السلام بأيّ ثمن سوريا مثالاً


باسم المرعبي
2015 / 12 / 1 - 17:29     

1
الأسئلة أو الأجوبة البديهية بحاجة أحياناً الى إعادة تذكير،
فالمشهد الجميل الذي لم يعُد يُرى لكثرة اعتياده بحاجة الى ما يُلفت اليه ثانيةً
والبلدان الجميلة التي مرّت عليها يد الديكتاتوريات والحروب والضغائن بحاجة الى استعادتها في أزمنتها البيضاء... أزمنة السلم وما تعنيه من انتظام وروتين، وهو بات رهن الصور القديمة.
مأساة الحرب تكمن في الدرجة الأساس في نسفها للروتين، يعني الحياة في استرخائها وكسلها وفي عاداتها التي تألفها، دون تلك المفاجآت "المدوّية"، إلا بما هو جميل.
خذ سوريا مثلاً وكيف شظّتِ الحرب زمنها ذي الإيقاع الهادىء حدّ الركود. لقد كتبتُ في التسعينات ضمن نص شغوف بدمشق عن هذا الزمن:

مُتلبثاً أرقب العابرات، مرتشفاً الهدوء الذي لم يصدعه أحد، مدخناً سيجارتي، برضىً ملكيّ.
ملكٌ في نسيم دمشق، أنا
ملكٌ أهبط الدرجات المتصالحة مع نفسها الى مقهى "النوفرة"!
حيث كل شيء يتلبّث علامة الدعة..
مشهد النسوة، واقفات يتحدثن،
وكأنهن واقفات الى الأبد.
الأشجار المنحنية على ساقية جارية، كمشهد مؤبد، أيضا
..............

أنا الراكض في نفسي، كم أخلد الى هذه المشاهد!
..............

لقد مضت كل علامات ذلك الزمن، وما عاد الوقت، الآن في دمشق وعموم سوريا، يُحسب أو يوزَن بسوى الرصاص!


2
قبل أيام قرأت في نشرة تصدرها احدى الكنائس في السويد، أُلقيت في صندوق بريدي ضمن مطبوعات دعائية معتادة، لقاءً مع فتاة سورية عشرينية وشقيقها الذي يصغرها قليلاً يتحدثان فيه عن مدينتهما حلب بذلك الشغف والحنين الذي يدركه ويكتوي به كل خارج أو مُبعَد من مدينته أو وطنه قسراً. تتحدث الفتاة بفخر عن حلب الجميلة، عن مدارسها وعن جامعتها الكبيرة، مبرزةً للصحفية التي أجرت اللقاء معهما، العديد من الصور لحلب ـ يعود تاريخها الى ما قبل 2011 ـ وهي تمثّل ساحتها الكبيرة، كنائسها وجوامعها، فنادقها ومبانيها التاريخية، طرقها، متحفها وطبيعتها. جميلة جداً! تعلق الصحفية على الصور، لتضيف الفتاة: وهي تغالب دموعها، فيما تحدق في الصور: حلب هذه.. مدينة لم يعد لها من وجود. عند هذه الجملة، أكاد أسمع تنهدها وأستشعر مقدار المرارة في كلماتها وهي تقول ذلك. فلنا عراق رائد في التشظّي والضياع!

3
في حرب كالحرب السورية وكل حرب مماثلة يكون السؤال: من هو المنتصر؟ مفترضين ان الحرب توقفت، مكتفيةً بهذا المقدار من الخراب والدمار وحصاد الأرواح!... لكن ها نحن نسمّي الثورة التي بدأت بيضاء، سلمية بحق، عزلاء كصدور شبابها التي كانت تتلقى الرصاص، وهي لا تنشد سوى الكرامة والحرية، وهما من صلب ما هو انساني ولازم بعد اغضاء طويل عن جرائم وانتهاكات نظام البعث. نسميها حرباً، إذاً. هي صيرورة لم يكن ليتوقعها شباب الثورة ولم يكونوا ليريدوا لهبّتهم تلك أن تنتهي الى ما انتهت اليه، حتماً. لو أُتيح لهم خيار كهذا، فهم أحرص وأفدى لبلدهم من نظام اجرامي لا يعنيه سوى البقاء والاستمرار بأي ثمن. وعوداً الى السؤال عن المنتصر، فيما لو لاحت نهاية لهذه الحرب، فأي انتصار وأي منتصر وما الثمن الذي ترتّب من أجل ذلك؟!
هذا هو السؤال وهو ذاته الجواب!

