في كتاب -الأجنبية-: البحث عن الذات


سعد محمد رحيم
2015 / 12 / 6 - 13:00     

كتاب ( الأجنبية ) لعالية ممدوح يقع على تخوم ثلاثة أجناس أدبية هي؛ الرواية، والسيرة الذاتية، والمقالة.. ولأن المؤلفة تدرك صعوبة تجنيس كتابها كتبت على غلافه عبارة ( بيوت روائية ). فهو من جهة شذرات من سيرة متماسكة، تحكي عن ثيمة محددة. وهو من جهة ثانية مقالات تتناول الوضع القلق غير المستقر لمهاجرة عراقية عربية تحاول إثبات هويتها الشخصية لممثلية بلدها في العاصمة الفرنسية باريس، وأمام سلطات تلك المدينة. وإذا ما جمعنا هذه الشذرات/ المقالات التي ترتبط بعلاقة تتابع ـ تجاور يمكن أن ننعتها مع بعض التحفظ بـ ( الرواية ). طالما هناك شخصية رئيسة تتنقل بين بيوتات الرواية الافتراضية العديدة بحثاً عن بيت آمن يوفر لها الدفء والحميمية والحرية، فضلاً عن شخصيات ثانوية تشكِّل مع الشخصية الرئيسة بأفعالها متناً حكائياً معقولاً.
وثيمة حكاية الشخصية الساردة بضمير المتكلم هي السعي لنيل الاعتراف.. الاعتراف بأنها هي وليست أي شخص آخر!. هي الضحية لسلطة بطريركية ذكورية محمية بقوة القانون، تحاول اجتثاث ذاتها وجسدها من سجن الزوج الذي لا ترغب فيه. الزوج الذي يريد إعادتها إلى بيت الطاعة في بغداد، بعدما استحوذ على جميع أوراقها الثبوتية. فيما هي تروم استعادة كيانها والمضي قدماً ـ هي الناضجة الراشدة ـ من غير وصاية تمسخ وجودها.
يذكِّر هذا الكتاب بعوالم كافكا، لاسيما في روايته ( القصر ).. بذلك الضياع الحارق والمرعب بين أروقة الأجهزة البيروقراطية بمناخها الموحش العدائي، وقلبها البارد، وخطتها المحكمة في السيطرة والتحكم. حيث تحس بأنك مُراقب، مريب، ولا أحد يدلك على ما يجب أن تفعل وكيف عليك أن تتصرف، وما الكلمة المناسبة التي عليك أن تقولها في موقف ما، وما الكلمة غير المناسبة التي عليك تجنبها فيه.. ثمة فحص حيادي قاسٍ للنوايا والضمير، فحص قد يفضي إلى سوء فهم وسوء حكم، وعبث بالمصير.
الساردة التي لا اسم لها في النص تعيش أزمة علاقة مع زوجها بعدما هربت منه، إلى بلاد أخرى.. هو يريد امتلاكها كتحفة وهي لا تريد أن تكون ممتلكة على الرغم منها.. هو قادر بحكم الشرع والقانون، وهي مختلفة:
"دائماً تصورت أن بمقدوره الوصول إليّ ولو بطوربيد حربي. قلت له هذا في إحدى السنوات فأطلق ضحكة مجلجلة كعادته:
ـ اللعنة، لديك العيوب والأخطاء كلها لكنك لا تعوضين جميع النساء اللواتي في حوزتي"ص19.
هذه اللغة الذكورية النرجسية المتغطرسة تضعها في أفق التحدّي، لتأكيد هويتها، بوصفها أنثى تمتلك وعياً وإرادة على الرغم مما يعتورها من خوف في عالم لا يبالي بأمثالها.. الخوف الذي خبرته من سنين سحيقة؛ "خوف لم يسقط أي شيء من حسابه. إقامته حُدِّدت بين الأمتار ورموش العين، لكن لم تتحدد إقامته بزمن أو تاريخ معين فيظهر بجميع التجليات التي يمكن تصورها"ص23.
كانت ثمة حدود صارمة، وأحياناً غير منصفة، لكل شيء.. هي هناك؛ حيث تحيا المرأة في عالم مغترب حتى وهي في بيتها ووطنها، بدءا من اغتراب الجسد بين المحرّم والخليع.. بين ما يسمح به وما لا يسمح، وحتى ذلك النوع من الاغتراب الوجودي حيث تشعر بأنها ليست في مكانها الصحيح، ولا في العصر الذي يلائمها. حيث يكون ملاذها الوحيد؛ الكتابة، ففيها يمكن فقط لمن هم في محنة كمحنتها من البحث عن الذات، والرهان ضد الخوف واليأس والموت.. تتحرى عن ماضيها لتتيقن من حاضرها.. لتتأكد من هويتها الحقيقية؟.
يبرز سؤال الهوية في المنعطفات الحادة الملتبسة من الحياة. وها هي الساردة ترغب في التعرف على هويتها بعدما غادرتها أشياؤها الحميمة، وبعدما تفكك عالمها القديم.
"فقد تكيفت حياتي مع الأسى الشديد وأنا أشاهد حطام بيتي وهو يتفكك حجراً بعد حجر وطابقاً بعد طابق وفرداً بعد فرد كما حصل ويحصل مع بلدي بالضبط" ص39.
محنة الساردة هي اختزالها في أوراق رسمية لم تعد بعهدتها.. فما يثبت ( أنانا ) عبر الوثائق أمام الآخرين قد يجعلنا أكثر شكاً بأنفسنا.. هنا تكمن قوة السلطة، سطوتها، قدرتها على التحكم بالنفوس والأجساد.. إن وثائق إثبات الشخصية، في عصرنا التقني المعلوماتي، أهم من الجسد، من العقل، ومن تاريخ الشخص المدوّن منه وغير المدوّن.. إنها الأجنبية.. إنها الآخر الذي يتغيا نيل الاعتراف.. الآخر الخائف. هنا تصبح الساردة لا مركز العالم الذي تنظر منه، بل الهامش الذي يُنظر إليه. والنظرة التي تشملها تعرّيها، تحاول فضحها، هكذا تحس؛ إنها نظرة شكاكة، مهدِّدة، لا أبالية بطريقة ما.
ومع سعيها المحموم لاسترداد هويتها من خلال الوثائق تحاول الساردة تعلم اللغة الفرنسية، فهي تعيش منفى اللغة أيضاً.. طاقتها على تعلم اللغة الفرنسية تخذلها، هي الكاتبة العربية في أرض ثقافة غريبة.. ما يذلها الآن هو الخوف أيضاً.. الخوف الذي يسلِّمها للضعف والنسيان.
إنها تبغي ذاتها؛ ذاتها المحررة من موجبات الهوية/ الهويات التي لم تخترها بمحض إرادتها.. الذات الرامية إلى الاختلاف، لا المطابقة.. إلى الحرية، لا السجن الهووي.