وعود التنوير


سعد محمد رحيم
2016 / 1 / 7 - 10:40     

ربما كان ماكس هوركهايمر وثيودور ف. أدورنو خير من يلخِّصان المفهوم العام للتنوير في عبارات قصيرة دالة: "يعتبر التنوير، وعلى مرّ الزمن، وبالمعنى العريض تعبيراً عن فكرة التقدّم، وهدفه هو تحرير الإنسان من الخوف وجعله سيداً. أما الأرض التي تنوّرت كلياً، فهي أرض تشعّ بشكلٍ يوحي بالانتصار. كان برنامج التنوير برنامجاً يهدف لفك السحر عن العالم. لقد أراد التحرر من الأساطير وأن يحمل للمخيّلة سند العلم". والكلمات/ الأقانيم الثلاث التي يقوم عليها هذا التعريف هي؛ التقدّم، التحرّر، العلم.. وفيما تعني عبارة ( فكّ السحر عن العالم ) التخلّص من الإحيائية، في ضوء ما يريان، فيمكن أن نضيف كلمتين/ أقنومتين أخريتين إلى شبكة المفاهيم المتسقة هذه، وهما؛ العقل والمستقبل. العقل الذي هو أداة التقدّم والتحرر والعلم، في وجهته إلى المستقبل. حيث آمن التنويريون، ( باقتباس مقولة لكوندورسيه )، بأنه "سوف يأتي اليوم الذي تشرق فيه الشمس على الرجال الأحرار فقط، أولئك الذين لا سيد لهم سوى عقلهم". وفي إهاب هذه المفاهيم يقبع الكائن الإنساني، محور فكر التنوير: الكائن الذي يجب تحريره من الخوف وجعله سيداً في العالم.
وكان عمانوئيل كانط قد عرّف التنوير بأنه: "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر". وبذا فإننا حين نقول التنوير فإنما نقصد وجهه الآخر أيضاً، أي الأنسنية. إذ في سياق تعريفه للتنوير ركز كانط على سلطة العقل المحرِّرة والمستقلة لقيادة الشؤون الإنسانية "بدلاً من انصياعها للعقيدة والخرافة والنبوءة... على أن يغيِّر المجتمع وأن يحرِّر الفرد من قيود العادات والسلطات الاعتباطية" وهذا الفهم الواسع لفحوى التنوير وأبعاده جعله يستدرك بعبارة: "أن تكون عند الإنسان شجاعة أن يعرف فهذا هو جوهر التنوير". فقد كان كانط على دراية بمشكلات التنوير وواعياً بأن عصره لم يكن عصر تنوير وإنما عصراً من التنوير. وكان من شروط التنوير وتجلياته عنده تحقيق الاستقرار في المجتمع والدولة.
وعموماً فإن القواعد الكبرى التي قام عليها البنيان الفكري لعصر التنوير تمثلت "في الإعلاء من قيمة الإنسان، وفي الدفاع عن العقل والعقلانية النقدية، وفي التشبث بالحرية ضد كل قيم القهر والاستعباد والطغيان، وفي تصوّر للطبيعة يقضي بالنظر إليها كجملة من القوانين الرياضية القابلة للتعقل في إطار الجهد الإنساني، الجهد الذي ما يفتأ يطوِّر أساليب نظره للكون، في سياق الصورة التي يرسمها تاريخ العلم المعاصر".
التنوير الذي انتصر للعقل سيتخذ فيما بعد، تحت وطأة ظروف تاريخية قاهرة، وغامضة أحياناً، مساراً غير سار انتهى إلى انبثاق حركات فاشية واندلاع حروب مأساوية راح ضحيتها ملايين من البشر، فهل كان الخلل كامناً في صلب فكرة التنوير ذاتها؟ أم أن سوء الفهم، وقصر النظر العقلي، والأهواء السيئة لبعض البشر، ومكر التاريخ، وصراعات المصالح، وأكاد أضيف سوء الحظ أيضاً، هو الذي أضفى غلالة سوداء من اللاعقلانية على مسيرة العقل ومغامرته البطولية؟. أهو عجز العقل وأوهامه ومحدوديته، أم الانحراف الأخلاقي للإنسان؟. أم هي الرأسمالية بجشعها وسطوتها وتناقضاتها وآلياتها الفتاكة؟..
