البرجوازية الوطنية تخون برنامجها القومي


حافظ عليوي
2005 / 10 / 31 - 10:55     

الشرائح الوسطى تستبدل البرجوازية القديمة

الموقف من البرجوازية الوطنية العربية عامة والفلسطينية خاصة كان على رأس القضايا التي شغلت بال اليسار العربي والاحزاب الماركسية . وقد حسم التاريخ هذا الموضوع في هزيمة حزيران 1967 التي كانت البرهان الاكيد على انهيار المشروع القومي العربي الذي حمل رايته جمال عبد الناصر في مصر .
وبينما كانت نكبة فلسطين عام 1948 وهزيمة الجيوش التي قادتها الانظمة العربية الاقطاعية التابعة للاستعمار ، فاتحة لعهد الثورات في العالم العربي بقيادة الثورة البرجوازية القومية مثل البعث في سوريا وحركة الضباط الاحرار في مصر ، فقد بددت نكسة 1967 كل الآمال في قدرة البرجوازية الوطنية العربية على قيادة الجماهير في مواجهة اسرائيل في سبيل تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي .
بعد النكسة بدأت البرجوازية العربية الحاكمة بالاندماج التدريجي في النظام الرأسمالي العالمي . وكانت مصر البادئة في هذه العملية عندما طردت الخراء السوفييت من اراضيها عام 1972 ، ثم القى رئيسها السادات خطابا امام الكنيست الاسرائيلي ووقع على اتفاق كامب ديفيد (1977 - 1978 ) . ثم كان دور العراق في شن الحرب على الثورة الايرانية عام 1980 خدمة للمصالح الامريكية ودعما لانظمة الخليج الرجعية . ووصل الاندماج ذروته بانضمام اغلبية الدول العربية للحرب التي قادتها امريكا ضد العراق (1990-1991) . وكانت هذه المشاركة تعبيرا عن مبايعىة الدول العربية للنظام الرأسمالي العالمي الذي فرضته الولايات المتحدة . وتأكيدا على تأييدها لهذا النظام قبلت ايضا باطار التسوية مع اسرائيل الذي وضعته امريكا في مؤتمر مدريد .
بعد تراجع مشروعاتها الصناعية الوطنية الى هامش الاقتصاد ، تحولت البرجوازية العربية اليوم الى برجوازية كومبرادورية ( تابعة ) ، وخاضعة تماما لاوامر البنك الدولي ومصالح الاحتكارات الاجنبية .
تتكون البرجوازية العربية اليوم من الشرائح الوسطى للمجتمع العربي ، من ضباط الجيش والتجار الصغار واصحاب المهن الحرة الذين تبنوا شعارات وطنية تنادي بتحرير الوطن العربي من التبعية للاستعمار . تكونت هذه الشريحة الوسطى كردّ فعل على البرجوازية القديمة الارستقراطية والاقطاعية التي كانت تابعة للاستعمار بحكم موقعها الاقتصادي الموظف في خدمة رأس المال الاجنبي .
الرمز الاعلى لتحرير مصر من التبعية للاجانب تمثل في تأميم قناة السويس وبناء السد العالي في اسوان في الخمسينات بمبادرة جمال عبد الناصر الذي مثّل طموحات الشرائح الوسطى . وكان في التطورات الهامة التي أحدثها جمال عبد الناصر تعبير عن السعي لبناء اقتصاد وطني مستقل لخدمة مصر وتحقيق الوحدة العربية . غير ان هذا الحلم لم يتحقق ، وكانت الشريحة الوحيدة المستفيدة من امتيازات القطاع العام الحكومي ، الشرائح الوسطى الحاكمة ذاتها التي سعت لتكديس ارباحها . وبذلك تحولت هذه الشرائح الى جزء من البرجوازية العربية التي اخذت تنخرط شيئا فشيئا بالنظام الرأسمالي العالمي ، مهملة ً كل الشعارات الكبيرة حول المصير القومي المشترك .
وبينما توافق الاحزاب اليسارية على هذه الرؤية للبرجوازية العربية ، الا انها لا تطبق نفس الرؤية على البرجوازية الفلسطينية ، بل تصر على إكسابها صفات تقدمية خاصة ، معللةً ذلك بالمصلحة " الموضوعية " التي لهذه البرجوازية في تحرير الوطن من الاحتلال لانها اصلا بلا وطن .

