خليل كلفت .. كيف تحمّل الجسد الضئيل كل كل ذلك العناء؟


رياض حسن محرم
2015 / 11 / 12 - 07:07     

لعله آثر الرحيل فى هدوء
بلا وداع
حتى نظن أنه غفا
أو أنه سيعود
فى إبتسامة طفل
أو زهرة حمراء

إلتقيته أول مرّة عام 1968 فى قرية كمشيش فى ذكرى شهيد الفلاحين "صلاح حسين" حيث كنا نذهب الى هناك الى هناك "بعد رحلة محفوفة بالمخاطر" مساء 29 إبريل ونقضى الليل فى ضيافة الفلاحين حيث تعقد ندوة صباحية فى اليوم التالى "تقدم فيها بعض الأوراق حول المشكلات الزراعية" وفى المساء يعقد المؤتمرالشامل الذى تقدم فيه أشعار الأبنودى ونجم وسيد حجاب وعبد الصبور منير ويشدو فيه الشيخ إمام وعزة وكثير من الفقرات الفنية والثقافية، إهتم خليل كثيرا بالورقة التى أعددتها فى الصباح وإستمر فى مناقشتى حولها طويلا بإبتسامته الودودة المتسامحة، ولكننى كنت أرقبه طول الوقت بإستغراب لصغر جسمه الذى أعطاه طابعا طفوليا، بعدها إلتقيت به كثيرا بالأسكندرية حيث كان يتردد عليها ويهتم بالمجموعة اليسارية من الشبان التى بدأت تتشكل، وكنا نسهر معا حتى الصباح فى مناقشتات لا تنقطع "أذكر منهم جمال عبد الفتاح وحسن عقل ومراد منير وآخرين"، وقد كان مستمعا جيدا لا يمل، ولكنه كان عنيدا جدا فى الدفاع عن أفكاره، بعدها إبتعد خليل كثيرا وعرفت فيما بعد أنه كان يحضّر لعمل عظيم مع آخرين بالأسكندرية.
أحدثت هزيمة 1967 زلزالا صاعقا لكل المصريين ورغم خروجهم الغاضب فى 9 و10 يونيو رافضين للتنحى إلاّ أن جرحا عميقا أصاب قلوبهم بنزيف مازالت آثاره تتداعى حتى الآن، منذاك بدأت موجات الغصب والتمرد تتداعى بين الشباب وعلى رأسهم ذلك المنضم لمنظمة الشباب الإشتراكى المؤمنين بالثورة وعبد الناصر فكان خروجهم الكبير فى فبراير 1968 إحتجاجا صريحا على ما عرف بأحكام الطيران وشارك فى تلك الهبة عمال حلوان وشبرا الخيمة وطلاب الجامعات، ورغم المواجهات الأمنية فقد حاول عبد الناصر إستيعاب غضب الشباب وأصدر بيان 30 مارس الذى يسمح فيه بحجم ضئيل من الحريات وأطلق جملته الشهيرة " عندما يختلف الشباب مع الثورة فالشباب على حق"، فى ذلك الحين بدأ تشكيل بعض المجموعات الماركسية الضيقة معلنة بداية حلقة جديدة من العمل الشيوعى وذلك بعد حوالى عامين من حل الحزب والتقت بعص هذه الحلقات الصغيرة معلنة عن بدايات جنينية لتشكيل تنظيمات شيوعية، حينها تم حوار بين "مجموعة الشروق" التى شكلها نبيل الهلالى و"مجموعة الإنتصار" التى كونها زكى مراد ومجموعة من الشباب اليسارى بمنظمة الشباب مكونين معا نواة ما عرف فيما بعد بالحزب الشيوعى المصرى، وفى الجانب الآخر إلتقت مجموعة صغيرة تسمى " كتّاب الغد" أسسها إبراهيم فتحى منبثقة من "جاليرى 68" مع مجموعة صغيرة أخرى إسمها "خميس والبقرى" ملتفة حول خليل كلفت ومجموعة أكبر قليلا بالأسكندرية تعرف "بمجموعة باكوس" وعلى رأسها حسين شاهين وفتح الله محروس وعبد المنعم ناطورة وشارك معهم جمال عبد الفتاح (الطالب بكلية الصيدلة) مكوّنين ما عرف فيما بعد باسم حزب العمال الشيوعى المصرى.
ولد خليل كلفت فى قرية " بلانة" بمنطقة النوبة فى ابريل 1941 وأتم دراسته الإبتدائية والثانوية بمدرسة القرية ثم توجه الى القاهرة للدراسة بكلية التجارة لكنه لم يلبث أن غادر الجامعة بعد عام واحد متجها الى العمل الأدبى والسياسى فى مرحلة الستينات الخصيبة أسوة بالشاعرين الكبيرين عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل الذين تركا الدراسة بالجامعة أيضا لنفس السبب، وإضطرته الظروف للعمل فى وزارة الثقافة لمدة 7 سنوات (1962 – 1969) بمؤسسة