عام الرأسمالية المتوحشة


فهمي الكتوت
2015 / 12 / 26 - 22:48     

رَغْم الاحتفالات التقليدية التي يشهدها العالم في وداع عام منتهٍ، والتي تعبر عن مشاعر إنسانية متفائلة باستقبال عام جديد، يحمل للبشرية السلم والعدل والاستقرار والحياة الآمنة، إلا أنَّ اللحظة التاريخية التي نعيشها ما زالت لا تبشر بتحقيق الأحلام والأمنيات للبشر. وما زالت الاحتكارات الرأسمالية ترتكب أبشع الجرائم بحق شعوب الأرض للاستيلاء على الثروة. ولم تتوان في استخدام أبشع السبل لتحقيق الربح السريع، غير آبهة باستخدام القتل والتدمير والتشريد لتمرير مصالحها، وما يجري في الوطن العربي إلا نموذج على ذلك.

أيام تفصلنا عن إزاحة عام من أعوام الرأسمالية المتوحشة، عام ملطخ بدماء أطفال فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا، عام لوثته الأفكار الظلامية والمذهبية والطائفية، مُخلِّفا وراءه حزمة من الملفات السياسية والاقتصادية والإنسانية العالقة. التي حملتها الأعوام الثمانية الماضية منذ انفجار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية؛ فالصراعات العنيفة التي يشهدها الوطن العربي، ليست بمعزل عن الأزمة التي تعيشها المراكز الرأسمالية. والتي تعتبر منطقة اليورو الحلقة الأضعف في حلقاتها.

ويعتقد ويليام هيج وزير الخارجية البريطاني الأسبق، أنَّ حالة التفاوت الاقتصادي في مجموعة اليورو لا يزال يشكل خطرا على الوحدة النقدية للمجموعة. وأن الركود الاقتصادي يهدد بعدم استمرار اليورو كعملة في إيطاليا، وأنها قد تواجه خيار الانسحاب. وما زال الشعب اليوناني يئن تحت وطأة ازمة اقتصادية حادة سحقت الطبقة العاملة والشرائح الوسطى في المجتمع. اما باقي الدول الأوروبية فليس أفضل حالا.

ولم يتمكن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من رفع الفائدة إلا في الشهر الأخير من العام الحالي خشية من الآثار السلبية على الاقتصاد، فقد جاء رفع معدل الفائدة بمقدار ربع نقطة، للمرة الأولى منذ أكثر من تسع سنوات من الفائدة الصفرية، والتي استخدمتها الإدارة الأمريكية ضمن حزمة من إجراءات التحفيز الاقتصادي. في حين يعاني النظام الرأسمالي من ظاهرة الميل نحو الادخار أكثر من الاستثمار، وهو ما يسهم باستمرار في ارتفاع معدلات البطالة، واتساع مساحات الفقر، وغياب توجهات اقتصادية عالمية متوازنة تسمح بإقامة مشاريع تنموية في البلدان النامية لانتشالها من الفقر والبطالة والتخلف.

ويشهد النظام الرأسمالي آلاف المشردين الذين لا يجدون مأوى لهم، أو ملجأ يحميهم من البرد القارس، وهي من المشاهد اليومية المألوفة في العواصم العريقة ومنها واشنطن، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى وجود 600 ألف شخص بلا سكن في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين بلغ عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر 45 مليون شخص، أي نحو 14.5% من الأمريكيين. وهي الدولة التي تستحوذ على معظم ثروات الأرض، وتنفق على التسليح والحروب ما يمكنها من القضاء على الفقر ليس في أمريكا وحدها بل في العالم أجمع.

ويشعر العالم بقلق شديد لنتائج السياسات الاقتصادية-الاجتماعية "النيوليبرالية" التي تستهدف توسيع القاعدة العريضة لتراكم رأس المال، وتحقيق اعلى معدلات الربح بإخضاع شعوب العالم لشروط واملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين. ويقول الخبير الاقتصادي في مركز التطوير الامريكي جو فالينتي: "لم يشهد التمييز في الدخل هذا التصعيد منذ قرابة قرن، وعلى الرغم من التحسن الاقتصادي في اسواق البورصات إلا أن رواتب العمال لم تتحسن، حيث ذهبت 95% من العائدات السنوية الى جيوب 1% من السكان".

وفي المقابل نموذج آخر لا يمكن وصفه بالنموذج المثالي، ولكنه أقل ما يقال عنه بأنه ليس إمبرياليًّا، فقد واصل الاقتصاد الصيني تحقيق نمو اقتصادي مرتفع على الرغم من التراجع الطفيف، إلا أنه لا يزال في مقدمة الاقتصادات العالمية. وتسعى الصين لإقامة علاقات متوازنة مع الدول النامية، على خلاف ما تنفذه الدول الإمبريالية، ويقول وزير الخزانة الأمريكي السابق لورانس سامرز إنَّ ما حققته الصين خلال الـ35 سنة الفائتة مثير للإعجاب بكافة المقاييس؛ فالنمو الكبير والسريع والمستمر لم يكن له مثيل في أي دولة أخرى وهو ما جعل المجتمع بأكمله ينتقل إلى مستوى رفاهية أفضل خلال جيل واحد وخاصة عندما ننظر إلى عدد السكان الهائل. وتمتلك الصين 3.6 تريليون دولار من الاحتياطي النقدي الأجنبي وهو ما يوازن وضعها الاقتصادي، لذلك لا يتوقع انخفاض حاد في قيمة العملة أو حالة هبوط أو ركود.

أمَّا الوطن العربي الذي يُواجه أخطر المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعيش في انقسامات خطيرة، واصطفافات لا يستفيد منها سوى العدو الصهيوني، يواجه أزمات اقتصادية واجتماعية حادة، على الرغم من الفوائض المالية الضخمة، والاستنزاف المالي غير المبرر، في ظل معدلات بطالة مرتفعة، فإن نسبة البطالة بين الشباب في الدول العربية، تمثل ثلاثة أضعاف متوسط معدل البطالة في العالم، بسبب ارتفاع معدلات النمو السكاني وغياب المشاريع التنموية، والتخريب الاقتصادي المتعمد الذي تعاني منه عدد من الأقطار العربية، وغياب العمل العربي المشترك؛ فالتجارة البينية العربية لا تتجاوز 8% من إجمالي قيمة التجارة العربية. إنَّ غياب المشروع العربي أدى إلى تحويل الوطن العربي إلى أدوات للمشاريع المعادية للأمة.