موقف اليسار الفلسطيني من البرجوازية العربية والفلسطينية

في محاولتنا تشخيص جوهر الخطأ الذي وقع فيه اليسار الفلسطيني لم نجد تحليلا افضل من الذي قدمته " الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين " في بحثها اخطاء اليسار العربي . ورد في هذا التحليل في التقرير النظري الذي صدر عن المؤتمر الوطني الثاني للجبهة الديمقراطية عام 1981 ، في كتاب بعنوان " حركة التحرر الوطني في مواجهة التحالف الامبريالي - الصهيوني الرجعي " .
في وثيقتها القيمة وصلت الجبهة الى حد اتهام البرجوازية الوطنية في معظم الدول العربية بالخيانة وكان هذا في العصر الذهبي للاتحاد السوفيتي : " وهكذا فان البرجوازية التي نمت بفضل الاجراءات التقدمية ، لم تلبث ان اصبحت تجد في تلك الاجراءات قيودا تحدّ من نشاطها الطفيلي والكومبرادوري ، وتضيّق على مصالحها الجديدة التي اصبحت تتطلب العودة الى الانفتاح الكامل على السوق الرأسمالية العالمية ، بما تعنيه من انفتاح على الامبريالية والرجعية ، وتصفية او اضعاف قطاع الدولة ، واطلاق العنان لحرية النشاط الرأسمالي دون قيود . وشكلت هذه المصالح الجديدة أساسا للتدهور اليميني الذي بلغ نهايته في مصر والعراق والسودان والصومال واليمن الشمالي ، باستكمال التحول الرجعي للبرجوازية الجديدة والعودة الى الارتماء في احضان الامبريالية والرجعية ، والخروج من حركة التحرر الوطني العربية وخيانتها " . (ص 138 )
واسهبت الوثيقة في تحليل اخطاء الاحزاب العربية اليسارية في علاقتها بالبرجوازية الوطنية . وتطرقت للحزب الشيوعي المصري الذي حل نفسه وانضم للتحاد الاشتراكي في اواسط الستينات . وكانت خطوة الحزب مسبوقة بقيام عبد الناصر باطلاق سراح لشيوعيين من السجون في اواسط الستينات ، بعد وصول مشروعه التنموي الى طريق مسدود ، جراء الفساد وسوء الادارة في نظامه البيروقراطي .
ووضعت الوثيقة حدا لكل النظريات التي تتبناها الاحزاب الشيوعية ، وابرزها نظرية " الطريق اللارأسمالي للاشتراكية " وجوهرها : انه بامكان البرجوازية الوطنية العربية " الثورية " قيادة البلاد نحو الاشتراكية بشكل سلمي ودون الحاجة الى ثورة عمالية . سادت هذه النظرية في مطلع الستينات ، عندما كانت الانظمة البرجوازية مدفوعة نحو تحقيق التحولات التقدمية . وكان من اخطر انعكاساتها انها اثارت اسئلة في صفوف اليسار العربي حول ضرورة وجود احزاب مستقلة للطبقة العاملة ، وحول امكانية دمج هذه الاحزاب في اطار الاحزاب القومية البرجوازية .
وقد تمتعت البرجوازية الوطنية العربية في عصرها الذهبي بدعم جماهيري عريض ، شمل الشرائح الوسطى والفلاحين وسكان الريف الذين استفادوا بشكل مباشر من الاصلاحات الاقتصادية التي ادخلتها . وتميزت هذه البرجوازية بالخطاب القومي المتطرف الذي كان غرضه التغطية على الغزل بينهما وبين الغرب من جهة ، وعلى قمعها الشديد لمنظمات الطبقة العاملة واحزابها من جهة اخرى . وأدى الالتفاف الجماهيري حولها الى تردد اليسار في كيفية التعامل مع النظام الحاكم .
وازاء هذه الظاهرة حذّرت وثيقة الجبهة ، وبحق ، الاحزاب اليسارية العربية من الانجرار وراء القيادة البرجوازية ، ولفتت انتباهها الى ان التناقض بين البرجوازية الوطنية وبين الاستعمار تناقض محدود ، وحذّرتها من مغبة تسليم البرجوازية قيادة حركة التحرر الوطني والتنازل عن البرنامج الطبقي ، واكدت على ضرورة وجود حزب مستقل للطبقة العاملة .
