حول مسألة العلاقة مع التيارات السياسية السلفية


التضامن من اجل بديل اشتراكي
2016 / 1 / 1 - 14:46     

مع انطلاق مسار الثورة العربية، عاد من جديد النقاش في صفوف اليسار حول دور التيارات السلفية المعارضة في المسار الثوري وعلاقة اليسار الثوري بهذه التيارات. صحيح أن الجواب على هذه الأسئلة لم يكتمل بعد، لكن هذا لا يمنع من استخلاص بعض عناصره. أول هذه العناصر هو مشاركة التيارات السياسية السلفية في الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة الحاكمة. فباستثناء التدبدب الذي أبانت عنه حركة الإخوان المسلمين في تونس ومصر مع بداية الانتفاضة، فان حضور التيارات السياسية السلفية يكاد يكون مهيمنا . وثاني هذه العناصر، هو استعداد هذه التيارات، أو على الأقل بعضها، للتحالف مع الحكومات الامبريالية والرجعية على الأقل خلال المراحل الأولى في المواجهة المباشرة مع الأنظمة. وثالث هذه العناصر هو اصطفاف هذه التيارات خلال مرحلة ما بعد إسقاط النظام، إلى جانب القوى المعادية لتعميق المسار الثوري في بعديه الديمقراطي والاجتماعي.
أكيد أن هذه الاستنتاجات غير كافية لتحديد دور التيارات السلفية في المسار الثوري في مختلف حلقاته، لكنها كافية لتسليط الضوء على التوجهات السياسية الكبرى التي تخترق هذه الحركة الإسلامية ككل، بغض النظر عن الخصوصيات والشروط السياسية لكل بلد.
وأكيد أيضا أن هذه التوجهات لا تستوفي كل عناصر بناء تكتيك سياسي إزاء التيارات السلفية المعارضة، لكنها كافية بالنسبة لليسار الثوري لاستبعاد كل تحالف سياسي معها خلال المسار الثوري، على الأقل كما هو جاري في العالم العربي..
انطلاقا من هذه الاستنتاجات، يحاول هذا المقال، بعيدا عن السجال اللفظي وردود الفعل غير المنتجة، نقاش مقال الرفيق عبد الله الحريف حول مسالة العلاقة بين اليسار والتيار الإسلامي، من خلال نقد خلفيته السياسية والنظرية.
قبل ذلك لا بد من التأكيد أن هذه المساهمة لا تدعي استيفاء كل عناصر بناء رؤية متكاملة حول المسالة، بقدر ما تسعى إلى طرحها على ضوء الإسهامات الملموسة لتجربة الصراع الطبقي في الظرف الراهن.
حول شروط الحوار مع التيار الإسلامي
باستثناء بعض الشذرات المتضمنة في كتابات الراحل السرفاتي حول إمكانيات بروز تيار ديني تحرري على شاكلة لاهوت التحرير في اللاتينية، يعتبر مقال الرفيق عبد الله الحريف النص الوحيد الذي يتناول موضوع العلاقة بين اليسار والتيار الإسلامي من منظور سياسي وليس من منظور إيديولوجي صرف. ورغم كونه لا يؤسس، نظريا على الاقل، لتحالف سياسي مع الإسلاميين، فانه لا يستبعد قيام "حوار سياسي " بين اليسار والتيار السلفي. و أهمية هذا المقال،رغم كونه قد كتب قبل انطلاق حركة 20 فبراير، تكمن في كونه يقدم بعض المفاتيح لفهم مواقف النهج الديمقراطي من جماعة العدل والإحسان داخل هذه الحركة.
يمكن الوقوف عند أربعة أفكار أساسية في المقال:
1 – لا تشكل الجماعات السلفية تيارا سياسيا منسجما، فهي حركة تخترقها التناقضات السياسية والاجتماعية التي تخترق المجتمع ككل. فهناك تيارات تابعة أو موالية للنظام (العدالة والتنمية) وتيارات معارضة له، وهذه الأخيرة بدورها لا تشكل تيارا منسجما.
2 – مع العولمة الرأسمالية تغيرت الشروط السياسية والاجتماعية لتطور التيارات السلفية، فبعد توظيفها خلال مرحلة طويلة، لفرملة تطور الحركات الوطنية والتقدمية، وجدت هذه التيارات نفسها، قسما منها على الاقل، في تناقض موضوعي مع الامبريالية (حزب الله في لبنان، طالبان في أفغانستان، حماس في فلسطين...).
3- يمكن في شروط معينة، فتح "حوار سياسي" مع هذه التيارات، ويكمن دور اليسار الجذري، من خلال الصراع الإيديولوجي والنضال الملموس والحوار السياسي، في مساعدة هذه التيارات على التحول من تيارات رافضة للعولمة والامبريالية من منطلقات دينية وحضارية وثقافية، إلى تيارات مناهضة للعولمة الامبريالية في مختلف أبعادها، لكون الامبريالية والعولمة لا تهددان الهوية الدينية والثقافية والحضارية فحسب، بل تنسفان الأساس المادي لاستقلال الشعوب وتقرير مصيرها بنفسها.