4
حلبٌ، كمثال، في صورها الشاخصة قبل أن تعصف بها الحرب وصولاً الى راهنها. تجسيد لثمن الانتصار "المزعوم" القادم! حلب في صورتها الظاهرة أو تلك التي تُستنطَق من مشاهد الخراب الماثل. لنستمع لما يفيد به الشقيقان في لقائهما الآنف متوجهين بكلامهم الى القرّاء: كثيرون سيقولون لماذا نحن هنا، لماذا لم نظل في سوريا نقاتل، والجواب هو أننا لا نريد أن نموت! نريد أن نعيش! نريد لبلادنا، أن تعود، عوائلنا، جيراننا، أصدقائنا، العمل، الدراسة. لم نكن نفرق بين أحد من الناس. عشنا جنباً الى جنب، تقاسمنا، الحياة، الحزن، الخبز. ذهبنا للكنيسة مع بعضنا لأجل بعضنا. لهذا نريد أن نستمر، لكن هذا لم يعد ممكناً، ولم تعد المبادرة بأيدينا، غير أننا لم ننقطع عن التفكير. نحن نستخدم وعينا وادراكنا ونأمل أن تفعلوا أنتم كذلك.

5
هي كلمات واضحة وبسيطة، لكنها ضرورية في زمن أو زحمة اختلاط والتباس كل شيء، وهو ما يقتضي العودة الى بدايات، إن لم يكن "بدائيات" الأشياء، تعريفاً، وفرزاً وتسميةً، و.. تذكيراً. قلت في أول سطر: الأسئلة أو الأجوبة البديهية بحاجة، أحياناً. الى اعادة تذكير. والآن أستدرك، لأقول الحاجة تستلزم هذا التذكير "دائماً" وليس "أحياناً"!

6
إن ديكتاتوراً مثل البشار كما كان يسمّيه غسان تويني يقف بالدرجة الأساس وراء هدم وتخريب أكثر من نصف سوريا وتهجير نصف شعبها وقتل واعاقة مئات الآلاف، وهو لا يتورع عن الإجهاز على ما تبقّى من البلاد والعباد بدافع مجنون للبقاء في السلطة. لكن مابال الطرف الآخر ـ بالأحرى الأطراف الأخرى ـ باستثناء داعش، التي هي الوجه الآخر للنظام، بدمويته ووحشيته وهمجيته ـ تلك الأطراف ـ التي تدّعي القتال من أجل حرية سوريا ومستقبلها؟! فإذا كانت صناعة الحرب تحتاج الى شجاعة فإن الشجاعة التي يتطلبها السلام هي أكبر وأشد، خصوصاً في ظروف معقّدة مثل الظروف التي انساقت أو سيقت لها سوريا وبتعدّد القوى الإقليمية والدولية اللاعبة، علناً وسرّاً.

7
فليكن سلاماً حتى لو على مضض، وبأي ثمن! لأن تكلفة استمرار الحرب أكبر بما لا يُقاس من تكلفة تحقيق السلام. مواصلة الحرب تعني خسارة ما تبقى من سوريا. فليتدارك السوريون ما تبقى من معالم قابلة للنظر والفخر في زوايا تلك الصور القديمة لمدنهم، معالم تستدعي أكثر من علامة تعجب لجمال يقف الانسان السوري ذاته وراء صناعته. وهو في صميمه.
فليكن سلاماً!