الجدلية العربية- الدول الصهيونية والدولة العربية. وجه التشابه التاريخى. من وطنية دولتية الى الدولة الوطنية.


خالد فارس
2015 / 12 / 25 - 15:08     

هناك من يرى أن الدولة العربية يمكن أن تكون معاصرة وحديثة. لن نستطيع أن نرفض هذا الإدعاء. ولكن يمكننا التشكيك, حيث أن الدولة المعاصرة هى تلك التى ينتجها مجتمع, ولا تنتج هى المجتمع, أو أن شرط تكونها التاريخى, هو المجتمع أثناء سياق تحوله الى كيان مدنى حداثوى, ينتج دولته. أما الدولة العربية اليوم, فهى تريد أن تنتج المجتمع, وهى التى تريد أن تهيمن على المجتمع, ولاتريد أن تعترف بالمجتمع, الا فى إطار وجودها السابق عليه.
منذ بدايات القرن العشرين, نعيش فى حلقة مفرغة, تسببت بها الدولة العربية, التى أنتجت لنا عدمية تاريخية, إستحال تكونها كدولة معاصرة, أو عدمية مستقبلية يستحيل تكونها من مجتمعها, أو أن تؤول دولة مجتمعها.
فالدولة العربية, تجوهرت فى كيانية دولتية, مستقلة عن الشعب. الإستلاب الدينى, القومى, الطبقى, المالى, ينبع من ظروف تكونها وطبيعتها, فهو نتاج إستحالة تكونها, فى دولة الحداثة والمعاصرة. وهذا مايؤدى الى مفهوم الدولة الفاشلة, من الناحية التاريخية.
منذ إنطلاق سيرورة التحرر الوطنى, إبتداءا من الخلافة العثمانية, تبعها التحرر من الإستعمار البريطانى-الفرنسى-الإيطالى-الإسبانى وغيرهم, تشكلت سياقات المجتمع العربى المعاصر. لم تأخذ هذه السياقات مداها التحررى المكتمل, لتصل الى مرحلة إنجاز الإستقلال الوطنى, وإنشاء دولة وطنية, تُجَسّد وتحقق الإستقلال والحرية للمجتمع.
ويعود السبب فى أن ظروفا داخلية وخارجية, تاريخية, هى التى أخرجت المجتمع العربى, من سياقاته التحررية الوطنية. وأدت الى فرض دولة خارج سياق مجتمعاتها. بل أن الدولة العربية كانت أمراً مُعطى لمجموعة بشرية.
ويكفى أن نقول, أن سايكس بيكو, تمكن من شرعنة الدولة العربية, على أسس خارج سياق مشروع المجتمع, أى من دون مجتمعاتها. ويعنى ذلك أن الدولة لذاتها, هى غاية, التى بإقامتها, لايوجد مبررات لأن يكون للمجتمع دور تحررى, فالدولة هى عنوان, ووجود, ومصير, وأخلاق, التحرر, وهى بذلك تنهى دور المجتمع, فى جدلية تقرير مصيره.
وليس صدفة, عندما ننظر الى الكيان الصهيونى, سنجد أنه من المفارقة التاريخية, أن تَشّكل دولة الإحتلال, مشابها لمنطق تشكل الدولة العربية. الكيان الصهيونى, الذى أُنْشِأَ بقرار أممى, سبقة وعد بلفور, لم يتكون بفعل مجتمعه, بل سابق على مجتمعه, الذى لم يتكون, فهو يعبر عن غياب مجتمعه.
يبدو أن واقع حال المنطقة العربية, شاملا دولة الإحتلال, عبارة عن دول لم تنشأ من مجتمعاتها, بل موازية لها, أو سابق عليها. وهى تعبير عن غياب المجتمعات العربية. إنها دول تنطلق من تاريخانية مشروعها, لبناء حالة دولتية مهيمنة, تحمل مشروعها هى, وليس مشروع تحرر شعوبها.
الدولة العربية لم تتشكل على أثر إنجاز الإستقلال الوطنى. وهذه مسألة فى غاية الأهمية لأن الدول الحديثة هى الدول التى تستطيع أن تمارس سيادتها على حدودها, وتمارس قرارا سياسيا-إقتصاديا-ثقافيا مستقلاً, يعبر عن حاجات الأمة, وهنا يكمن الدور المركزى الحقيقى للمجتمع, فى تعريف حاجات الأمة.