أعتقد أن بمقدورنا أن نجيب بالإيجاب النسبي على هذه الأسئلة. وتبقى منظومات السلطة حاسمة في تقرير ذلك، وكما يقول هابرماس فقد "انتهى العقل بصورته الغائية إلى الالتباس بالسلطة، متخلياً بهذا الشكل عن قوته النقدية، ذلك هو ( آخر ) وحي للنقد طبقته الإيديولوجيا على ذاتها".
أصبحت العقلانية أداتية.. ومن منظور هوركهايمر وأدورنو تشيأت الذاتية في السيرورة التقنية، وبات العقل مساعداً للآلة الاقتصادية، وتحوّل تطور الآلة ليكون آلية سيطرة، ومع التطور الاجتماعي أصبحا وسيلة لحبس الإنسان، و "بالنظر لكل ذلك فإن التأقلم مع سلطة التقدّم قد تضمن تقدّم السلطة... وصارت لحظة العقلانية التي تفترضها السيطرة قد تأكدت من خلال لامبالاتها بالسيطرة". ولا شك أن مسحة من التشاؤم تغلف وجهة نظر المفكرين الآنفي الذكر والمنتمين لما عُرف بمدرسة فرانكفورت.. كان الاثنان مع رفاق آخرين لهم في المؤسسة الشهيرة عينها، يرون كيف أنه مع تقدّم الصناعة، وفي ظل صراعات الإيديولوجيات والمصالح صارت الفاشية والنازية تنتعشان، حتى أنهم لم يعودوا يجدون في فكرة التطوّر والتقدّم سوى علامة على انحدار إنسانية الإنسان:
"وحدهم المقموعون هم الذين يقبلون بالتطور كضرورة لابد منها، إنه عند كل ارتفاع لمستوى الحياة يزداد أيضاً مستوى عجزهم"..
وهذا قبل أن يعلن ميشيل فوكو موت الإنسان. والإنسان كما يراه هو من مبتكرات العصر الحديث، فمع أواخر القرن الثامن عشر حصلت ثورة ابستيمية هيأت للدخول في عصر الإنسان، فلم يعد، منذ ذلك الحين، مجرد كائن بين الكائنات وإنما "صار ذاتاً بين الموضوعات. وقد أدرك سريعاً، أن رغبته في المعرفة لا تنطبق فقط على أشياء العالم، إنما عليه هو أيضاً. فبات الإنسان مصدر معرفته الخاصة وموضوعها". لكن كينونة الإنسان الملتبسة لا يمكن الإمساك بمصدرها/ أصلها، فينتهي الأمر بفوكو إلى إلغاء الإنسان والتاريخ:
"لا يكون الأصل قريباً إلا بمقدار الألم الذي يسببه تراجعه الشديد ( نحو الماضي )، وفي الحالة القصوى، يمكن نسيانه كلياً ونسيان الإنسان معه. يفضي هذان المنظوران ـ سواءً في الإنجاز أو اليأس ـ إلى إلغاء الإنسان والتاريخ. لكي يفهم الإنسان كينونته، عليه أن يمسك بأصله، ومع هذا فهو يفلت منه حتماً".
بهذه الألاعيب البلاغية/ الفلسفية تعرض فكر التنوير طوال عقود من القرن العشرين تحت ضغط واقع تاريخي تراجيدي وقاسٍ، إلى محاولات لدحض مقولاته؛ العقل، الحرية، التاريخ، والإنسان، وكل ما يمت بصلة إلى ما يسميه هابرماس بجهاز الحقيقة.. "إن جهاز الحقيقة ـ يظهر بعد الآن ( كجهاز ) بين أجهزة أخرى للسلطة".. غير أن فكر التنوير بقي حاضراً ومحرِّضاً وملهماً في طروحات مفكرين آخرين، أنكروا هذه الزاوية المتشائمة في النظرة، لأن الإنسانية بحاجة إلى من يعطيها الأمل أيضاً.. وكيف يكون ثمة أمل بغياب العقل، والحرية، والتاريخ، والإنسان؟. فانبرى هؤلاء الأخيرين ليعيدوا صياغة فكر التنوير، برؤية نقدية صارمة، معيدين الاعتبار لمقولاته وأفكاره.