4 – إن الاعتراف بالإسلام كأحد أبعاد الهوية الثقافة للشعب، يجعل من مسالة العلمانية تناقضا ثانويا يمكن حله عن طريق "حوار سياسي" يقوم على احترام التعدد والاختلاف.
ويصبح الحوار ممكنا مع التيارات السلفية، إذا قامت هذه الأخيرة بنقد ذاتي لماضيها وانخرطت في نضالات مشتركة حول المسائل الاجتماعية الملموسة للشعب ووقفت موقفا معارضا للسياسات اللاشعبية.
سنبدي بعض الملاحظات النقدية حول هذه الأفكار:
1 – غياب تحليل سياسي لطبيعة التيارات السلفية:
لا ترتكز هذه الأفكار على تحليل طبقي لطبيعة التيارات السياسية السلفية (طبيعتها الطبقية؟ دورها في حركة الصراع الطبقي؟ المصالح الطبقية التي تدافع عنها ؟ برنامجها السياسي؟). وفي غياب تحليل ملموس لدور وموقع هذه التيارات في مسلسل الصراع الطبقي، فان الشروط التي يضعها الرفيق عبد الله الحريف لقيام حوار سياسي مع التيارات السلفية (نقد ذاتي،المشاركة في النضالات،معارضة النظام ورفض السياسات اللاشعبية) قد توفرت نسبيا أو جزئيا مع بداية المسلسل الثوري(مناهضة الاستبداد، الاعتراف بالتعددية والديمقراطية، العمل المشترك مع اليسار العلماني والشيوعي...). لكن تحقق هذه الشروط، لم يمنع من بروز تناقضات تناحرية بين اليسار والاسلاميين حول مجمل أهداف الثورة( القضاء على الدكتاتورية،الديمقراطية والعدالة الاجتماعية) كما لم يمنع من اصطفاف التيارين حول قطبين سياسيين متناقضين.
2 - فرضية تحول ديمقراطي داخل الحركة السلفية:
تحتوي هذه الأفكار، وان بشكل ضمني، على فرضية إمك تحول التيارات السلفية إلى"أحزاب إسلامية ديمقراطية" أو على الأقل بروز" تيار ديمقراطي" داخلها يمكن الحوار معه حول المهام السياسية والاجتماعية للثورة (الديمقراطية، العلمانية،المسالة الاجتماعية). لكن هذه الفرضية لم تتحقق على ضوء اكبر منعطف سياسي يعرفه العالم العربي، بل العكس هو الذي حصل على الأقل، من خلال التجربة التونسية والمصرية، حيث تقف هذه التيارات موقفا داعما ومساندا لكل التدابير المعادية للديمقراطية والعلمانية والعدالة الاجتماعية، وعلى حد علمنا لم يبرز لحد الآن أي توجه ديمقراطي،علماني وتحرري داخلها.
3- حول وظيفة الدين في الصراع الطبقي:
تستند هذه الأفكار في نظرنا،على رؤية مثالية لدور الدين في الصراع الطبقي. فهي تفترض وجود قيم ومبادئ تقدمية في الدين يمكن فصلها عن قيمه ومبادئه الرجعية، وعلى قاعدة هذا الفصل أو الانفصال، يمكن التمييز بين "إسلام شعبي تقدمي" و"إسلام رسمي رجعي". وهذا يحيل ضمنيا إلى إمكانية تحول تقدمي للجماعات السلفية بسبب ارتكازها على قاعدة شعبية تتعارض معتقداتها الدينية مع الإسلام الرسمي الرجعي.
علاوة على كون الدين، كمعتقد شعبي، هو نفسه حامل لتصور غيبي للعلاقات الاجتماعية، ليس اقلها رجعية، العلاقات البطريركية، ولرؤية قدرية لموقع الأفراد والجماعات في البنية الطبقية للمجتمع، ليس اقلها اضطهادا علاقات التمييز والاضطهاد ضد المرأة والأقليات القومية والثقافية والدينية، فان الاعتقاد بإمكانية الفصل بين قيم دينية تقدمية وقيم دينية رجعية، يعطي للدين وظيفة تفوق وظيفة العلاقات الطبقية نفسها. وهكذا يصبح الدين هو من يوظف الإنسان للتعبير عن القيم والمبادئ التي يتضمنها، وليس الإنسان هو من يوظف الدين للتعبير عن همومه الاجتماعية وتطلعاته السياسية ومصالحه الطبقية، ويصبح الدين هو صانع الإنسان وليس الإنسان هو صانع الدين.
إن الوظائف السياسية التي يلعبها الدين في الصراعات الاجتماعية، ليست سوى اللبوس الديني لحركة الصراع الطبقي نفسه،الذي يبقى هو محرك التاريخ، بما في ذلك ترسيخ القيم والمبادئ الإنسانية التقدمية أو الارتداد عليها، وان باسم الدين، لتكريس القيم والمبادئ الرجعية.