تتقاطع دولة الإحتلال مع الدولة العربية فى ظروف تكونها ونشأتها. فكليهما, نشأ فى ظروف غير مجتمعية, بل سياقات دولتية فرضتها السياسة العالمية. ويلتقيان أيضا فى غياب مشروع تحرر وطنى يقوده المجتمع ذاته, لأن فى ذلك نفيا لوجودها الذى أصبح مرتهنا الى مقولة "الدولة فوق الجميع أو الدولة فقط أو الدولة أولا أو الدولة للأبد".
فالإحتلال الإسرائيلى الذى نشأ فى أتون وعد بلفور, تمحورت فيه فكرة الوطن اليهودى فى سياق دولاتى. يهدف الى بلورة الدولة, من أجل التحكم وضبط المجموع اليهودى, الذى سَتُكّوِنُه هى, وليس الذى سيتكون بفعل قواه الذاتية. فتوؤل, نافيةً, لمجتمعها, أو االى مجتمع يتكون بذاته. ولكنها تُقَدّمْ نفسها على أنها ضمانة لإستدامة الشعب اليهودى, فى دولة تحمل مشروع صهيونى.
يقودنا ذلك الى القول أن الدولتية الصهيونية, تم تصميمها لكى تتناقض مع فكرة تحرر اليهود من منطلق مجتمعى, ولذلك تسعى الى إنتزاع اليهود من علاقتهم بمجتمعاتهم الأصلية. وتتناقض أيضا مع أية فكرة للتحرر الوطنى, يمكن أن تنوجد فى محيطها العربى. فالتحرر الوطنى العربى يشكل خطرا على الدولة الصهيونية, لأنه يمنح العرب واقعا موضوعيا, يتناقض مع قيم وأخلاق ومعارف ووجود الصهيونية. أو بشكل أخر, فالتحرر الوطنى العربى, الذى يقوده مجتمع, سوف ينتج عنه علاقة بين المجتمع العربى التحررى, واليهود على أسس تحررية إنسانية, وليس على أسس دولتية, أو دولتية مقابل دولتية.
فى رأينا هنا تكمن, الجدلية العربية, أو المسألة العربية, فى تبلور ظرف موضوعى وذاتى يُسَطّرْ تاريخ الواقع منذ سايكس بيكو, أو منذ سقوط الخلافة العثمانية الى يومنا هذا. أولا: أن الدولة العربية إنوجدت على أسس اللاإستقلال الوطنى, ولم تُوْجِدْها مجتمعاتها, بل فُرِضَت على مجتمعاتها, لذلك لن تقبل بمشروع مجتمعاتها فى حق تقرير مصيره فى مسألة الإستقلال والتحرر الوطنى. والثانى أن دولة الإحتلال تتماثل مع الدولتية العربية, فهى تعادى, بل لن تسمح لليهود, فى التحول الى حالة مجتمعية تحررية, ولن تسمح بوجود حالة, أو دولة عربية تسعى لإنجاز مشروع مجتمعها فى الحرية والإستقلال, أى أن تكون دولة مجتمعها. وحتى تستطيع أن تستديم الدولتية الصهيونية, لن تسمح بالإستقلال الوطنى الفلسطينى, الذى يمثل أولوية تاريخية لها, لأنه المجتمع المباشر الأقرب فى التناقض (العدو القريب) مع الدولتية الصهيونية.
يبدوا أن الصدفة التاريخية ربطت مصير الدولة العربية, مع مصير دولة الإحتلال, ومن سخرية القول, أن هناك مصلحة فلسفية-سياسية مشتركة. تتجلى, فى منع قيام المجتمع العربى غير الذى أنشأته الدولة العربية, ومنع قيام مجتمع يهودى غير الذى أنشأته الدولة الصهيونية. كلا المجتمعات لايملكان حق تقرير مصيرهما. لأن الحبكة السياسية الصهيونية, لاتحتمل أى تغيير, فهى معدة ومقررة مسبقا. وكذلك الحال عند الحكام العرب, الذين لن يقبلو أى تغيير فى الحبكة السياسية فى دولهم.
وفى النهاية, نحن أمام ظاهرة دولتية تحكم منطقة الشرق الأوسط, تحتكر مفهوم الوطنية, ونشأت وتكونت على أساس وطنية دولتية, بدلا عن دولة وطنية. فالأنظمة الحاكمة العربية والنظام الحاكم فى الكيان الصهيونى هو تمثيل عن وطنية دولة هى تحتكرها, وليس عن دولة وطنية لشعوبها.
تعيش الدولة العربية والدولة الصهيونية, حالة من السكون الإستاتيكى, التكرارى الركودى, يُطَوّرْ عمليات إحتقان سياسى عنفى, يعيق, أى تحرر أو تقدم سياسى, أو تحرر المجتمع الغير سياسى-المدنى, وتمنع تكونه أو تحوله, الى مجتمع حر فى تقرير مصيره.