شئ من الفلسفة مع كارل بوبر !


شامل عبد العزيز
2015 / 12 / 2 - 14:35     

كَتَبَ كارل بوبر(28 يوليو 1902 في فينا - 17 سبتمبر 1994 في لندن ) ذات نص :
" لقد حان الوقت لكي نتوقَّف عن تقمص دور الأنبياء بأن نعمل على تغيير أنفسنا. " .
إذا كان سقراط قد قال “ أعرف نفسك بنفسك ” فإن تلميذه اكزينوفان قال “ اعترف في قرارة نفسك أنَّك على قدر كبير من الجهل”.
أنا أطرح السؤال التاليّ :
من ذا الذي يعترف بذلك خصوصًا إذا كان من بلادنا الرائعة ؟ مجرّد سؤال .. !!
على ضوء مقولة الأستاذ والتلميذ قال كارل بوبر :
يجب الاعتراف بالحقيقة التَّاليّة :
أنَّنا لا نعرف شيئا ، أو بالأحرى لا نعرف إلاَّ النَّزر القليل ، لحدّ اعتباره جهلا مطبقا بكلّ ما يتعين معرفته لنكون في مستوى اتّخاد قرارات سديدة و صائبة.
كان سقراط أوَّل من أدرك هذه الحقيقة . اعتبر سقراط أنَّ رجل الدَّولة ينبغي أن يكون حكيمًا ، حكيمًا بما فيه الكفايّة لكي يعرف أنَّه لا يعرف شيئا .
أنا أقول " ليس فقط رجل الدولة بل من المفروض أن يكون كل إنسان حكيمًا ولكن هيهات فالحماقة هي السائدة " !
أفلاطون قال نفس العبارة : “أن يكون رجل الدَّولة حكيما” ولكن هناك فرق بين قول سقراط وبين أفلاطون ..
قال سقراط يجب أن يكون حكيمًا بما فيه الكفاية لكي يعرف أنَّه لا يعرف شيئا . بينما ذهب أفلاطون إلى أن يكون الملوك فلاسفة وأن يلتحقوا بالأكاديميَّة .. لتعلُّم فنّ الجدل ..
يطرح كارل بوبر السؤال التالي :
“ من الَّذي ينبغي أن يحكم ؟ ”. هذا هو السُّؤال الأساسيُّ والجوهريُّ في الفلسفة السياسيَّة الأفلاطونيَّة.
جواب أفلاطون هو التَّاليّ :
“ أفضل النَّاس وأكثرهم حكمة هو الجدير بالحكم” .
يبدو هذا الجواب ، للوهلة الأولى ، سديدًا وصائبًا . لكن ما الَّذي يحصل لو اعترف هذا الشَّخص وبكلّ تواضع ، بجهله وعدم حكمته ورفض بالتَّالي تقلُّد مهام السُّلطة ؟
" من هو العربيّ الذي يرفض تقلُّد مهام السُّلطة بل أي منصب " ؟ أيضّا مجرّد سؤال !!
السودانيّ عبد الرحمن سوار الذهب فعل ذلك !
بشار الأسد وباقِ الطغاة على العكس ومن يؤيدهم من الزمر الفاسدة والعقول المتعفنة ..
ليس الأفلاطونيُّ عموما ملكا ، قد يكون زعيما قويًّا لحزب وإن تشكَّل هذا الحزب منه وحده فقط . إنَّ جلَّ زعماء الأحزاب ، خاصَّة الأحزاب القمعيَّة والأحزاب المعروفة ، أفلاطونيون ، هم كذلك ، لأنَّهم من المنظور الأفلاطونيّ خيرة الأفراد ، وأكثرهم خبرة ، وأفضلهم حكمة ، وبالتَّالي أجدرهم بتقلُّد مهام الحكم . " هذه هي الحماقة والسذاجة معًا " !!