استراتيجية الجبهة غير واقعية

وكانت المساهمة النظرية لمؤتمر الجبهة (1981) ، تحديد الدور الطليعي للطبقة العاملة في حركة التحرر الوطني : " ان مصير ومستقبل حركة التحرر العربية ، وقدرتها على النجاح في التصدي للمخطط الامبريالي ودحر العدوان الاسرائيلي ، وعلى متابعة المسيرة الوطنية الديمقراطية هي وحدها التي تكفل لها شروط الظفر والانتصار " ( الحرية 164 ).
كما نلاحظ فقد حدد المؤتمر مهمة استراتيجية جديدة لليسار ، وهي ان ينتزع من البرجوازية قيادة حركة التحرر الوطني . وكان لهذه المهمة اساسان ، الاول يتعلق بافلاس القيادة البرجوازية ، والثاني نابع من التقديرات بأن الفترة التاريخية ، مطلع الثمانينات ، مهدت الطريق للوصول للاشتراكية . ففي تلك الفترة انتصرت حركات التحرر الوطني في العالم على الامبريالية في نيكاراغوا وحتى انغولا واثيوبيا ، كما ساد اعتقاد راسخ بانتصار الاشتراكية على الرأسمالية التي دخلت ، حسب المفهوم الماركسي اللينيني ، آخر مراحلها التاريخية .
ولكن رغم تحديد مهمة تولي الطبقة العاملة قيادة الحركة الوطنية ، فقد وقع في وثيقة الجبهة خلل برنامجي جوهري في تشخيص طبيعة التحالف الوطني المطلوب . وبدل ان تعتبر الوثيقة الطبقة العاملة والفلاحين عناصر التحالف الوطني العريض ، فقد حددت " ان البرجوازية يمكن وينبغي ان تبقى جزءا من التحالف الوطني " ( الحرية 163 ) ، وذلك عندما طرحت السؤال :
" هل يعني هذا ان الثورة العربية في مرحلتها الراهنة قد فقدت سمتها الوطنية الديمقراطية وان التحالف مع البرجوازية الوطنية لم يعد ضروريا واصبح مطلوبا فكه والاستغناء عنه ؟ الجواب هو ايضا كلا . ولكن انفرادها بموقع القيادة في هذا التحالف لم يعد ينسجم مع المتطلبات الموضوعية لنهوض وتقدم حركة التحرر والثورة الوطنية الديمقراطية ، وهذا هو بالضبط ما عنيناه بتفاقم ازمة القيادة البرجوازية لحركة التحرر الوطني العربية " . ( الحرية 163 ) ان المهمة الاستراتيجية التي حددتها الجبهة الديمقراطية لنفسها لم تتحقق لانها لم تكن واقعية . ويتضح انه فيما يتعلق بالموقف من البرجوازية الفلسطينية ، وقعت الجبهة في نفس الخطأ الذي حذرت منه اليسار العربي مرارا . وقد لجأت الوثيقة الى اختراع ذهني لم يكن سوى انحراف عن الماركسية اللينينية عندما حددت نوعين من التناقضات : التناقض الرئيسي بين الشعب ( بكل طبقاته بما فيه الطبقة العاملة والبرجوازية ) من جهة اخرى ، والتناقض الثانوي بين الطبقة العاملة والبرجوازية داخل الشعب الفلسطيني نفسه .
والحقيقة ان المصلحة المشتركة بين طبقات الشعب في مواجهة الاضهاد كانت موجودة دائما . فالبرجوازية الفرنسية مثلا ، نجحت في اسقاط النظام الاقطاعي بفضل مشاركة العمال والفقراء ، وكذا كان الوضع في روسيا . ولكن ماركس ولينين حذرا العمال دائما من هذا التعاون مع البرجوازية لانها لا تتوانى عن ذبح العمال بعد ان اوصلوها للسلطة على اكتافهم ، لمجرد مطالبتهم بحقوقهم . والنماذج العربية على ذلك عديدة ، منها مافعله نظام محمد نجيب بعمال مصر بعد انتهاء ثورة الضباط الاحرار في 1952 ، وحزب البعث العراقي بعد استلامه مقاليد الحكم .
