التظاهرات الحالية في العراق مقدمة لمسار سياسي جديد -4-


فلاح علوان
2015 / 11 / 22 - 21:38     

الانتفاضة او الحركة الجماهيرية أو اي شكل احتجاجي شعبي واسع، لاتعود ظاهرة تخص الطبقات المحرومة المنتفضة وحدها، والتي تناضل بهذه الصورة او تلك، وتعبر عن نفسها بهذا الشكل او ذاك. ولا تعود وجهة الحركة مقتصرة على حضورها الميداني ومقاصدها وشعاراتها. اذ ان القوى السياسية السائدة او النافذة او الكامنة، سواء في المعارضة او السلطة، سرعان ما تلج الميدان، ومع هذا التحول يصبح من المستحيل التعبير عن السياسات والاهداف العامة من خلال المطالب الاساسية التي رفعت، لان هذه القوى المشار اليها ستتدخل عبر ادعاء مطالب مشابهة، كوسيلة لاحتواء الحركة او للسيطرة عليها او لتوجيهها الوجهة التي تريد. وهنا تبدأ مرحلة فرز الاتجاهات ومعها تبدأ الاليات السياسية لكل اتجاه بالتبلور.
لقد تناولنا فيما تقدم، الارضية الاجتماعية والتاريخية التي تقف عليها التيارات السياسية المهيمنة على المجتمع. وركزنا على تيارات واحزاب الاسلام السياسي، وهي التيارات الاكثر نفوذا وسعة والتي اصبحت الايديولوجيا الرسمية للبرجوازية في العراق ، والتقاليد التي تشكل سندها الاجتماعي، وخاصة العشائرية باعتبارها مؤسسات عرفية سابقة للدولة الحديثة.
ان صعود قوى الاسلام السياسي والعشائرية بشكلها الحالي، كان نتيجة افلاس نموذج الدولة المركزية السابقة وانهياره، والذي جاء بسبب صعود العولمة الرأسمالية والنيوليبرالية، التي تتطلب تقويض الدول المركزية او القومية، وتحويلها الى كيانات مجزأة او متصارعة. وقد قامت اميركا وحلفائها بتدمير بناء الدولة العراقية عبر الاحتلال وفرض النموذج السياسي الحالي.
ان الاقتصادات الخاضعة تصاب بالانهيار اولا في هذه السياسة، بسبب ضعف قاعدتها التكنولوجية، وخضوعها وثانويتها في السوق الرأسمالية العالمية، وهشاشة نظمها السياسية التي يشكل الاستبداد احد اهم اركانها، وانعدام او ضعف الوظيفة او الدور العالمي لهذه الانظمة في السياسة والاقتصاد والتوازن الدولي والاقليمي.
لقد فرضت الامبريالية هذا التوجه بالقوة وليس عبر الليبرالية والتطور الحر الذي تدعيه، فرضته بالصواريخ وبسرف الدبابات والفسفور الابيض واليورانيوم المنضب، بمئات الالاف من الضحايا، باستدعاء القوى المنسية في اقبية التاريخ وتمكينها من التحكم بحياة الملايين، بتدمير اسس المدنية والصناعة الناشئة بحجة الاندماج بالسوق العالمي وتنويع ودمج الثقافات. أي باختصار بفرض بربرية معاصرة بدل البربرية التي غادرتها البشرية في طريقها الى التحضر والمدنية.
القوى التي استيقضت مع تراجع وانهيار نموذج الدولة المركزية، والتي لابد ان تكون رجعية بالضرورة، كونها انتعشت مع صعود الرجعية والاستعباد العالمي، كانت تجد في بعث تقاليد وقيم الماضي الاستعبادي شبه الاقطاعي شبه العبودي، وسيلة للسيطرة والتحكم، على البيئة الاجتماعية اولا ثم فرض نظام سياسي رجعي.
لقد اسفر هذا الاتجاه عن كارثة المت بالمجتمع، حيث تحول الاتجاه المشار اليه الى نظام سياسي يحكم البلاد. واسفرت هذه الوقائع عن تبعات شائكة على الصعيد الاجتماعي وعلى مكانة ودور الطبقات الاجتماعية.
ومع انهيار الصناعات وانتشار البطالة المليونية وتفكك اجهزة الدولة، ونشوء عشرات المهن الصغيرة المتعلقة بالبيع بالمفرق، الدلالية، التجارة الموسمية الصغيرة، الصفقات، الوسطاء، المزورين، المروجين، الاعمال المخالفة للقانون، التجارة اللاقانونية، ترويج الممنوعات، بيع الاسلحة، واصناف تكميلية اخرى لهذه المهن، تنشأ اوساط واسعة من العاملين في هذه المهن يتميزون بحكم متطلبات عملهم، بالفردانية الشديدة والغموض في التعامل، والتنافس والاحتيال، هذه المهن تتطلب ارضاء اكثر من طرف متعارض المصلحة في نفس الوقت، اي يتطلب مواقف متقلبة، عملية، نفعية ، وبالتالي انتهازية. تشكل هذه الاوساط ميدانا لتقوية الاتجاهات السياسية الرثة والرجعية، وتعتبر وسيلة لتغلغلها بين اوساط الجماهير. ان وجود عشرات المهن من هذا الصنف تضم الالاف في اوساطها، تقوي تأثير الانتهازية على المستوى الاجتماعي.
لقد انتفضت الجماهير في العراق بوجه هذه الاوضاع التي نجمت عن السياسة الامبريالية، وممثلها المحلي، البرجوازية العراقية التي تعيد توزيع الثروة وتشكيل نفسها على اساس النيوليبرالية.
وليس المقصود بالتحليل هنا، ومحاولة التعرف على جذور القوى التي تشكل قوام الحركة، ان يكون البديل او اللائحة السياسية بحد ذاته، بقدر ما يقصد من ورائه التعرف على موقع القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير في هذه الحركة، وشكل تعبيرها السياسي عن نفسها، وما هي درجة فهم الترابط بين المضمون الاجتماعي للحركة ونمط العمل السياسي؟
اي باختصار ما هو شكل تجسم البروليتاريا والفئات المحرومة كجموع مليونية في الحراك الحالي، وهو طبقي في منطلقه؟ وما هي وسائلها النضالية؟ وما هي وسائل التيارات السياسية التي تعرف نفسها كممثل للطبقة العاملة واين تقف؟