ولكن ماذا قال اكزينوفان بحق هؤلاء ؟
( إنَّ من يخال نفسه الأفضل والأحكم مصاب لا محالة بهذيان العظمة ، إنسان كهذا ، لن يكون بأيّ حال حكيمًا ولا فاضلاً ) .. بل ولن يكون ايّ شيئاً حسب رؤيتي طبعًا .
متى سيفهم العرب مقولة اكزينوفان ؟ أيضّا مجرّد سؤال ؟
" من الذي ينبغي أن يحكم " هو سؤال مغلوط في نظر كارل بوبر وبالرغم من ذلك ظلَّ الجواب ولعهد طويل هو التَّالي : تعود السُّلطة للإمبراطور الَّذي اختاره الجند ، فهو وحده المؤهَّل لتقلُّد مهام السُّلطة والحفاظ عليها . سيصبح الجواب فيما بعد : السُّلطة للأمير بتفويض إلهيّ .
كارل ماركس طرح هو الآخر نفس السُّؤال :
من له الحقُّ في السُّلطة ، البروليتاريا أم البرجوازيّة ؟
كان جوابه واضحا : يعود الحقُّ في السُّلطة للبروليتاريا الَّتي تملك وعيًّا طبقيًّا ، طبعا لا الرأسماليَّة الأنانيَّة ولا البروليتاريا الرثَّة ، هما معا يستحقان الإهانة والاحتقار.
لقد استبدلوا التَّفويض الإلهي للأمير، الجواب الَّذي ساد طيلة العصور الوسطى ، بالصيغة التَّالية :
“ الحاكم هو الشَّعب بإرادة الشَّعب ” وهي صيغة كانت متداولة ومعروفة في روما القديمة “ صوت الشَّعب هو صوت الإله”. Vox populi, vox Dei
ولكن هذه الطريقة جاءت بالنازيّة وهتلر ؟
( أبن شوارع يتسلط على الرقاب .. وأين ؟ في ألمانيا .. ما أكثر أولاد الشوارع الذين يتسلطون على رقاب الناس خصوصًا في بلادنا ) ؟
إذن ما العمل ؟ يجب تعديل السؤال ذاته حسب بوبر :
يجب تعديل سؤال “ من يجب أن يحكم؟ ” بسؤال آخر مختلف كلية عنه :
“ كيف نتصوَّر تنظيم الدَّولة بحيث يحقُّ لنا إقالة الحكومة من دون إراقة الدّماء ؟ ”. لا يشدّد هذا السُّؤال على كيفيَّة تشكيل الحكومة ، بل على إمكانيَّة إقالتها.
كلمة “ ديمقراطيَّة ” هي الكلمة التَّقليديَّة الَّتي نطلقها ، منذ الدّيمقراطيَّة الآثينيَّة ، على مؤسَّسة تشريعيَّة تحول دون قيام الدّيكتاتوريَّة والاستبداد .
الدّيكتاتوريَّة هي أفظع النُّظم ، كما هو الأمر في الصين ، نظام يتعذَّر التَّخلُّص منه ولو بإراقة الدّماء .
وأين كوبا وكوريا الشماليّة وباقِ الدول المسخ ؟
الدّيكتاتوريون ، في زماننا هذا ، أقوياء جدًّا، ذلك ما عايناه عند محاولة الإطاحة بهيتلر في العشرين من يوليوز سنة 1944 .
الأنظمة الدّيكتاتوريَّة أنظمة عديمة الأخلاق ، الدّيكتاتوريَّة حقيرة أخلاقيًّا لأنَّها تدفع مواطني الدَّولة للتَّعامل ، ولو في صمت ، ضدًّا على ضمائرهم ، وقناعاتهم الأخلاقيَّة ، مع الشَّر . إذ تسلب الإنسان مسؤوليته الأخلاقيَّة الَّتي من دونها لن يكون إنسانا قطُّ . تغدو كلُّ محاولة ، في ظلّ نظام ديكتاتوريّ، لاضطلاع الفرد بمسؤوليته ، محض محاولة انتحاريَّة.