في كتابه " خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية " لخص لينين موقفه من مسألة التحالفات في مرحلة الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا على خلفية تجربة ثورة 1905. وحدد ان البرجوازية ليست حليفا للطبقة العاملة ، واعتبر الفلاحين الاجراء حلفائها الاستراتيجيين في الثورة الديمقراطية .
نموذج آخر في الاتجاه نفسه نجده في تحديد الحزب الشيوعي الفيتنامي مهمات ثورته الوطنية ضد الاستعنار الفرنسي ، في البرنامج الاساسي للحزب عام 1930 : " القيام بثورة برجوازية ديمقراطية تشمل كذلك الثورة الزراعية ، وذلك بغية قلب الامبرياليين الفرنسيين والحكام الاقطاعيين ، وتحقيق الاستقلال الكامل وقيادة فيتنام نحو الاشتراكية والشيوعية . وكان من الضروري لضمان نجاح هذا الخط السياسي تأسيس حزب الطبقة العاملة ، وانشاء جيش عمالي وفلاحي ، واقامة تحالف عمالي فلاحي ، وخلق جبهة وطنية متحدة ... وثمة ترابط وثيق بين النضال المعادي للامبريالية والنضال المعادي للاقطاعية ، فالقوى الرئيسية للثورة تتألف من الفلاحين والعمال ، وعلى الحزب ان يقيم التحالف العمالي والفلاحي ويستخدم العنف الثوري الجماهيري للقيام بالانتفاضة واستلام السلطة " . ( " موجز تاريخ حزب العمال الفيتنامي 1930 - 1970 " ، اصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1973 ) .
يتبين من هذا ان اجتهاد اليسار الفلسطيني للتوفيق بين مصالح البرجوازية الوطنية وبين مصالح الطبقة العاملة ، هو اختراع برنامجي ليس له ركيزة او سابقة في تاريخ الثورة الاشتراكية . فالحزب العمالي لايمكن ان يقود الطبقة البرجوازية لان البرجوازية ، ببساطة ، لا يمكن ان تقبل بأن تقودها الطبقة العاملة ، فهي مربوطة برأس المال الأجنبي ، ومصالحها الخاصة توجهها نحو التحالف مع الرجعية والاستعمار ضد الطبقة العاملة . هذا ماحدث مع البرجوازية المصرية والعراقية والسودانية ، واخيرا ايضا مع البرجوازية الفلسطينية التي دخلت فلك الاستعمار من ابواب اوسلو . ان استعداد اليسار العربي والفلسطيني ان يكون جزءا من حركة تحرر تقودها البرجوازية ، لايوازيه استعداد مماثل لدى البرجوازية . وقد اثبت التاريخ انه اذا كان على البرجوازية ان تختار بين الاخلاص لمصلحة الوطن او لمصلحتها الطبيقية ،فانها تختار مصالحها ، حتى لو تطلب ذلك التحالف مع معسكر العدو . وفي اتفاق اوسلو تحطمت الاسطورة التي نسجها اليسار وبالغ فيها حول الطبيعة الثورية للبرجوازية الفلسطينية . فقد التزمت هذه البرجوازية بعلاقات امنية واقتصادية مع الكيان الصهيوني هي اعمق واخطر من تلك التي التزم بها انور السادات الذي اتهمته وثيقة الجبهة المذكورة بالخيانة .