الشباب
ان الشباب وهم رأس الرمح في الحركات الاجتماعية الصاعدة الثورية، اصبحوا هنا ايضا، في مقدمة الجموع السائرة خلف القوى التي بعثت تقاليد الماضي وحولتها الى رافعة بيدها للسيطرة والنفوذ. كان الاتجاه الى تكريس القيم العشائرية والعودة الى الماضي، هو الاتجاه الابرز، واستطاع فرض صبغته الثقافية العامة على المجتمع من خلال ممثليه. وانخرط الشباب بصورة ملحوظة في تيارات الاسلام السياسي التي كانت تطابق التوجه العام الذي آل اليه المجتمع.
لم يكن توجه الشباب وتبنيهم التشدد والقسوة المفرطة والذكورية والاحياء المتعمد لكل ماهو من تراث الغابرين، نتيجة الايمان العقائدي وتبني فلسفة محافظة دينية، بل لان الثقافة التي سادت المجتمع اصبحت تمنح الاعتبار والتقدير لممارسات التسلط والهيمنة والقوة والذكورية والقيم العشائرية الممعنة في التغريب والصرامة، هذا من جانب، ومن جانب اخر، فان روحية الفتوحات والغزو والقوة الخارجة عن كل ضبط وكل اعتبار، والقدرة على التحكم بحياة الاخرين وقتلهم او اسرهم او اغتصابهم او اذلالهم، والاستيلاء على الممتلكات، اي باختصار كل ما يشبع الشهوانية والعدوانية والنزعة للسيطرة، والتي تجد تبريرا دينيا لها بل تجد التحريض والتعبئة، قد دفعت باعداد كبيرة من الشباب الى ان يشكلوا عماد التوجه المشار اليه. ومع التدهور اللاحق قادت الى الانخراط في اشد العصابات همجية ووحشية على مر العصور، اي داعش والقاعدة.
ومع سيادة تلك الافاق فان الجامعة اصبحت خارج الحركة الحالية تماما، ولا تمارس اي تأثير ايديولوجي أو سياسي يذكر على المجتمع، بل لا تشكل الان ميدانا او مسرحا لاي تيارات فكرية فاعلة كما كان الامر في الستينيات. وبالتالي فان اوساط الشباب محرومة من مصدر معرفي سياسي هائل. ان تخلف الجامعة في العراق والتأخر النظري في اوساط الشبيبة، واقعان يقود احدهما الى الاخر وينتج عنه بصورة متبادلة، وهما معا نتاج الاوضاع الفكرية السائدة في البلاد والناجمة عن نوع الصراع ودرجته وأساليبه والفئات المنخرطة فيه. انه في الوقت الذي يشكل مصدرا للتراجع الفكري والثقافي، فهو نتيجة للاوضاع العامة وحلقة من حلقاتها ايضا.
ويشكل النضال الفكري في اوساط الشباب احدى نقاط الانطلاق او المواجهة، من خلال بناء تيار فكري نظري فاعل.

