاع سياسي مستمر، شبه حربي دائم، مع العدو الطبقي، بما في ذلك الإمبريالية وعملائها. فإذا كان العمل النظري يمدُّ يده لأداة وظيفيه هي التربية (البيداغوجية) والتعليم، طلباُ للمساعدة، كي ما يتمكن الوعي الطبقي من الإمساك بصراعاته الطبقية، فإن هذه اللحظة النظرية، أو الوقفة النظرية، تُعْتَبَر بنظر لينين في "ما العمل" "أقل نظريةً بمسافات، أو أكثر اندماجاً بالممارسة، بتجربة الحياة السياسية، منها اندماجا بالنظرية" (18).
 بالمحصلة، فإن ما يُسمَّى ممارسة، إنما هو السياسة قيد التنفيذ في النزاع ضد العدو الطبقي. فهي ليست ممارسة فلسفية على حدة، ولا هي ممارسة اجتماعية من طراز العلوم الإنسانية، اقتصاد، آداب، حقوق، اجتماع، بسيكولوجيا، إلخ، التي اجتاحت الجامعات والأكاديمياتـ. فكما أن الممارسة، هي ممارسة على طريق الثورة البروليتارية، فإن هذه الممارسة الثورية تطالب دوما بأوسع الديمقراطيات، وانتزاع كل السلطات من العدو الطبقي بوجهيه الاثنين، البورجوازية والإمبريالية، بما في ذلك العولمة النيوليبرالية. إن ما يسمَّى ممارسة إنما هو نفسه الصراع الطبقي. فإذا كانت الوقفة البيداغوجية لا تمت بصلة إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية، وغيرها كالحقوق على سبيل المثال، كما لا تمت بصلة إلى المفاهيم والمقولات المنطقية الجامدة، وكانت بالأحرى والأجدى حركة وظيفية تُحَتِّمُها الظروف والشروط الموضوعية للنزاع السياسي الطبقي، فإن المادية التاريخية، هي نظرية الطبقة العاملة والشيوعيين. النظرية بهذا المعنى نظرية ظرفية، إن لم تكن إحداثية. في ما تكون الممارسة صراعا سياسيا (بما في ذلك العنف الثوري الاستراتيجي) مستمرا من أجل الثورة ضد العدو الطبقي، والإمبريالية العالمية، وأعداء الثورة، وسلطة البورجوازية، إلخ.
 
11/ النظرية ليست فقط نظرية سياسية، وإنما هي علاوة على ذلك نظرية الطبقة العاملة: إن غلبة الممارسة على النظرية من شأنه أن يَدْرُجَ هذه الأخيرة في كلِّ واحد شاملٍ هو المادية التاريخية. فإذا كان هذا الحدث والإحداث يشكِّل ثورة في مجال نظرية المعرفة، فإن هذه الثورة هي في نفس الوقت ثورة سياسية بتوسط "الحزب" و"موازين القوى" و"السلطة/الدولة" وغيرها من مكوِّنات التاريخ. الأمر الذ يؤكِّد موقع الممارسة والسياسة في المعرفة من حيث هما أداتين اثنتين من أدوات المعرفة، شرط أن يُفهم أن جورج لابيكا، كلَّما تحدَّث عن الانتقال المعرفي من الفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانية والحقوق، إلى السياسة من حيث هي حيِّز المعرفة والممارسة، فإن المقصود هنا بالسياسة إنما هو المادية التاريخية، وقد ظَهَرَت مكوِّناتها بعبارات سياسية. أي إن السياسة مظهر من مظاهر المادية التاريخية، أو ترجمة عنها بعبارات سياسية، ظرفية، سياقية، شمولية وخصوصية في آن واحد معا. "إن الحزب، على حد قوله في الحوار القادم، ينشأ عن الاستمرارية الموجودة ما بين المادية ومواقف الطبقة العاملة. إذ إن للحزب فكرٌ، والحزب الشيوعي هو فكر الطبقة العاملة ما بقي هذا الفكر هو نفسه حزبها".
 