امراض اليسار العربي اصابت اليسار الفلسطيني

ان ماحدث مع الجبهة الديمقراطية في اعقاب اوسلو كان تعبيرا عن الخلل البرنامجي الوارد في تلك الوثيقة . ففي المرحلة الاولى التي اعقبت اتفاق اوسلو ، شنت الاحزاب اليسارية حملة واسعة لمقاطعة اوسلو والسلطة الفلسطينية ، وكان هدفها انقاذ القيادة البرجوازية من شرك اوسلو واعادتها للخندق الوطني . ولكن بعد فشلها الذريع بتحقيق هذا الهدف ، قررت الاعتراف باوسلو امرا واقعا ، وبدأت تدعو للوحدة الوطنية ، ولكن هذه المرة على اساس " تجاوز اوسلو " . وبدل محاربة السلطة البرجوازية الساعية للانخراط في المخطط الاستعماري وعزلها عن الجماهير ، بذل اليسار الفلسطيني جهوده في البحث عن قواسم وطنية مشتركة معها . هذا مع ان البرجوازية لم تلتزم يوما بهذه القواسم ، بل كانت بالنسبة لها مجرد وسيلة للتغطية على استسلامها للعدو ، وبالتالي إحكام سيطرتها على الجماهير . الوحدة الوطنية بين كافة طبقات الشعب خدمت مصالح البرجوازية ، وعرقلت امكانية اليسار تطبيق مهمته الاستراتيجية وطرح نفسه بديلا للبرجوازية الفاسدة .
ان النزعات اليمينية في اليسار العربي التي انتقدتها الجبهة بشدة في وثيقتها المذكورة ، قد اصابتها هي ايضا الآن . تقول الجبهة في وثيقتها : " ان الافكار والنظريات اليمينية والسياسات الذليلة في العلاقة مع البرجوازية الوطنية واسس التحالف معها ، وفي فهم دورها في الثورة الوطنية الديمقراطية ، شكلت على امتداد الفترة الماضية احدى العقبات الرئيسية على طريق اضطلاع الطبقة العاملة بدورها القيادي في حركة التحرر الوطني العربية ، واضعفت جناحها اليساري . انها عطلت انخراط احزاب الطبقة العاملة في نضال منهجي ودؤوب من اجل كسب الالتفاف الجماهيري حول سياساتها وبرامجها ، كبديل للنهج المتذبذب الذي سلكته القيادا البرجوازية ، ومن اجل احداث تغيير تراكمي في نسبة القوى الطبقية داخل الحركة الوطنية ، بما يسمح بتصدي الطبقة العاملة ، واليسار عموما ، لمهمة قيادتها .
" والاكثر من ذلك ان هذه الافكار والنظريات قد قادت الى ضياع عدد من الفرص الثمينة التي توفرت فيها فعلا موازين قوى تسمح بتقدم الطبقة العاملة لاحتلال موقعها القيادي ، والى الإحجام بقرار ذاتي عن المبادرة لارتياد الآفاق التي فتحتها تلك الفرص " . ( ص 188 - 189 )
فعلا ، كانت هناك فرص ثمينة ضاعت ، وكانت آخرها الانتفاضة المجيدة في المناطق المحتلة ، والتي كان للجبهة الديمقراطية الدور الريادي في تفجيرها من خلال اول بيان للقيادة الوطنية الموحدة . ولكنها بدل ان تستغل الفرصة التاريخية لشق طريقها المستقل في قيادة الشعب الفلسطيني وعزل البرجوازية الفلسطينية ، استمرت الجبهة بالتزامها المطلق بالوحدة الوطنية مع حركة فتح ، حتى بعد اعلان عرفات تنازله عن الميثاق الوطني وبدء الحوار مع امريكا .
وسرعان ما تحولت القيادة الموحدة للانتفاضة الى اداة بيد البرجوازية الفاسدة في تونس ، استخدمتها لتحدقيق اهدافها الطبقية الخاصة ، على حساب الطبقة العاملة الفلسطينية والجماهير اللاجئة .
ان البرهان على فشل السياسة التي اتبعتها الجبهة هو الانشقاق العميق الذي وقع في صفوفها في اواخر عام 1988 . وكانت هذه عبارة عن الثمن الذي دفعته على تسليمها مقاليد الانتفاضة لعرفات بدل عزل نفوذه بين الجماهير ، فمكّنته بذلك من ضربها واحداث انشقاق عميق داخلها .
ان المفارقة التاريخية هي ان الانتفاضة التي تعتبر اكبر انفجار ثوري قام به الشعب الفلسطيني في تاريخه ، والتي كان المفروض ان تكون القاعدة لتنبؤ حزب الطبقة العاملة مركزه القيادي في حركة التحرر ، تحولت الى حافز للانشقاق الداخلي وبداية النهاية لنفوذ اليسار بين الجماهير .
