خضير ميري الذي يَتّهم


سعد محمد رحيم
2015 / 12 / 27 - 13:23     

من بين الوقائع كلها التي كان بطلها، ربما تكون واقعة موت خضير ميري الوحيدة التي لا تعد مزحة تبعث على الابتسام والضحك.. كانت نظرته المتهكمة إلى الأشياء والأحداث تمنحه صفة الفيلسوف الساخر.. كان العالم في نظره موضوع سخرية، وهذا لا يعني أنه لم يكن جاداً، وعميقاً، له مشروعه الإبداعي. على العكس، فقد وجد في السخرية وسيلة لتمثّل ما يجري، والتكيف مع تداعياته المخيفة، وترويضه.. لم يكن ميري فيلسوفاً بالمعنى الأكاديمي الضيق، بل كان فيلسوف حياة.. كانت الفلسفة في سلوكه، وفي كلامه، وفي علاقاته بالزمان والأشياء والأمكنة والأشخاص.. الفلسفة التي تُعنى بالتفاصيل اليومية، وتراقب بعين ذكية، وتلتقط العابر والاستثنائي والمخبوء، وتحيل ما التقطه إلى سرد ساخر وممتع.. كان دور المخيلة ها هنا حاسماً.. فمخيلته كانت من النوع الذي يخرق المألوف، ويجترح المفارقة، ويخلق النكتة.. لكن متلقيه يدرك، في النهاية، أنه قد يقصد شيئاً آخر.
حين يقول لك شخص ما جملة صادمة يكون رد فعلك الأول هو أن تجيبه؛ أنت تمزح، أليس كذلك؟.. وأظن أن رد الفعل الأول على كثير من كتابات خضير ميري، وطروحاته الشفوية، هو هذا؛ أتراك تمزح؟.. يكتب عن ماركس من غير أن يستشهد بمقولاته، ويكتب عن فوكو لكنه يتحدث عما لا علاقته له به، وحتى من غير أن يشير إليه إلا عرضاً.. ويركِّب جملة يسندها لسبينوزا وهي ليست لسبينوزا.. لا لأنه لم يعرف هؤلاء ولم يستوعب ما قالوه، وإنما لأنه ينفذ إلى منطقة أخرى لهم كما يراها هو لا غيره، باقتناع حتى وإنْ لم يمتلك المسوِّغات المعرفية الكافية بشأنها، ويناقض به قناعات الآخرين.. كان كاتباً على طريقته، وناقداً على طريقته، وفيلسوفاً على طريقته، وأكاد أقول ممثلاً فناناً على طريقته.. إنه يلفت النظر من غير تكلف، ويستحوذ على النسبة الأعظم من فرص الكلام في كل جلسة، ويكون مستفزاً لبعضهم، ومحيِّراً لبعضهم، وموضع إعجاب لبعضهم، فيما يصعب على من التقاه حتى لمرة واحدة أن ينساه.. فو يترك صورة قوية في ذهن من يحاوره، بغض النظر عن إيجابية الصورة تلك أو سلبيتها.. فلابد من أن تفكر، فيما بعد، بما قاله، وبما طرحه من أسئلة، وما نثره من شكوك.
أتمنى لو يكون خضير ميري قد كتب مذكراته، وهذه الأشياء كلها التي كان يتحدث عنها في كل جلسة مع أصدقائه. لا لكي نقع على الحقائق بمعناها المجرد، ولكن لنحصل على جزء من إرثه السردي في سبيكته من الواقع والخيال، والذي بدّده في مناسبات عابرة بدل أن يدوِّنه على الورق.
كانت شخصية خضير ميري تراجيدية على الرغم من كمّ الفكاهة والسخرية والتهكم والمزاح الكبير الذي أظهره، ووزّعه بسخاء وأريحية.. كان يتفكه لأن معاناته لا حدّ لها.. كان يسخر بسبب ألمه الشاسع.. وكان يناور ضد الصراخ بالضحك.. ولذا فهو من تلك الفئة من البشر التي يخذلها الحظ ولا تعمِّر طويلاً، كما بوشكين وليرمنتوف وشيللي والسيّاب. أولئك الذين يتضمن رحيلهم المأساوي عن العالم قدراً هائلاً من دلالات الاحتجاج والاتهام.
كان الحضور الجسدي ـ الشفوي لخضير ميري في الوسط الثقافي العراقي أقوى من حضوره الكتابي. وهذا، بطبيعة الحال، لا يقلل من قيمة كتاباته. فمن عرفه عن كثب يمكن أن يحكي لك طويلاً عن شخصه ومواقفه وعلاقاته وقفشاته، ولكن من الصعب أن يلخِّص لك فكرة وردت في كتاب من كتبه.
ما كان خضير ميري مجنوناً بالمعنى الاكلينيكي، على الإطلاق. وقد ادّعى الجنون لبعض الوقت ليناور ضد السلطة، أو ليتخلص من مآزق حياتية عويصة.. لكنه لم يكن عاقلاً أيضاً، بالمعنى الطبيعي الاجتماعي الاعتيادي، كما هو حال كثر من المفكرين والمبدعين.. وحدّةُ ذكائه وسرعة بديهيته، وشجاعته في إطلاق الأحكام تنتمي كلها إلى منطقة العقل.. العقل الذي له منطقه غير المألوف، ومساراته غير المتعارف عليها، وأحجياته الصادمة.
اهتمَّ بالكتب والأفكار والفن، غير أنه لم يهتم بنفسه، لا سيما بجسده.. فنكاية بالحياة التي لم تمنحه ما حسب أنه يستحقه، وكان يستحقه، راح ينكِّل بجسده وحياته.. ومقابل شحّ الحياة صنع استثنائية الحضور، وصار ظاهرة في جيله.