كيف ينظر الإسلام إلى الموت


فوزي بن يونس بن حديد
2016 / 1 / 5 - 10:15     


هناك حقيقة يغفل عنها كثير من الناس وهي أن هذه الحياة الدنيا التي نعيشها اليوم ليست الحياة التي ننشدها، وليست الحياة التي نريد أن نحياها، لأنها مؤقّتة ومشبعة بالمتناقضات، وإن كانت جزاء لخطأ ارتكبه سيدنا آدم عليه السلام، وقدرا من الله سبحانه وتعالى لعمارة الكون والأرض، فإنها لا تمثل إلا جزء من حياة أخرى أبدية خالدة يؤمن بها كل مؤمن بالله عز وجل، ولأن الإرادة الإلهية هي المسيّرة لتفاصيل الحياة الكونية العامة، على المسلم أن يستسلم لأوامرها ويخضع لجبروتها ويظهر ضعفه أمام قوة الله تعالى التي لا تضاهيها قوة، ولأن الأمر كله بيد الله تعالى جعل المولى عز وجل الإنسان يعيش المتناقضات من الأحاسيس والمشاعر والأعمال، بل إنه أمره بشيء واحد وهو غير محتاج إليه وغنيّ عنه، أمره بأن يعبده فقط عندما يقول سبحانه وتعالى في سورة الذاريات: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) .
ولن تتحقّق إنسانية الإنسان إلا بعبوديّة الرحمن، لأن غير هذا المسار سيؤدي إلى عبودية الإنسان بكافة صنوفها ومجالاتها التي يستعلي فيها الإنسان على أخيه الإنسان، ويتمرّد عليه ويستغله أبشع استغلال كما نراه ونسمعه ونشاهده اليوم، بينما إذا رضخت الإنسانية كلها لرب واحد قهّار لم يعد هناك مجال لأن يستأثر الإنسان بقهر أخيه الإنسان، ومن هذا المنطلق نفهم قهر الله عز وجل لعباده حتى لا يظن أحدٌ منهم أنه بلغ مرحلة الألوهية وشارك المولى في كبريائه وجبروته، قهر الله عز وجل البشر بأن تكفل بالغيبيات التي لا يعلمها أحد من خلقه مهما أوتي من العلم، منها أنه حكم بالفناء على جميع المخلوقات وليس الإنسان وحده مصداقا لقوله تعالى في سورة آل عمران : " كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور" وقوله تعالى في سورة الرحمن: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام" فكل مخلوق ينمو ويتحرك سيموت حتما، هكذا قضى الله عز وجل وهكذا أراد للكائنات أن تموت لأنه أعدّ دارا خالدة لصنفين من البشر دون سائر المخلوقات الأخرى التي تفنى ولا تقوم، "يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" كما جاء في سورة المطففين، فالبشر وحدهم من يقوم للحساب والعقاب لأنهم أصحاب عقول منحهم المولى عز وجل العقل وهداهم النجدين، فمن سلك طريق الهدى نجا ومن سار على طرق الضلال هلك.
فالموت حقّ وهو الفاصل بين حياتين، فالذي يظن أن الموت فناء لجميع الكائنات ويقف عند هذا الحد يتمسّك بالدنيا كما لو أنها المتاع الحقيقي، يحاول أن يستمتع بملذاتها وشهواتها بأقصى ما عنده من جهد، فلا وازع ديني يردعه ولا ضابط له يمسكه، فيبطش بالناس ويتكبّر على الخلق ويفعل الأفاعيل ولا يبالي بالمحظورات والمحذورات، رغم يقينه بأن الموت يترصده، وأنه سيفنى غير أن عقيدته التي عشّشت في عقله مارست صنوف التلذّذ بالبقاء والتمسك بالحياة، أما من ينظر بنور الله فإنه يعتبر الفناء حقيقة أيضا ولكنه يختلف عن سابقه بأنه يعتقد اعتقادا جازما أنه يقدم رسالة في هذه الدنيا ولم يُخلق عبثا، ويعتبر الدنيا مطية للآخرة متذكرا قوله الله عز وجل في سورة القصص : "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ-;- وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ-;- وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ-;- وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ-;- إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"، فهو مطالب بتعمير الكون لا بتدميره، وبإشاعة الأمن والأمان لا بتخويف الناس، وببسط العدل والمساواة لا بقهر المستضعفين من بني آدم في كل مكان، تلك هي رسالته أينما حل وكان، لأنه لا محالة راحل من الدنيا ليوم الحساب.