12/ إنها نظرية التغيير الشمولي: يَرتبط أو يَتْبَعُ تغيير العالم المتغيِّر اتْباعاً وارتباطا بالنظرية بصورة جوهرية. فإذا كانت النظرية تفتقد لأي استقلال ذاتي عن الممارسة، فلأن النظرية تحتاج إلى مضاف إليه أو صفة كي ما يكتمل معناها. إنها نظرية التغيير، وليست نظرية فحسب. بل وإن من طبيعة النظرية أنها تتكون من خلال التغيير والتغيُّر والمُغَيِّر. فهي نفسها تَغَيُّر، تحوُّل، تطور وصيرورة، فضلا عن التناقض، الأطروحة ونقيض الأطروحة، والتركيب الجديد المُتَجدِّد بين الأطروحة ونقيضها. الأمر الذي يقود بلابيكا نحو مزيد من الوضوح في ما يتعلق بالموقع المركزي للتغيِّير في المادية التاريخية، أو في النظرية نفسها، وذلك عنما يكتب في المخطوط "عن لينين": "ليس تغيير العالم رؤية شمولية. إنها رؤية تُملي على الماركسيين لزوما أن يضعوا النظرية من حيث هي نفسها التغيُّر والتغيير في وضع واقعي محدَّدٍ، من خلال الممارسة المتطورة نحو نظرية التغيير. لذا فإن الماركسية هي نفسها التكوين الاقتصادي الاجتماعي لحالة تَجْمَعُ ما بين الخصوصية والشمول، في حيِّز مُحَدَّد للإنسان الاجتماعي، وزمانه". إن هذا الإحداث الفاعل في سياق محدَّد قوامه قوانين التاريخ، المجتمع والطبيعة، هو الذي يُعطي هذا الإحداث تسمية "المادية التاريخية"، من حيث هي علم معرفي متجدِّدٌ يَكتَشِف إلى ما لا نهاية تجدُّد التاريخ.  فالسياق التاريخي بالمعنى اللينيني يَستحق من وجهة نظره مقام الأولوية، لأن الماركسية تَعني تغيير العالم، وإن الماركسية، إن هي لم تُكَرَّس لبناء العالم الشيوعي، فإنها لن تكونَ لا ماركسية ولا شيوعية. فإذا كان لابيكا يُدافع عن ماركسية هي، من وجهة نظر النظرية، ماركسية الممارسة السياسية، فإن هذه المقاربة لا تَكْتَسب معناها ما لم يُفهم من وراء ذلك أن هذه الممارسة هي المعادل للمادية التاريخية. وإن مقاربته للنظرية تهدف إلى بيان ما للسياق والإحداثُ من أهمية ضمن النظرية نفسها. بمعنى آخر، فإنه يكرِّس حيِّزا هاما من أعماله لإحداثية الإنسان الاجتماعي لما هو تحريك خطوط وجبهات الصراع السياسي (الصراع الطبقي) في المجتمع.
 
13/ الاندماج ما بين النظرية والممارسة، العلم والطبقة: إن وظيفة النظرية في ما يتعلق بتحويل المعرفة من ممارسة تلقائية، عفوية، إلى علم، أو ممارسة معرفية علمية، يأتي عبر استخلاص القوانين الملازِمة للطبيعة والتاريخ والمجتمع. فإذا لم تكن النظرية هي نفسها انعكاس لقوانين الطبيعة والمجتمع والتاريخ، و بالأحرى، نظرية الطبقة، فإنها لن تكون حينئذ سوى إيديولوجيا. إن أهمية الوقفة النظرية أو اللحظة النظرية خلال صيرورة المعرفة وزمانها، يرتبط بدور آخرٍ لها، هو الدور البيداغوجي للتربية والتعليم والبرمجة السياسية، من حيث أن النظرية هي التي تغيِّر الوعي والممارسة العفوية لدى الجماهير والطبقة العاملة، وتَنْتَقِل بها إلى الوعي العلمي. من هنا يأتي أيضا ما يحمله "الاندماج" من أهمية تعبِّر، حسب ما يأتي في "المعجم النقدي للماركسية" تحت مصطلح "الاندماج"، تُعَبِّر عن "نمط من العلاقة المحدَّدَة ما بين الاشتراكية والحركة العمالية" (19). ذلك أن الوعي الاشتراكي في حالته العفوية، كي ما يستطيع حيازة التاريخ، فإنه بحاجة إلى معرفة قوانينه التاريخية، الطبيعية والاجتماعية، بخصوصياتها وشموليتها. "إن الوعي الاشتراكي اليوم، يَكتب لابيكا، لا ينبثق إلا على قاعدة وعي علمي عميق (20). بيد أن هذا الوعي يبقى تلقائيا ما لم تتكون القوانين نظريا". ويَكتُبُ لينين (نيوزايت، 1901-1904، xx ، 1 رقم 3، ص 79): "إن الوعي الاشتراكي مكوِّن هام من المكوِّنات الخارجية للصراع الطبقي، وليس أمرا ينبثق عفويا" (21).
 
