محاولة فهم سمة العصر الملتبس


حميد خنجي
2016 / 1 / 15 - 09:38     

محاولة فهم سمة العصر الملتبس
( مقدمة )

بقلم : حميد خنجي

تمر البشرية باخطر منحنى تاريخي في العصور الحديثة، نظرا لحدة التناقضات الطبقية، وبفعل تسارع وتيرة الصراع بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج؛ المتجسد في كل مناحي الحياة، في كل بلد وعلى مستوى العالم! والأشكالية أن جوهرالصراع طبقي بامتياز، بينما تداعياته ومظهره الخارجي يبدو كأنه صراع تنافسي فيما بين الرأسماليات المعاصرة التقليدية العجوز في الغرب الإمبريالي. والرأسماليات الجديدة -غير الإمبريالية حاليا- الشرقية منها والغربية اللاتينية، المتكونة من بلدان تتطلع لتطور مستقل بعيدا عن الاملاءات الغربية! ولعل التموضع غير المسبوق من صراع وتنافس، بغية الهيمنة والنفوذ من قبل هذين الجناحين الرأسماليين والتمدد الحاصل فيما بينهما وفي منطقتيهما، من جهة. وفي التخوم الأضعف في البنية الإنتاجية، بالذات في المثلث الفاصل بين القارات الثلاث (آسيا أفريقيا وأوروبا)، من جهة أخرى، الأمر الذي يسهل للمتأمل الكشف بوضوح أكثر؛ طبيعة ما يجري في المنطقة العربية والشرقأوسطية في اللحظة التاريخية الراهنة، من أمور غريبة ومريبة، ليس من السهولة بمكان معرفة كنهها ومألاتها الفعلية! وها هنا بالضبط تتجسد الأهمية الجيوبوليتيكة للمنطقة الحيوية المذكورة، بحيث من الممكن استنتاج الحكمة القديمة الجديدة : من يسيطر على قلب العالم القديم (شرق المتوسط) يسيطر على العالم !؟

غير أن المستحدث في اللحظة التاريخية الراهنة، هو لغة العنف. والحروب بالوكالة واستفحال التطرف الديني والثقافي، الذي ينحو نحو "فاشيدينية" معاصرة، الأمر الذي يتحتم من قبل الباحثيين والسياسيين؛ ضرورة إجراء تحليل علمي عميق للمشهد الغرائبي، بغية الوصول لفهم واضح وتصور فعلي لـ "منظومة عالم" غير مسبوقة تتشكل أمامنا، حثيثا وبخطى ملتوية، منبثقة من مسيرة مضنية لمرحلة انتقالية شاقة بين منظومتين؛ "القطبية الواحدة" الافلة و"متعددة الأقطاب" الوالجة. من هنا يتجلى بوضوح موقفان وموقعان متعارضان: قطب غربي رأسمالي امبريالي شرس في عدوانيته، بقيادة الولايات المتحدة وشركائها الاوروبيين، وتوابعهما من الأنظمة العربية الريعية المحافظة.. لايريد (القطب المذكور) أن يعترف بالمأل الموضوعي لنهاية مرحلة القطب الواحد.. وفي هذا بالضبط يتجسد سر عدوانيته ومخططاته الجهنمية! وموقف آخر رأسمالي مستقل جديد، يهفو نحو عالم متعدد الأقطاب، يتناسب مع طموحه ومصالحه (دول البريكس ومعاهدة شنغهاي .. الخ). ولكن يصب - موضوعيا- في مصالح البلدان الأضعف شأنا، انطلاقا من تعميم مباديء القانون الدولي، المستندة على المصالح المشتركة لبلدان العالم جميعها