وعندما قال المولى تبارك تعالى: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" إنما أراد أن يقول إنه خلق الموت لنحيا كما يضرّ لينفع ويمنع ليبسط، تلك هي الحقيقة الغائبة عن النفوس البشرية التي تظن أن الموت نهاية مأساوية لحياة بشرية غير أن الحقيقة غير ذلك، فالموت وراءه حياة إما هانئة للأبد وإما جحيم للأبد، وبهذه الحقيقة يسعى الإنسان ويسارع إلى فعل الخير بأقصى قوة، فهو يصارع الزمن من أجل أن ينال رضا الله عز وجل لأنه فهم أن الموت آت لا محالة وأن السنوات التي يقضيها ما هي إلا امتحان بسيط لرؤية نفسه يوم القيامة على حقيقتها، ولا أحد في الدنيا يتمنى الموت لأنه أمر صعب كما ورد في القرآن الكريم وهو يصوّر مشهد سكراته : "وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25)"، لقد بين المولى سبحانه وتعالى أن الناس في غفلة من أمرهم وأن القرآن الكريم هو الموقظ من غفلتهم، عندما تتزعزع الآيات في أذنه مثل صاعقة الرعد المزمجر يتردد صداه في أعماق النفس البشرية ويبرق داخلها فيحدث تغييرا في خلاياه الجينية التي تسبّح بحمد الله وتشكره على نعمه، وتهرع إلى الخضوع لأوامره.
وقد يظن الناس أن الخطيب أو المحاضر لا بد أن يبتعد عن ذكر الموت ويظل يتحدث عن التفاؤل والحياة والاستمتاع بها حتى لا ييأسوا ولا يقنطون من رحمة الله، أو أن ذلك الكلام قد يشحن الشباب نحو طلب الموت فداء للجنة بالمفهوم الميتافيزيقي للكلمة، فيجنحون إلى العنف كوسيلة لبسط الشريعة في البلاد ويتركون مجالات الحياة المتعدة والتنعم بنعم الله سبحانه وتعالى الذي خلق السماوت والأرض وسخّرها للإنسان ليستمتع بها لا لتدميرها وتخريبها، فرسالة الإسلام رسالة رحمة للعالمين وليس للمسلمين أو بني البشر فقط.
ومن خلال هذا المفهوم لفلسفة الحياة الجديدة نتبين أن الموت عنصر إيجابي في الحياة ما دام يمنح صاحبه أن يعيش حياته التي قدّرها الله عز وجل، شعلةً من النشاط والتسابق نحو الخير، والآيات الدالة على ذلك كثيرة ومتعددة منها قوله تعالى في سورة آل عمران: " وَسَارِعُوا إِلَىٰ-;- مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ-;- وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ-;- مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰ-;-ئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ-;- وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)" ويقول في سورة الحديد : "سَابِقُوا إِلَىٰ-;- مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ-;- ذَٰ-;-لِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ-;- وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"، فالإقبال على الحياة لا يتنافى مع حقيقة الموت بل إن كلاهما مكمّل للآخر ومعزّز له، فكما أن المسلم لا يحرم نفسه من الدنيا عليه أن يأخذ منها ما يجعله رَضِيًّا في الآخرة.
تتجسّد هذه الحقيقة في الحياة التي عاشها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والأسوة، عاش بين الناس عزيزا كريما، وكان يحثّ أصحابه دائما على الالتزام بمبادئ التيسير لا التنفير وخلق السماحة والتعاون والرحمة والألفة وكلها مبادئ إسلامية من الطراز الرفيع.