14/ المعرفة المحايِّدَة لا وجود لها: المعرفة المحايِّدة لا وجود لها ما دامت النظرية هي نفسها نظرية الطبقة العاملة. يترتَّب على ذلك أن المادية التاريخية ليست هي نفسها بدون مضاف إليه أو صفة. إنها ليست مادية تاريخية فحسب. أو هي ليست "براكسيس" يَجْمَع ما بين النظرية والممارسة في علاقة تكاملية، أو تبادلية، طالما هي علاقة اتصال متَّصِلً. المادية التاريخية هي نفسها الشيوعية، من حيث أن البروليتاريا وحزبها هما اللذان ينبثق عنهما المعرفة ونقد الإيديولوجيا انطلاقا من شروط وظروف الطبقة العاملة في ما هي تغيِّر العالم بالممارسة والحركة، من خلال الإحداث في الواقع، وليس من خلال اتِّباعها لأنساقٍ نظامية للنظرية، قديمة ومعادة. والماركسية بدون البروليتاريا ليست الشيوعية. بتعبير آخر، فإن المعرفة المحايدة لاوجود لها. إن المادية التاريخية هي نفسها نظرية الممارسة العمالية. إذ إن الماركسية بدون الشيوعية لا وجود لها. لذا، فإن تعبير "نظرية الإحداث" تحيط بصورة أفضل من غيرها بأعمال لابيكا في ما يتعلق بالمادية التاريخية (22).  فإذا كان هو يُعطي الماركسية معناها من حيث هي الشيوعية، فإنه يعرِّف، بالتالي، المادية التاريخية من حيث هي "نظرية إحداث". نظرية إحداث، هي من حيث الجوهر، ومن حيث الوحدة ما بين النظرية والعمل، وحدة الذات والموضوع، الفعل والوعي، هي من حيث الجوهر نظرية سياسية، أو هي من الأول إلى الأخير، من الألف إلى الياء، من الإنسان الاجتماعي، إلى المجتمع فالطبيعة، هي من حيث الجوهر المادية التاريخية. النظرية هي إذن الطبقة بصيغتها العلمية. إن الاندماج ما بين النظرية والممارسة يَنْقُلُ مفهوم المثقَّف، وفق حركة تنتقل من "المثقف البورجوازي" حسب تعبير كاوتسكي، إلى "المثقف العمالي" الذي يعود تكوُّنُه إلى الحركة العمالية، على مثال ماركس وإنجلز، حسب تعبير لينين الذي يضم إليهما برودون، فاياَّن، ويتلينغ، وبابل... هذا، وإن  مبدأ الاندماج يشكِّلُ العلاقة ما بين النظرية والطبقة العمالية. فالنظرية إذا ما هي حُرِمَت من هذه العلاقة، فإنها تكف عن أن تكون نظرية التغيير (23).
 
15/ النظرية هي قوانين الممارسة: ما دامت قوانين إحداثها ملازمة للتاريخ، المجتمع والطبيعة. بتعبير آخر، فإن الممارسةَ، من حيث هي مُنْقادة للنظرية التي تملي عليها قانونها، كامنةٌ متن واقعية  صراع الطبقات. فالممارسة منقادة لقوانينها الذاتية حسب ما عكستهم النظرية. هذا هو معنى التحليل الملموس للواقع الملموس لدى لينين. لذا، فإن البرنامج السياسي لعمل الصراعات السياسية مُنقادٌ لقوانين الممارسة التي تُشَكِّل هي نفسها قوانين التاريخ، الطبيعة والمجتمع. أو إنها هي نفسها التي تشكِّل "نظرية الإحداث". ذلك أن النظرية تبقى غير إحداثية ما لم تَتْبَع هي نفسها قوانين الواقع التي تُشَكِّل هي نفسها قوانين النظرية. على هذا النحو، فإن الممارسة والنظرية، الذات والموضوع، يشكِّلان معا تكوينا واحدا.
 
