انحراف البوصلة السياسية عن الصراع الرئيسي


فهمي الكتوت
2015 / 12 / 12 - 22:17     

مع إدراكنا لطبيعة العلاقة بين الخاص والعام، وطبيعة التناقضات المتعددة في المجتمع، منها الرئيسي ومنها الثانوي؛ فالتناقضات بين المستغِلين والمستغَلين تناقضات رئيسية في النظام الرأسمالي. وفي ظروف الاحتلال يحتل التناقض مع العدو الأجنبي المقام الأول، ويصبح تناقضا رئيسيا، وتتشكل الجبهات والتحالفات بين القوى الاجتماعية الوطنية في مواجهة العدو الأجنبي، وقد أسهمت الجبهات الشعبية والوطنية في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية في التصدي للمحتلين النازيين والفاشيين. وقد استحدث المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، فكرة "الكتلة التاريخية" التي وصفها المفكر الراحل محمد الجابري بأنها "ليست مجرد جبهة بين أحزاب، بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يُسْتَثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف، إلا الطرف أو الحزب الذي يضع نفسه خارجها وضدها وضد أهدافها".
ومن المفترض تسخير الطاقات العربية والإمكانيات المتاحة لمواجهة التناقض الرئيسي مع الفاشيين الجدد. ومن المعروف أنَّ حركة التحرُّر العربي خاصة، والأقطار العربية عامة؛ لا تزال تؤكد أنَّ بوصلتها القضية الفلسطينية -بما في ذلك البلدان العربية التي وقَّعت معاهدات صلح مع العدو الصهيوني، وما زالت تعلن أنَّ القضية المركزية هي تحرير الأراضي المحتلة وفق قرارات الشرعية الدولية لكنَّ معظم الأقطار العربية تمارس عكس ذلك، وتقيم علاقاتها -سرًّا أو علانية- مع العدو الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية، وتأتي سلطة أوسلو في عداد هذه الدول.
ومع اشتداد الحروب العدوانية في سوريا والعراق واليمن وليبيا، والتي أوصلت المنطقة العربية إلى مُنعطف خطير، باصطفاف عدد من الدول العربية، إلى جانب التحالف الوثيق بين العدو الصهيوني والاحتكارات الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وتسخير ثروات الوطن العربي الغنية وفوائضه المالية لصالح هذا التحالف، وإغراق المنطقة بشلالات من الدماء، وحرمان الشعوب العربية من فرض سيادتها الوطنية، انحرفت البوصلة السياسية عن الصراع الرئيسي التناحري مع العدو الصهيوني، مقابل الخداع والتضليل الذي تمارسه الإمبريالية الأمريكية حول عودة المفاوضات، ومراهنات السلطة الفلسطينية عليها. فقد طرحت أمريكا أقصى ما في جعبتها، متضمنة تصفية القضية الفلسطينية وفرض الاعتراف بيهودية الدولة، وإلغاء حق العودة. ومع ذلك رفضها نتنياهو؛ لاعتقاده أنَّ الصراعات الدائرة في الأقطار العربية، سبب كاف لابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية.
وإزاء هذه الأوضاع -وفي ضوء استمرار الانقسام الفلسطيني البغيض، وتكريس النهج اليميني في رام الله، وارتباط سلطة حماس في محاور الصراع في الوطن العربي بتغليب البعد الأيديولوجي الإخواني على المصالح الوطنية، وما يسببه ذلك من ضرر على القضية الفلسطينية، وعدم المراعاة لخصائص المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني- فإنَّه على اليسار الفلسطيني مسؤولية إضافية في هذه المرحلة التاريخية، وفي ظل المنعطف الخطير الذي تمرُّ به حركة التحرر العربي عامة والقضية الفلسطينية خاصة، وبعد ما آلت إليه الأوضاع العربية من تداعيات الصراعات الداخلية التي تستهدف النيل من المقاومة العربية والفلسطينية للاحتلال الصهيوني.
ولكي لا يبقى الشعب الفلسطيني أسيرَ ثنائية "فتح" و"حماس" المحكومة بمصالح فئوية لم تراع الظروف الدقيقة التي تمر بها القضية الفلسطينية، فإنَّ اللحظة التاريخية تَسْتَدعي التقدُّم ببرنامج البديل الديمقراطي الذي يجمع أحزابَ وفصائل اليسار الفلسطيني كافة، ومختلف القوى التقدمية، برنامج يحمل مهام المرحلة في التحرُّر الوطني وانتزاع حق تقرير المصير، التي تشكل قاسما مشتركا بين مختلف أطراف اليسار؛ مما يستدعي القيام بمبادرة لإقامة تحالف قوى اليسار لتشكيل الكتلة التاريخية.
فقد استحدثَ المفكرُ الإيطاليُّ غرامشي مفاهيمَ لم تكن مطروقة؛ مثل: مفهوم الهيمنة الثقافية، التي تعني أن الطبقة البرجوازية تهيمن على المجتمع لا بامتلاكها وسائل الإنتاج وإدارتها والتحكم بمؤسسات الدولة فحسب، وإنما عن طريق فرض تصوراتها وأفكارها على المجتمع أيضاً، إلى الحدِّ الذي تستدرج معه الطبقة العاملة لِتَبنِّي تِلْك التصورات والأفكار، والتي تغدو كما لو أنها تصورات وأفكار المجتمع برمته.
وهذا ما يجري حقيقة في الأراضي الفلسطينية؛ فقد نَجَح الفكرُ البرجوازيُّ الفلسطيني -بتياريه اليمينيين التصفوي والديني- باقتسام الشارع الفلسطيني، مُستفيدين من مواقع السلطة ومؤسساتها المتعددة، والتي أصبحت تشكل قيودا على المبادرات الخلاقة التي ابتكرتها الجماهير الشعبية، والتي يعبر عنها يوميًّا الجيل الجديد من الطلائع الثورية للشعب الفلسطيني باستهداف الإسرائيليين بأدوات ووسائل بسيطة مثل "انتفاضة السكاكين"، شكَّلت حالة من الرعب للعدو الصهيوني؛ فمواكب الشهداء التي يقدمها الشعب الفلسطيني يوميًّا جاءتْ لكي تتحدَّى الآثار النفسية المدمرة للانهيار العربي، ولترفض تداعيات هذا الانهيار، وتنقل الشعب الفلسطيني من حالة الإحباط التي يعيشها الوطن العربي إلى حالة الكفاح والتضحيات والمقاومة وتشحذ الهمم في مواجهة الاحتلال الصهيوني، ولسان حال شهداء فلسطين الأبرار يقول "إذا كان الهدف من تدمير سوريا تصفية القضية الفلسطينية، فإن شعب فلسطين لن يركع".. هذا الشعب يستحق من الأحزاب والفصائل اليسارية الفلسطينية أن تشكِّل له غطاء سياسيا بوحدة العمل والإرادة.