يعود السبب الرئيسي لهذا التراجع الى موقف الجبهة المائع من البرجوازية ، والذي افسح المجال واسعا لتغلغل الموقف البرجوازي الاستسلامي حتى وصل الى اعلى هيئاتها القيادية ، ودفع بالكثير من كوادرها القيادية الى معسكر عرفات .
ولا يمكن بالطبع تجاهل الظروف الموضوعية التي ساعدت البرجوازية في نشر نفوذها بين الجماهير وفي صفوف اليسار . فمما لا شك فيه ان التراجع الكبير الذي طرأ على الاتحاد السوفيتي مع صعود ميخائيل غورباتشوف للحكم ، وما تبعه من انهيار المعسكر الاشتراكي وانفراد امريكا بحكم العالم ، كانا من العوامل القوية التي دفعت العناصر اليمينية الانتهازية داخل الجبهة للانشقاق عن التنظيم .
غير ان النفوذ الكبير الذي كان لهذه العناصر داخل التنظيم لم يكن وليد الصدفة ، ولا تشكل بين ليلة وضحاها ، بل جاء بفعل سنوا طويلة من تعاون الجبهة المطلق مع البرجوازية الوطنية الفلسطينية في اطار منظمة التحرير الفلسطينية . وفي حين كان اليسار غارفا في اعتقاده الوهمي بان البرجوازية الفلسطينية لايمكن ان تخون برنامجها الوطني ، كانت البرجوازية منهمكة بالتخطيط لشق اليسار حفاظا على موقعها القيادي .
يمكن الاستنتاج بان مهمة الجبهة الاستراتيجية التي دعت الى تولي الطبقة العاملة قيادة حركة التحرر الوطني بالتعاون مع البرجوازية الوطنية ، كانت في الحقيقة محاولة للتهرب من مواجهة هذه البرجوازية . ان اغتيالات قادة بارزين في منظمة التحرير الفلسطينية اثناء الثورة ، والنظام القمعي الذي اسسته السلطة الفلسطينية لاحقا في المناطق المحتلة بالتعاون مع اسرائيل بعد اوسلو ، تبطل اية امكانية لبناء حركة تحرر مشتركة بين الطبقة العاملة والبرجوازية الخائنة التي لا تختلف بطبيعتها عن البرجوازية العربية .
والسؤال اليوم بعد ان انتقلت البرجوازية الفلسطينية الى خندق العدو كغيرها من الانظمة العربية ، اين يقف اليسار الفلسطيني وماهو برنامجه الاستراتيجي ؟ وهل مازال متمسكا بمهمته الرئيسية المتعلقة بقيادة حركة التحرر ؟ ويبدو ان هذه الاسئلة لا تستوقف اليسار اصلا ، وكل ما يفعله اليوم هو الانهماك في لقاءات الحوار الوطني مع السلطة لاقنعها بالتراجع عن التزامها باتفاقات اوسلو .
اما فيما يتعلق بعلاقة اليسار بالسلطة ، فيلخصها احد الرموز البارزة في الجبهة الديمقراطية بالقول التالي : " ليس ثمة في صفوف المعارضة من يطرح ، او ينوي ، او يدعو الى ، اقامة سلطة بديلة او سلطة موازية . وبهذا المعنى ، فان الاقرار بوحدانية السلطة قائم ومفروغ منه . اما ان تُطالب المعارضة ، اشتقاقا من ذلك ، باحترام الالتزامات المجحفة المُملاة على السلطة بموجب الاتفاقات ، فان هذا يعني افراغ المعارضة من مضمونها ". ( صحيفة " المسار " ، اواسط نيسان 1999 )
هنا اذن بيت القصيد . فقد تنازل اليسار تماما عن طرحه ، او حتى نيته استبدال البرجوازية ، وينحصر كل مطلبه في الاعتراف بنشاطه كمعارضة سلمية تعبر عن رأيها دون ان تمسّ بشرعية السلطة .
والخلاصة انه مثلما حذت البرجوازية الفلسطينية حذو مثيلاتها في العالم العربي ، وتحولت الى نظام فاسد وقمعي كبقية الانظمة العربية ، دخل اليسار الفلسطيني ايضا في نفس المحنة التي حذّر منها اليسار العربي سابقا ، وتحول بذلك الى جزء لا يتجزأ من ازمة اليسار المستفحلة .