16/ النظرية هي نظرية الثورة: يلاحظ جورج لابيكا أن النظرية من حيث هي القوانين الموضوعية للتاريخ، فإنها موجَّهة، تارةً، ضد التاريخ أو نمط الإنتاج الرأسمالي، حسب ما يأتي في "رأس المال"، أو هي تُرافق، تارة أخرى، قوتها الثورية. الأمر الذي يقود به إلى الرجوع إلى لينين الذي يبدأ باكورة أعماله بهذه الكلمات: " إن المهمة العاجلة للعلم، لدى ماركس، هي أن يأخذ الصراع معناه الحقيقي". ثم يضيف: "المنهج قوامه إخضاع العلم لرقابة رأس المال، وتوجيه المعرفة بعدما تكون تأسست ضد راس المال الذي كان مؤسِّسَها". يُتابع لينين: "هذا هو ما يلخِّصه إنجلز على خير وجه: فالعلم لدى ماركس كان قوةً تاريخيةً متحركة، قوة ثورية" (Der Sozialdemocrat, n°13 ) (24).
 
                                         --------------------------------- 
    
إن تفوق التاريخ والممارسة على النظرية يَشْغل متن أعمال جورج لا بيكا حيز الأساس. فإذا أضفنا على هذا التفوق حجر الأساس الثاني لأعماله، وهو الخروج من الفلسفة (أوزغانغ باللغة الألمانية)، والحجر الثالث ذات الصلة بماركسية الأنفاق تحت الأرض، فإنها تشكل في ما بينها التكوين التاريخي الذي تبنى عليه أعماله. فإذا كان تفوُّق الممارسة هو الأساس، فإن غيره من مكوِّنات التاريخ تصدر عن هذا التفوق، ومنها نظرية الانعكاس، الإيديولوجيا، نقد المادية الجدلية، ديكتاتورية البروليتاريا، الوظيفة الفلسفية للدولة، أي إن المادية التاريخية هي في نهاية المطاف المصدر الوحيد لتجدِّد مكوِّنات التاريخ وتحوُّلاتها.
 
إن المادية التاريخية في أعماله تنتقل بالمعرفة التي تغيَّر حيزها، فتنتقل من الفلسفة، بل وحتى من النظرية، إلى الحيِّز السياسي، شرط أن يفهم من السياسة أن المادية التاريخية هي نفسها السياسة، هذا الحيِّز المعرفي لعمل نظرية الإحداث في التاريخ، الطبيعة والمجتمع. هذا الإحداث منَظَّمٌ من ناحية النظرية تبعا لقوانين التاريخ، الطبيعة، المجتمع، فضلا عن الطبقة العاملة ومنظَّماتها الثورية. فأعماله، من حيث هي استمرار للمادية التاريخية ما بعد ماركس، إنجلز، ولينين، تغادر القلعة الحصينة للفكر، لتجعل من السياسة، أو من المادية التاريخية، مادية الممارسة، حيِّزاً لعمل المعرفة، وتعطي للنظرية معنى هو بصورة جوهرية ممارسة، أو حسب ما يقوله ماركس "نظرية ذات طبيعة أرضية".
 