من الملاحظ بوضوح كيف أن الاستقطاب الدولي هذا، قد ترك أثره الكبير على أحد أخطر مراكز الصراع المعاصر؛ إلا وهو المنطقة العربية والشرقأوسطية، حيث باتت المنطقة الاستراتيجية المهمة هذه مستقطبة بين متراسين متطاحنين؛ إيراني شيعي/ إثني عشري، وسعودي سني / حنبلي/ وهابي.. تجسد ذلك في حرب إعلامية حادة بين القطبين الإقليميين، أدت إلى حرب ضروس في اليمن، وقودها الناس والحجارة!.. ولعل الأسوأ أن هذا الاستقطاب قد تمظهر بخلاف مذهبي ديني (صراع بين الأكثرية الإسلامية السنية بقيادة حزب العدالة والتنمية التركية والأقلية الإسلامية الشيعية بقيادة جمهورية ايران الاسلامية). والأدهى أن هذا الانشطار الطائفي قد أدى الى تخندق مذهبي/ طائفي، ليس لدى الجماهير الدهماء فحسب، ولابين "الجيتوهات" المذهبية في كل بلد. بل حتى عند النخب المثقفة والانتليجنسيا العربية، التي تتشكل أساسا من البرجوازية الصغيرة؛ المتسمة بصفة "الوضيعة" في اللحظة التاريخية الراهنة والملتبسة! وصل الأمر أن ينعكس هذا التشظي -غير المحمود – ليس بين المؤسسات والتجمعات والاحزاب العصرية والحداثية فحسب، بل تخطى هذا التخندق ليصل إلى أعضاء الأحزب الطليعية والتقدمية، كآفة غريبة في تاريخ نضال الطليعيين/ الجذريين العرب! والإشكالية أن المعنيين بالأمر في الأحزاب والمؤسسات هذه، قد يهمسون حول هذه الظاهرة غير المسبوقة. ولكن لايجرأ أحد على النقاش الموضوعي الصريح الشفاف، في مسببات تفشى ظاهرة الاستقطابات الطائفية والفئوية هذه. بجانب الهروب من ضرورة فهم طبيعة ظواهر الفساد والمحسوبية والوصولية والمحاباة وصراع الكراسي والانتهازية، فيما بين تلكم النخب ( وضاعة واضحة)؟! من هنا لابد أن ندرك حجم المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق القلة المخلصة من المثقفين العضويين، في الاحزاب الطليعية المعنية، لترميم ما أفسده الدهر

بين شتاء عام 2010 وربيع عام 2011 ، شهدت المجتمعات العربية انتفاضات عفوية فجائية غير مسبوقة، لم تكن في حسبان أحد؛ بدأت من تونس.. ثم مصر .. الخ (عرفت بالربيع العربي). تتابعت تلك الانتفاضات الجماهيرية من بلد أثر آخر؛ باتت أشبه بسقوط أحجار الدومينو، معبرة عن نفسها على شكل موجات عارمة من الغضب الجماهيري المليوني.. أضحت -في الحقيقة- تعبيرا عن التناقض الأساس في المجتمعات العربية، بين طبقات وعائلات حاكمة مرفهة فاسدة، مصابة بتخمة المال والجاه. والتبعية والعمي السياسي-من جهة- و طبقات مهمشة، من قاع المجتمعات تلك -من جهة أخرى. سقطت وقتئذ النظرية الاستعمارية، التي تقول: أن العرب لم يعرفوا في تاريخهم، إلا الخضوع والخنوع.. ولم يعهدوا الانتفاضات والثورات، عدا الانقلابات العسكرية!.. بدا في حينه أن المواطن العربي قد استرجع شيئا من كرامته، وحان وقت تشييد مجتمعات عربية مدنية مؤسساتية عصرية وديمقراطية مأمولة، من أجل أن يكون للعرب شأن في هذا العالم، وذلك بدخولهم الحداثة ولو متأخرا!.. كلنا رأينا كيف أن بهجة الانشراح والتفاؤل لدى الجماهير الشعبية بغد أفضل، أضحت الشعور السائد في الشارع العربي. غير أن الأمر لم يكن كذلك من طرف النخب الحاكمة، من جراء الزلزال العربي العارم!.. فالهزة النفسية الشديدة، التي أصابت الطبقة الحاكمة في كل بلد عربي، من جراء تهافت عروش بعض الطغاة، واهتزاز عروش أخرى كانت من العمق والسعة، الأمر الذي أدى إلى فتح قنوات إتصالات سريعة -علنية وسرية- بين أصحاب القرار، خاصة في البلدان العربية المحافظة.. وحامي حمى العروش العربية، الجمهورية منها والملكية (امريكا والغرب عموما) لفهم الوضع وشرح الحال!.. وما إذا كانت القوى الغربية بريئة من كل ما يجري؟! شيد –وقتئذ- بعض النخب العربية من صفوة الانتليجنسيا من الكتبة، والمهوسين بنظرية المؤامرة، قصورا من الرمال وأوهاما من التحليلات التخيلية، مفادها أن الغرب هو الذي خلق الإنتفاضات العربية، مطلقا عليها : "الربيع العربي"، بهدف تفتيت المنظومة العربية، عبر مشروع سايكس بيكو جديد!؟ ... سنكمل تحليل أغوار مشهد العصر الملتبس وسمته غير المسبوقة تاريخيا، وانعكاساتها على المنطقة العربية، في أجزاء أخرى من مقالات متتابعة. يتبع