مع اواسط التسعينيات، ثم ما بعد 2003 كان الاتجاه العام لبعث وتقوية وترسيخ القديم، وهو ما خلق الافق العام المغذي للرجعية بكل اجنحتها والوانها، وحيث ان هذا في تعارض مع اتجاه الحياة والتقدم، وهذا التعارض سيخلق افقا بالضد من تلك الافاق السائدة.
كان التوجه لتكريس الرجعية وتحويلها الى نمط سائد هو ما قاد الى تحويل طاقة الشباب الى قوة مدمرة، وسيكون انخراط الشباب في القوى المتطلعة للتحديث والانسانية هو مقدمة هدم البناء البالي، واعادة بناء المجتمع على اسس منافية للهمجية والبربرية. وهنا اعيد ما كتبه كارل ماركس عن الشباب قبل اكثر من مئة وستين عاما في كتاب النضال الطبقي في فرنسا، حيث كتب " وفي تلك السن التي جندتهم فيها الحكومة المؤقتة، سن الفتوة، كانوا متقلقلين للغاية، فكان بمقدورهم الاقدام على اعظم ضروب البطولة والتفاني، وكذلك على احط اعمال النهب واللصوصية وعلى اقذر عمليات الارتشاء وبيع الذات".
لم يكن نصيب الشباب في النظام الجديد سوى البطالة والاغتراب والضياع النفسي والثقافي، ومن ثم تجنيد اقسام منهم في المليشيات والمجاميع المسلحة.
لقد شكل الشباب الكتلة الاوسع في صفوف المبادرين، وأول المضحين بانفسهم كان من بينهم. واذا تحولت قيم التمرد والتغييرالى قيم رائجة يعني ان الاتجاه هو لهدم مخلفات الماضي، وان هذه المهمة لا تسير بقواها الذاتية فقط، بل بالتدخل الواعي للقوى الثورية.