الدّيمقراطيَّة الأثينيَّة (الَّتي أكنُّ لها كلَّ التقدير لاعتبارات عدَّة حسب كارل بوبر ) اتَّخذت هي الأخرى قرارات جائرة. إذ هاجمت (من دون أدنى تحذير) جزيرة ميلوس المحايدة، فقتلت الرّجال ، و سابت النّساء والأطفال ، ثمَّ باعتهم في سوق النّخاسة . ذلك ما كانت الدّيمقراطيَّة الأثينيَّة قادرة على القيام به.
لقد جعل البرلمان الألمانيُّ لجمهوريَّة فيمار، المنتخب بكلّ حريَّة وطواعيَّة ، من هتلر ديكتاتورا ، عبر القنوات المشروعة وبفضل النُّصوص الدستوريَّة المتعلّقة بالسُّلطات المطلقة.
الإنسان معرض للخطأ ، هذا يعني أنَّ الشَّعب هو الآخر ، شأن أيَّة جماعة بشريَّة ، معرَّض كذلك للخطأ. إن كنت أدافع عن فكرة أنَّ من واجب شعب مَّا إقالة حكومته ، فلأنَّه لا علم لي بطريقة أفضل من هذه لتجنب ويلات الاستبداد .
هل هناك دولة عربية يمكن إقالتها بدون إراقة للدماء ؟
شئ مُحزن ومُخزي جدًا أن ننتمي لهكذا دول .. !!
الدّيمقراطيَّة من حيث هي حكم الشَّعب ، بالصيغة الَّتي أدافع عنها ، لا عيب فيها. والتَّعبير السَّاخر لتشرتشل ينطبق عليها فعلا: “ الدّيمقراطيَّة هي أسوء أنظمة الحكم ، باستثناء كلّ الأنظمة الأخرى”.
ما العمل ؟ هل بوسعنا الحيلولة دون وقوع أحداث مرعبة كتلك الَّتي عرفها الشَّرق الأقصى ؟ أقصد العنصريَّة ، النَّزعة القوميَّة ، ضحايا بول ـ بوت بالكامبودج ، ضحايا آية الله بإيران ، ضحايا الاجتياح الروسي لأفغانستان ، ما يقع حاليًّا بالصين . " ما يجري في الشرق الأوسط من احداث تجعل الولدان شيبا " ما الَّذي علينا فعله للحيلولة دون وقوع كلّ هذه الأحداث المرعبة والرَّهيبة الَّتي لا يمكن تصوُّرها ؟ هل نحن فعلا في مستوى الحيلولة دون وقوع هذا ؟
نحن معشر المثقَّفين ، تسبَّبنا ، ومنذ آلاف السنين ، في أفظع المصائب والمحن . الإبادة الجماعيَّة باسم مذهب أو نظريَّة هي من أعمالنا وإبداعاتنا . إن توقفنا عن إثارة الأشخاص بعضهم بعض ـ عن حسن نيَّة ـ سيكون ذلك أمرا مهمًا وإن لم نتجاوز هذا الحدَّ. لا أحد بإمكانه الادعاء بأنَّ ذلك عصيٌّ علينا.
تلخص على نحو تقريبي ، أهمُّ وصيَّة من الوصايا العشر: “ لا تقتل أبدًا ” الأخلاق كلُّها . هكذا لم تكن الكيفيَّة الَّتي صاغ بها شوبنهاور نظريته الأخلاقيَّة إلاَّ امتدادا لهذه الوصيَّة المركزيَّة. النَّظريَّة الأخلاقيَّة لشوبنهاور بسيطة ، واضحة ومباشرة . إنَّها تقول : لا تؤذ أحدا ولا تلحق به ضررا، بل على العكس ، ساعد البشر وقدم لهم يد المساعدة ما استطعت إليه سبيلا.
