فلسطين .. من درهم الفقير الى مليون الأمير


عدنان عاكف
2015 / 12 / 26 - 10:22     

فلسطين .. من درهم الفقير الى مليون الأمير

الى روح الصديق الفلسطيني الدكتور فلاح سعيد جبر
عدنان عاكف

قادتني الصدفة اليوم الى بيان قديم ، عمره نحو عامين، صادر عن اتحاد المهندسين الفلسطينيين، ينعي فيه أحد مؤسسيه، ورئيسه خلال السبعينات، الدكتور فلاح سعيد جبر، الذي وافته المنية في كانون ثاني 2014 . والمرحوم صديق قديم من مواليد 1940 في يافا، عاش فترة طويلة في العراق، أكمل دراسته الجامعية في بغداد عام 1966 ونال شهادة الدكتوراه من جامعة بلغراد عام 1971. عملنا سوية في شركة المعادن الوطنية. كان فلاح عضو نشط في المنظمات الفلسطينية المختلفة، وخاصة منظمة فتح، بالاضافة الى تقلده منصب رئيس اتحاد الجيولوجيين العرب، ومن ثم نائب الأمين العام لاتحاد المهندسين العرب. وانتقل فيما بعد للعمل في مجال الصناعات الغذائية، و بعض المنظمات التابع للجامعة العربية، فأصبح مديراً عاماً للتخطيط والمتابعة في اتحاد مجالس البحث العلمي العربية، ومنه أصبح أميناً عاماً لاتحاد الصناعات الغذائية العربية، ثم اختير مستشاراً في الجامعة العربية للدارسات والأبحاث، انتقل بعد ذلك للعمل كخبير مؤقت في منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو). لم يحدث ان جربت، من الناحية العملية، مصداقية المثل القائل " الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية " كما حصل لي مع المرحوم فلاح، خاصة في القضايا القومية، وعلى الأخص في الموقف من القضية الفلسطينية. ولن أبالغ لو قلت ان الاختلاف بيننا في المواقف من القضية الفلسطينية كان من النقاط القوية التي جذبت أحدنا الى الآخر..
دعاني ذات يوم لحضور مهرجان خطابي عن القضية الفلسطينية فلبيت الدعوة مسرورا، وقد تكررت مثل هذه القاءات لاحقا. بعد انتهاء المهرجان مد يده ليشكرني وقال مازحا :
_ ما رأيك لو تنظم الى فتح ؟ سأجازف بمستقبلي السياسي وأمنحك تزكية تخولك الترشح لمنصب قيادي في المنظمة.. فاجئني السؤال، فقلت :
_ بكل سرور.. جرب ولن تندم؛ سوف ترى كيف ان حلم تحرير القدس سيتحول من خيال الى واقع ينبغي العمل من اجل تحقيقه. ولكن خوفي يا رفيقي ان قيادتكم لن تتحمل وجودي في المنظمة لأكثر من شهر. لذلك دعنا نتحدث عن ما هو أسهل ويمكن تحقيقه في هذه اللحظة.
_ وما هو هذا الأمر ؟
_ ان تدفع لي دينارا واحدا لا غير كتبرع للحزب الشيوعي!
ترنح فلاح من هول المفاجأة وكاد ان يسقط أرضا . هذه هي المرة الأولى التي افصح فيها عن وجود علاقة مع الحزب. كان في السابق يتصور باني أميل الى أهل اليسار، ولكن لم يخطر على باله اني على علاقة بالشيوعيين، وبالطبع لم يكن يتوقع مني مثل هذه الجرأة، التي تصل حد التهور والصلافة، كما عبر عن ذلك صراحة.. ومع ذلك كان لي في نهاية الأمر ما أردته، ولم أودعه إلا بعد ان قبضت على الدينار ، وكان دينارا جديدا، يختلف عن الدنانير القديمة التي كنت أحصل عليها من الأصدقاء المعدمين. كان أول دينار من سلسلة طويلة من الدنانير التي استمرت تصل للحزب لعدة سنوات من صديق فلسطيني، يتمرغل في النعيم..