ثمة دافع رئيس وراء أعماله، وهو، من الناحيتين النظرية والممارسة، استجابةٌ لمسألة ذات وجهين اثنين: تغيير العالم، من جهة، وكي ما تُنجَز هذه المهمة، لا بد للشيوعية، من جهة ثانية، أن تستعيد من جديد ذاتيتها التي منها جاءت، ألا وهي التاريخ.  النتيجة هي إن ما يَبْحَث هو عنه ليس أي أمر آخر سوى العودة إلى الشيوعية التي تتفوق من حيث معناها التاريخي والواقعي على الماركسية التي تقع فريسةً للالتباسات. الشيوعية من حيث هي إحداثٌ من الممارسة، من حيث أن هذا الإحداثُ هو جوهريا حركة تَسٍير النظرية بفضلها على قدميها. لابريولا يقول في رسالة له موجَّهة إلى كروتشه: إن الواقع لا يُستَحوَذ عليه بالمحاكمات الفكرية، إن الواقع يُلتَقَطُ". على هذا النحو، فإن النظرية والممارسة مكونان من عجينة واحدة. هذه اللبنة ليست تكويناً آخراً غير المادية التاريخية، وهي مادية ممارسة، ظهرت مع الثورات البروليتارية، وسجَّلَت عبر "البيان الشيوعي" نهاية الفلسفة، أو بصورة أدق الخروج من الفلسفة الألمانية، والاشتراكية الفرنسية، والاقتصاد السياسي الإنجليزي. هذا الخروج يُعلِن في نفس الوقت عن تكوُّن علم التاريخ من حيث هو العلم الوحيد للإنسان. هذا العلم الذي يَجْمَع ما بين الطبيعة والمجتمع، ذو مقياس. مقياسه أن المجتمع هو نفسه موضوع علم الطبيعة من خلال الإحداث من قِبَل الإنسان عبر الإنتاج والعمل. ولما كان الإنسان طبيعةٌ، وكانت الطبيعة مجتمعاً، حسب تحليل لابيكا، فإن التطور أصبح مع الإنسان تاريخا، وأضحت الطبيعة تَتْبَع صيرورة الإنسان بأبعاده الاجتماعية (26). هذا العلم، عل حد قوله، يُسَجِّل الخروج من الفلسفة حتى وإن كانت هذه الفلسفة علمية.
 
إنه بالمحصِّلة يعيد للماركسية معناها الحقيقي من حيث هي نفسها الشيوعية. إنه يعرف أيضا المادية التاريخية من حيث هي إحداث نظري لا انفصال فيه ما بين العمل والوعي، الذات والموضوع. إحداثٌ نظريٌ هو بصورة جوهرية مادية ممارسة أو بالأحرى سياسة. المادية التاريخية نظرية سياسية من أولها إلى آخرها، من التاريخ، إلى الإنسان، الى المجتمع، وحتى غاية الطبيعة.
 