المرأة
اشد المتضررين من الاوضاع الراهنة هي المرأة، تلك الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي سادت، ودفعت بالمرأة بعيدا الى مؤخرة الحياة السياسية والمجتمع. ان ضعف القدرة على التعبير عن المصالح الاجتماعية والحياتية للمرأة وبالتالي الحضور السياسي لها، يزيد من عمق تأخرها من جانب، ويزيد من تأخر وضعف اليسار والقوى الناهضة من جهة اخرى. ولا حل لكليهما الا بالاجابة على هذه المعضلة.
ان دور المرأة السياسي ومضمون تحررها، لا يمكن اختزاله او التعبير عنه بالتعاطف العام مع مظلوميتها و قيام الناشطات والناشطين بفعاليات تعبر عن هذا المطلب.
كما ان رفع الشعارات التحررية والمساواتية يشكل نقطة الشروع، ولكن ليس العمل نفسه. ان قضية المرأة في مجتمعنا يعني ان يهتز مجمل البناء القيمي والحضاري، وبالتالي السياسي والحقوقي. ان العوائق امام حركة المرأة هي التقاليد اكثر من القوانين والتشريعات. وبالتالي فان اهداف النضال النسوي ووسائله لابد ان تكون مترابطة بشكل جدلي. ففي الوقت الذي تعيقنا منظومة تقاليد عن النضال، سيستهدف نضالنا بالضرورة مواجهة العوائق المعادية كهدف، ووسيلة في الوقت نفسه. ولا يمكن فصل النضال النسوي والقيام به، كمهمة خارج او بمعزل عن النضال ضد الهيمنة الطبقية والقيمية للطبقات السائدة، ولا ان تكون نضالا تكميليا وتابعا للاتجاهات والتيارات اليسارية. كما ان استعباد وتراجع مكانة المرأة يشكل احدى الروافع الاساسية بيد السلطة الحالية ويقويها. لا حركة اشتراكية او يسارية بدون الاجابة على قضية المرأة، ولا حركة نسوية تحررية بدون الانخراط في النضال الطبقي. ان ضعف الوسائل النضالية بيد قوى اليسار، تؤثر بصورة مباشرة على نضال المرأة، وتأخر الحركة النسوية يشكل نقطة ضعف فعلية لليسار. ان هاتين الظاهرتين حاضرتان بقوة في الحراك الحالي في العراق، وخاصة في الجنوب، وهو المركز الفعلي للاحتجاجات.

فهم مسار الحركة؛ المطالب العامة، دور الطبقات الاجتماعية، استنتاج برامج ولوائح عملية.
حركة الاحتجاجات بدت شعبية عامة، المثقفون والسياسيون ، الذين اتخذوا ساحة التحرير منبرا عاما لهم، عموما، تناولوا الحركة كظاهرة عامة، تدخلوا فيها وحاولوا اعطائها "وجهة" لا على اساس مضمونها وانما على اساس فهمهم ومصالحهم. بل ان مجاميع عديدة "سيجت" فرقها واحتلت مواقع خطابية لا يشاركها فيها احد، وقد طرحت الاصلاحية مبكرا وفي اسوأ اشكالها. وسعت الى حصر الحركة في اطار دستوري مساوم. وحرصت مجاميع اخرى على تعبئة انصارها وفق نظرتها وشعاراتها، وبهذا انعزلت ساحة التحرير مبكرا عن الحركة في عموم البلاد وتراجعت بسرعة، رغم ما للعاصمة من تأثير سياسي ومعنوي على مجمل الحركة. ان ضعف الوسائل النضالية بيد الحركة، قاد الى تسيد هذه المجاميع ساحة التحرير، وان تسيدهم سيقود الى مزيد من الضعف.
لم تخرج الجماهير الى الميدان بناءا على رغبة او مخطط حزب او فئة، وعبرت عن رفض واسع لسياسات الحكومة، ومواجهتها والتطلع الى تغيير الاوضاع، او الى تغيير في الاوضاع.
لقد انحسرت الحركة الشعبية في شكلها الحالي ، وتبددت الطاقة مبكرا، ولم تتوجه ولم تبن مرتكزاتها ولم تتجذر في بنى ودينامية ثورية. ولكن حركة اخرى قائمة وحية وتشكل احدى العقد المصيرية في مسار النظام السياسي وفي مسار الحركة الاجتماعية والطبقية، هي حركة الطبقة العاملة واعتراضاتها اليومية بوجه السياسة الاقتصادية الجديدة، والتهديد الذي يتعرض له ملايين العمال، هذه الحركة لم تتوقف، ولكنها لا تتقدم بدون تنامي واتساع حركة عمومية. ان هذا سيتطلب سياسات اخرى وتدخلا اخر وستراتيجيات اخرى غير التي شهدناها في ساحة التحرير.

يتبع
21-11-2015