بعد فترة قصيرة تعرض الحزب لحملة بوليسية ، انتقلتُ على اثرها الى الصلة الفردية. مضى نحو عام لم افاتح فلاح بشأن التبرع، خوفا عليه وخوفا من احراجه . كنا ذات يوم نشرب الشاي في مكتبي ونتحدث في أمر ما. فجأة سألني ان كنت ما أزال على علاقة بالحزب؟ فاستفسرت عن مناسبة سؤاله، فقال انه على علم بما يتعرض له الحزب في الفترة الأخيرة، ثم اني لم أفاتحه كالعادة بالتبرع. في ذلك اليوم دفع فلاح خمسة دنانير بدل الدينار.
ذات مرة سلمني التبرع الشهري وقال بنبرة لا تخلو من السخرية والعتب :
_ الى متى تظلون متخلفين يا أحفاد ماركس ؟ ما زلتم تعملون بأساليب قديمة فات زمنها منذ عشرات السنين.. تجمعون التبرعات والاشتراكات درهما درهما، و في أحسن الأحوال دينار دينار. هكذا كنا نفعل في بداية نشاطنا السياسي. أما اليوم فان الأمر قد تغير جذريا. في كل سفرة يقوم بها أبو عمار الى دولة من دول الخليج، يعود وجيوبه منتفخة من الشيكات. وانت سيد العارفين: لا يوجد أمير يحترم نفسه مستعد ان يضع توقيعه على شيك باقل من رقم معه سبعة أصفار..
كان فلاح يقول الحقيقة. ولكن من أين يأتي الحزب بمثل هؤلاء الأمراء الكرماء ؟ بعد بضعة سنوات شكى من بعض المشاكل التي تعانيها منظمة التحرير بسبب ممارسات الكثير من الأنظمة العربية وتنظيماتها. ذكرته بما سبق ان قاله عن كرم الأمير وسألته:
_ ألا تلاحظ يا رفيقي العزيز ان أوضاعكم بدأت تتعقد وتتراجع منذ ان تكاثر أمراؤكم، وفَرَخت ملياراتكم ؟ كان رده جاهزا، وكأنه يتوقع مثل هذا السؤال :
_ اللي ما يطول العنب يقول عنه حامض.
جاوبته بضحكة صادقة. بعدها عقبت :
_ يا خوفي ان لا ندرك انا وانت وياسر عرفات، حقيقة مخاوفي إلا بعد فوات الأوان. وسترى كيف سيأتي يوم تقف فيه في ساحة التحرير لتغني بصوتك الأجش النشاز كيف ان درهم الفقير أفضل بألف مرة من مليون الأمير!
كان الرجل ينتمي الى عائلة ميسورة، ولد وفي يده ملعقة من فضة، ولذا كان بطبعه يميل الى " قوزي " الأمير أكثر من " ثريد " الفقير، لكنه والحق يقال، كان رجلا شهما، نقيا، صادقا بمشاعره ومواقفه الوطنية والإنسانية ! في عام 1979 غادرت العراق ولم ألتقيه من بعدها، إلا في صحيفة النعي من الاتحاد المهني الذي ينتمي اليه، وساهم بتأسيسه..
رحمك الله يا فلاح ! نم قرير العين أيها الصديق الفلسطيني، وعهدا بأني سأبقى، كما كنت دوما، العبد الفقير المتبرع بدرهمه، وسأبقى داعما لنظال الشعب الفلسطيني من أجل نيل حقوقه المشروعة، واقامة دولته المستقلة.
أنت في الذاكرة يا صديقي، ولست أعرف ان كنت ستفرح او تحزن ان أخبرتك باني أصبحت مثلك أهيم بصوت فيروز وهو يشدو بتلك الكلمات الجميلة التي كُنتَ تهيم بها:
سنرجع يوماً إلى حينا
سنرجع مهما يمر الزمان
وتنأى المسافات ما بيننا