حسان خالد شاتيلا
شباط/فبراير 2010
 
                                            -----------------------------------
 
                                                       هـــوامـــش
 
 
 1-/  Labica G, Karl Marx. Les Thèses sur Feuerbach, Paris, PUF, 1987, pp. 52-54.
2/- Labica G, Le Marxisme : orthodoxie et hétérodoxie. Pour un bilan critique, in Encyclopédie philosophique universelle, Paris, PUF,4ème éd.   2000, p. 312.
3/ -Thèses sur Feuerbach..,op.cit., pp. 52-54.
4- l ’entretien
5- / Karl Marx, Thèses sur Feuerbach, op.cit., p. 21.
6- / Le Marxisme:  orthodoxie, op. cit., pp. 314-315.
7- / Karl Marx. Les thèses sur Feuerbach, op.cit., p. 107.
8/ - ibid. p. 95.
9- / Le Marxisme, orthodoxie et hétérodoxie, op. cit., p.315.
10- / Les thèses su Feuerbach, op.cit. , p. 52
11/ - Le Marxisme:  orthodoxie, op. cit., pp. 314-315
11/ bis- Ce « marxisme d’Underground » est celui de l’unité dialectique entre la théorie et la pratique qui se fait dans l’histoire événementiel et non pas dans quelconque logique. Cette unité occupe de surcroît un espace central dans le marxisme. Son importance majeur s’illustre bien lorsque le révisionnisme apparaît, selon Labica, comme résultat de la subordination  de la théorie à la pratique et vis versa.  Car un marxisme qui ne considère pas que la théorie se mélange à la pratique,  ou elle fait parti avec celle-ci de la même pâte, conduit, dans le passé comme au futur, le communisme à soumettre la théorie aux aléas de la politique officiel des partis communistes, faisant de la théorie un outil de justification après avoir été un instrument critique.
12-/ ibid, p.314.
13/- ibid
14-. / Les thèses sur Feuerbach, op. cit., p. 107.
15/- ibid., p. 95.
16- / Georges Labica, Sur Lénine, manuscrit.
17- / Sur Lénine, op. cit.
18- « / Contre le mépris de la théorie, Engels affirme la nécessité d’une étude des lois de la pensée et de leur histoire. La  validité de la pensée théorique ne peut être établie a priori : elle est seulement un résultat, la conséquence de ce processus social qu’est l’appropriation cognitive de la réalité dans son ensemble, nature et histoire ; mais cet effet peut faire l’objet d’une assimilation spécifique, sans quoi ce processus risque d’être interrompu ou retardé. Engels se propose alors de tirer toutes les conséquences du travail scientifique de Marx, qui l’avait porté très au-delà de l’empirisme encore insistant des thèses de Feuerbach et de l’idéologie allemande, à la fois la reconnaissance d’une méthode théorique propre à l’économie politique et la nécessité pour la critique de l’économie politique de se développer à partir des formes scientifiques déjà élaborées par Smith ou Ricardo. C’est cette double reconnaissance qui conduit Engels, non seulement à entreprendre une exposition systématique du matérialisme historique comme théorie générale, mais à isoler sous le nom de dialectique matérialiste, au moins pour des besoins de l’exposition, l’élément de pensée théorique commun à la science de Marx et autres sciences. Ce résultat dans le principe conserve l’idée fondamentale d’un primat de la pratique tout en rendant à la théorie sa  nécessité propre … On ne peut parler, à cette occasion, d’un simple retour à la théorie. Car il est clair que l’instance avec laquelle Marx et Engels reviennent alors sur l’importance de la théorie, du travail scientifique à une signification pratique directement politique »(DCM, op. cit.,. p. 1144).
19/- DCM, entrée fusion, p. 496.
20/- ibid. p. 496.
21- / ibid. p. 497.
22- / G. Labica, dans son manuscrit intitulé « Sur Lénine  définit le travail de Lénine comme opérateur théorique, dans la mesure où son œuvre tout au long de sa vie consistait à changer le monde  à partir d’un déplacement des lignes des luttes, en fonction des rapports de forces et de lutte des classes, ainsi que la critique de l’idéologie bourgeoise et ceci à l’aide d’une théorie qui ne cesse de se renouveler sous l’effet de l’action.
23- / DCM, entrée fusion, ibid., p. 498
24- / DCM, entrée science signée G. Labica, ibid., p. 1042.
25/ - «la sortie de la philosophie » - qu’il faut pas confondre avec la rupture épistémologique de L Althusser qui reste philosophique, tandis que « l’Ausgang » est une sortie historique opérée avec l’apparition du prolétariat comme force pensante. Cette sortie de la philosophie n’a pas d’objet propre. Elle n’est ni « ontologie », ni « conception du monde systématisée », ni « philosophie de la praxis », ni « théorie des pratiques théoriques », ni « lutte de classes dans la théorie », ni même dispositif de production de « concepts ». Ses catégories, remarque Stathis Kouvélakis dans un manuscrit, sont tout au plus des « concepts-indices », qui sont des « concepts-limites » et non un ensemble catégoriel autonomisé à prétention métascientifique. Des concepts qui s’emparent des objets propres aux champs épistémiques pour les transformer, les « diviser », i.e. les intégrer dans un champ de forces antagonistes (tendanciellement, mais tendanciellement seulement, duel) qui en révèle les enjeux, l’« inconscient politique » dirait Fredric Jameson , et en libère le potentiel de connaissance (Fredric Jameson, The Political Unconscious. Narrative as a Socially Symbolic Act, Cornell University Press, 1979)... Parcours néanmoins orienté, pourvu de sens, tendu vers la « sortie », ce dehors que « la » philosophie ne cesse de refouler, l’histoire, la praxis, la politique, et qui pourtant ne se donne jamais directement. Pour espérer l’atteindre, dans chaque situation donnée, un nouveau parcours de sortie-de-la-philosophie s’impose, qui inlassablement reprend le travail de critique et de transformation des concepts-limites.
26- / Labica G., Le statut marxiste de la philosophie, Bruxelles, Ed. Complexe, 1976, pp. 367-368.