انطوى تاريخ الفكر على مفارقات عديدة، والانفراط، إذا ما استخدمنا عبارات ألان تورين الذي حدث بين شذرات عصر التنوير والحداثة، حيث الحداثة امتداد لذلك العصر ووجهه الآخر، أدى إلى دفع أثمان غالية من رصيد البشر وبيئتهم ومستقبلهم.. وتورين يلخص تلك المفارقة في نهاية كتابه ( نقد الحداثة )، واجداً لها الحل، بقوله:
"إن الدعوة إلى الذات يمكن أن تتحول إلى العداء للعقلنة وتتراجع إلى هوس بالهوية أو انغلاق في جماعة، ويمكنها أيضاً أن تكون إرادة للحرية وتتحالف مع العقل كقوة نقدية؛ وبصورة موازية يمكن للعقل أن يتطابق مع أجهزة الإدارة التي تتحكم في سيل المال وفي القرار وفي المعلومات، ويدمر الذات والمعنى الذي يسعى الفرد لأن يعطيه لأفعاله. ولكن يمكنه أيضاً أن يتحالف مع الحركات الاجتماعية التي تتولى الدفاع عن الذات ضد تركيز الموارد الذي يرتبط بمنطق للسلطة وليس بمنطق العقل".
دعا تورين إلى اتحاد شذرتي الذات والعقل، بعد اغترابهما عن بعضهما بعضاً بضغط من موجبات سلطة مؤسسات رأس المال. بحيث "يكون مفاعل هذا الاتحاد هو الحركة الاجتماعية، أي تحول الدفاع الشخصي والثقافي للذات إلى فعل جماعي موجّه ضد السلطة التي تُخضع العقل لمصالحها".
ما يجب التأكيد عليه هو أن التنوير، وإن انبثق وأنتج طروحاته الفكرية في غرب أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلا أنه لا يعد حركة فكرية اعتيادية محكومة بزمانها ومكانها.. إنه بما يحمل من مفاهيم ورؤى وتطلعات هو حركة إنسانية كونية غير منتهية، بشرط إخضاع تاريخه ومفاهيمه وإيديولوجيته لمقاربات نقدية مستمرة.
والتنوير أيضاً لا يقتصر على اتجاه فكري واحد، بل يتضمن في إطاره الواسع تنوعاً مذهلاً من اتجاهات فلسفية وإيديولوجية وفنية وأدبية طليعية، تلك التي تقول بسلطة العقل، وتحرير الإنسان، وتحقيق التقدّم. وحتى الماركسية التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها تتبع مساراً مغايراً لحركة التنوير، هي في نظر مفكرين ماركسيين كبار كجورج لوكاش وروجيه غارودي وريثة تقاليد الفكر الأنسني وعصر الأنوار.
كانت بدايات اليقظة الفكرية العربية أقرب ما تكون إلى الإصلاح الديني منها إلى النهضة والتنوير وإن احتوت على بذورهما، وهي التي أعطت بعض ثمارها فيما بعد، لاسيما مع أفكار طه حسين المتأثر بفكر فلاسفة التنوير الأوربي؛ ذلك الفكر الذي قاد فيما بعد إلى الثورة الفرنسية، وتأسيس الدول القومية الحديثة. وهناك من الكتّاب العرب من ربط حركة النهضة والاستنارة العربيتين بالوعي المديني، والسعي لإقامة الدول المدنية الحديثة..
نحن بحاجة إلى فكر تنويري جديد يتجاوز ثغرات وإخفاقات فكر النهضة العربية كما أرسيت أسسها منذ الطهطاوي وحتى ما بعد طه حسين.. يشير فتحي المسكيني إلى شذرة نيتشة القائلة بأن الفلسفة هي فن البحث عن أنوار جديدة.. عن أنوار أخرى، "تستمد شرائط إمكانها من تواشج فذّ وعميق بين احتمال الحرية معاً في عقولنا والتزام عميق بالمشترك في غيريتنا". أي أن نكون ذواتاً حرّة مع آخرين هم ذوات حرّة. وفي سياقنا العراقي ـ العربي ـ الإقليمي تبقى إعادة بناء الدولة/ الأمة العصرية على مبادئ القانون والمواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية والتسامح وخلق المجتمع المدني المنتج هي الرهان الأكبر في تقويض ثقافة العنف والإرهاب، وإنهاء صراع الهويات القاتلة..
البلدان التي تتشرب مبادئ التنوير، وتذهب في عمليات التحديث بعيداً، تقلل من فرص انتشار أفكار التعصب والنزعات العنفية.. ومثلما تثبت الوقائع "فإن التطهير العرقي... اليوم أكثر شيوعاً في البلدان التي يوجد فيها تلكؤ في التحديث، مما هو عليه في الدول المفرطة في الحداثة".