لكن ما الَّذي وقع لموسى عند نزوله لأوَّل مرَّة من جبل سيناء ، بل قبل أن ينشر الوصايا العشر، حاملا الألواح الصَّخريَّة ؟ وجد نفسه أمام بدعة قاتلة ؛ عبادة المال . نسي موسى عندئذ الوصيَّة “ لا تقتل أبدًا ” وصاح في قومه: “ ليتحلق حولي شعب الله ... هكذا تكلم الرَّبُّ .. إله إسرائيل ..ليتقلَّد كلٌّ منكم سيفه وليخنق أخاه وصاحبه وقريبه...” هكذا سقط هذا اليوم قرابة ثلاثة ألف قتيل.
كانت البداية ، فيما أظنُّ ، على هذا النَّحو. هكذا استمرت الأمور فعلا على نفس الحال بالأرض المقدَّسة وبعد ذلك بالغرب ، خاصَّة بعد تنصيب المسيحيَّة ديانة رسميَّة للدَّولة . إنَّه تاريخ رهيب مُورس فيه الاضطهاد الدّيني باسم الأرثوذكسيّة. سيتمُّ فيما بعد، خاصَّة إبَّان القرنيين السَّابع عشر والثَّامن عشر التَّذرع بحجج إيديولوجيَّة الواحدة بعد الأخرى لتبرير التَّعذيب والبطش والاضطهاد ؛ باسم العرق أو القوميَّة أو الوطن أو الطبقة الاجتماعيَّة وكلّ البدع السّياسيَّة والدّينيَّة.
تخفي الارثوذكسيَّة والهرطقة وراءها أحقر الرَّذائل ، رذائل نحن المثقَّفين عُرضة لها ، كالعجرفة والتَّعنت وادعاء المعرفة والابتذال الثَّقافي . هي رذائل حقيرة ، لكنَّها مع ذلك ، ليست في فظاعة الرُّعب . الحال أنَّ الرُّعب ليست غريبا تماما عن المثقَّفين . إذ لنا في هذا المجال نصيبا . يكفي استحضار ما قام به الأطباء النَّازيون من تقتيل للمرضى والعجزة بالمعتقلات وما عُرف بـ “ الحلّ النّهائي” للمسألة اليهوديَّة.
لقد اقترفنا ، نحن المثقَّفين ، عن جبن وغرور وكبرياء أرذل الأفاعيل وأسوئها . نحن من كان علينا الاهتمام بمن لم يتمكَّن من الدّراسة ، غدونا “ خونة الرُّوح ” على حدّ تعبير المفكّر الفرنسيّ المقتدر جوليان بيندا J. Benda . نحن الَّذين أبدعنا و وجنا للقوميَّة ، نلهث وراء التَّقليعات البلهاء. نتكلَّم ، بغية لفت الانتباه، لغة عصيَّة عن الفهم ، لغة جذَّابة ، لغة عالمة ، مصطنعة ، أخذناها عن أساتذتنا الهيغيلين . هذا ما يعيق كلّ تبادل معقول بين المثقَّفين ويحجب في الغالب التَّفاهات الَّتي تصدر عنَّا والماء العكر الَّذي نصطاد فيه.
الأضرار الَّتي تسببنا فيها في الماضي مهولة. لكن هل أصبحنا مسؤولين فعلا منذ غدونا أحرارا في قول وكتابة ما نريد ؟
إنَّ من اقترحوا إقامة فردوس على الأرض ، لم يجلبوا إلاَّ الدَّمار .
بعض من أقوال الفيلسوف كارل بوبر :
جميعنا يذكر كم حرباً دينيّة اندلعت في سبيل دين يدعو للحب والرقة ، وكم شخصا أحرق حيا بنيَّة صادقة ؟
معرفتنا لا يمكن إلا أن تكون محدودة ، أما جهلنا فغير محدود بطبيعته .
لا يمكن أن يكون لحجة منطقية تأثيرٌ منطقيٌّ على من لا يريد أن يتبنى أسلوبا منطقيا .
أين نحنُ من كل هذا ؟
" للحديث بقية " .
المصدر :
مقال كارل بوبر الذي يحمل عنوان " الحريُّة والمسؤوليّة الفكريّة " ترجمة محمد نجيب فرطميسي .. الأوان . " بتصرف " ..