4-حول التناقضات الطبقية وتعبيراتها السياسية:
ليست هناك علاقة ميكانيكية بين التناقضات الطبقية وشكل ومضمون التعبير السياسي. فكون التيارات السلفية غير منسجمة وتخترقها التناقضات الطبقية، لا يعني أن هذه التناقضات ستعبر عن نفسها بالضرورة ببروز تيار تقدمي ديمقراطي يتبنى المصالح والتطلعات التحررية للطبقات المستغلة والمضطهدة. وحتى بالرجوع إلى أرشيف تاريخنا المعاصر، سنجد أن أهم تجربة سياسية ذات جذور دينية (الديمقراطية المسيحية بأوربا ولاهوت التحرير بأمريكا اللاتينية) لم يكن تشكلها ثمرة "حوار سياسي" بين اليسار والتيارات السياسية المسيحية، بل ثمرة الصراع الطبقي وتأثير الثورتين الروسية الكوبية. فظهور أحزاب "الديمقراطية المسيحية" جاء في سياق تاريخي وسياسي مطبوع بميزان قوى سياسي واجتماعي لصالح الحركة العمالية والديمقراطية، ووجود نظام ديمقراطي برجوازي برلماني وعلماني، وقطاعات برجوازية فقدت الثقة في الفاشية كدرع واقي ضد خطر الشيوعية، فاختارت "الديمقراطية البرجوازية"(وليس القيم التقدمية في المسيحية) كصمام أمان لحماية مصالحها الطبقية. أما بروز التيار المسيحي التحرري في أمريكا اللاتينية (لاهوت التحرير) فقد كان ثمرة صعود حركات التحرر الوطني و انتصار الثورة الكوبية التي لعبت دورا حاسما في تجدير الصراع الطبقي وإعادة تموقع القوى السياسية والاجتماعية، وأخيرا وجود رجال دين منحدرين من الطبقات الشعبية ومرتبطين بحركات شعبية علمانية وفي تناقض مباشر مع المؤسسة الدينية الرسمية التي كانت منحازة إلى الامبريالية و الاوليغارشيا الحاكمة.
باستثناء هاتين التجربتين اللتين ارتبط تشكلهما بسياق تاريخي وشروط سياسية مختلفة، فان تاريخنا وشروطنا السياسية الراهنة، بما في ذلك في عصر العولمة الرأسمالية، لم يعرف تشكل تجارب مشابهة، سواء من أصول مسيحية أو أصول إسلامية، بل على العكس، لازالت الثورة الإيرانية المضادة و افرازاتها السياسية والإيديولوجية، تشكل مرجعية لمعظم تيارات وقادة الحركة السلفية في العالم العربي. فلا وجود على سبيل المثال لتيارات إسلامية تتغذى "إيديولوجيا" من الماركسية أو الفكر التقدمي أو تتسلح بمنهج مادي أو طبقي لتفسير الصراعات السياسية والاجتماعية التي تدور رحاها في مجتمعاتنا. ولا وجود لفقهاء أو أئمة يعلنون صراحة تبنيهم للماركسية كمنهج لتحليل الواقع ويدافعون عن الاشتراكية كمجتمع لتحرر الإنسانية، كما كان حال العديد من رجال الدين المسيحيين في أمريكا اللاتينية. وعلى عكس الثوار المسيحيين في أمريكا اللاتينية الذين شكل قادة التحرر الوطني من أمثال خوسي مارتي وبوليفار وغيفارا بالنسبة إليهم، تجسيدا لروح المسيح فوق الأرض، فان قادة و رموز حركات التحرر الوطني لا يجسدون بالنسبة لمعظم التيارات السلفية سوى تجسيدا للكفر والإلحاد بدين محمد وشريعته، ولا زال الخميني و بن لادن وحسن نصر الله أكثر رمزية بالنسبة لهم من عبد الكريم الخطابي وجمال عبد الناصر....
وعلى حد معرفتنا، لا وجود في العالم العربي لنواة تيار إسلامي تحرري. وحتى مع افتراض وجود حساسيات إسلامية تقدمية، فان تشكل هذه الحساسيات في تيار سياسي تقدمي وديمقراطي سيكون بدون شك، ثمرة تحول هام في مسلسل الصراع الطبقي، وليس ثمرة "حوار سياسي" مع تيارات الإسلام السياسي الرجعي.
بدل بناء تحالفات مع القيادات الرسمية والفعلية للإسلام السياسي الرجعي، بناء على احتمال بروز تيار إسلامي تقدمي داخلها، نعتقد ان الصراع السياسي والإيديولوجي ضد هذه القيادات والدفاع عن بديل ديمقراطي واجتماعي تحرري هو الكفيل بتحرير الجماهير الشعبية من "البديل الإسلامي" الوهمي للجماعات والأحزاب السياسية السلفية، وهذا هو دور ومبرر وجود اليسار إذا أراد أن يكون يسارا فعلا؟