المسرح وبعدها إنتقل للعمل بدار إلياس للطباعة فى مجال وضع المعاجم اللغوية وقد يكون ذلك سبب تعلقه بالترجمة فيما بعد وإهتمامه بأصول اللغة حيث عاد للكتابة فى مجال اللغة بعد توقفه عن العمل الحزبى التنظيمى فأصدر عام 1989 كتابه " معجم تصريف الأفعال العربية" بعد أن قام بتأليف " معجم تصريف أفعال لهجة القاهرة" وأصدر فى 2009 كتابه " من أجل نحو عربى جديد" و " الإذدواج اللغوى فى العالم العربى" متوسلا بالدكتور لويس عوض الذى كتب "فقه اللغة"، وقام بترجمة عدة أعمال أدبية من الإسبانية والإنجليزية والفرنسية مع بعض الزملاء الذين لم يكن لهم تاريخ يذكر فى علوم الترجمة كمحمد إبراهيم مبروك وحسن بيومى وأحمد الشافعى وبشير السباعى، ويذكر أن الراحل كانت له محاولات لكتابة حروف للغة النوبية وتحويلها من لغة شفاهية الى لغة مكتوبة ولكنه إنصرف عن هذا المشروع لقناعته أن مصر ليست فى حاجة الى التمايز القومى بقدر حاجتها للتوحد الوطنى.
تفتح وعيه السياسى والأدبى فى الستينات حيث كانت التربة خصبة لظهور عديد من الحركات الثقافية والسياسية فيما عرف بجيل الستينات وإنحاز بشكل كامل للفكر الماركسى فى أعقاب الهزيمة وإندمج فى العمل السياسى وظل مخلصا للشيوعية وفارسا أصيلا من فرسانها حتى آخر أيامه، وإنشغل لسنوات طويلة فى العمل السرى وكان له الفضل فى تشكيل وقيادة حزب العمال الشيوعى بعد أن أسهب فى الكتابة المتعمقة حول موضوعات نظرية وعملية فى مطبوعتى الإنتفاض وشيوعى مصرى مستكملا ومعمقا كتابات إبراهيم فتحى حول طبيعة السلطة، بعدها شكلا معا "تنظيم شيوعى مصرى" المعروف إختصارا باسم "تشم" الذى تطور فيما بعد الى حزب العمال الشيوعى المصرى الذى لعب دورا قياديا ومؤثرا فى الجامعات المصرية وخصوصا قبل حرب 1973، وتم فى 1973 توجيه ضربة أمنية شديدة الى ذلك التنظيم الوليد والقبض على قياداته الرئيسية ووضعهم تحت الحراسة المشددة فى قسم التأديب المعزول بسجن الحضرة بالأسكندرية، وقتها كنّا بنفس السجن مع مجموعة من طلاب جامعة الأسكندرية منهم حسن خليل وعزيز تعلب وحسنى عبد الرحيم وحمدى أبوكيلة ومحمد خميس وآخرين حيث فشلنا فى الإتصال بهم داخل السجن وذلك للتشديد الأمنى، وبعد أن تم الإفراج عنّا فى أغسطس 73 عدنا للسجن مرّة أخرى فى أوائل 74 مع رفاق آخرين وإستطعنا هذه المرّة أن نتواصل معهم بعد أن خففت عليهم الحراسة وتم نقلهم الى عنابر الجنائيين حيث تمت لقاءات كثيرة بيننا وبين هؤلاء القادة التارخيين وكان من بينهم إبراهيم فتحى وسعيد العليمى وخليل كلفت وحسين شاهين وعبد الفتاح مرسى وسعيد حفنى وغيرهم حيث أفرج عنا بعد شهور وتم الإفراج عن تلك المجموعة فى عام 1975 بعد أن قضوا بالسجن 22 شهرا.
أسهب خليل كلفت فى الكتابة السياسية العميقة وتناول كثير من القضايا التى كانت ما تزال فى حاجة الى مزيد من الشروحات فى أعداد منشور" الإنتفاض" الذى كان يصدره حزب العمال وذلك تحت إسم حركى هو " صالح محمد صالح" فكتب فى المسألة القومية وأعاد تناول قضية "نمط الإنتاج الآسيوى" التى أشار اليها ماركس ولم يتوسع فيها كثيرا بالشرح المطول فوضع لها كلفت إطارا نظريا وتمهيدا سياسيا كما كتب بحثا هاما تحت عنوان " الإقطاع والرأسمالية الزراعية فى مصر من عهد محمد على الى عهد عبد الناصر" والذى تم ترجمته الى اليابانية فيما بعد.

فى نهايات السبعينات وخصوصا بعد إنتفاضة يناير 1977بدأ حزب العمال الشيوعى "والحركة الشيوعية عموما" فى التفكك والإضمحلال حيث شهد الحزب عدة تكتلات وإنشقاقات كان أهمها تكتل الرفيق بشير وبدأت هجرة الرفاق من الحزب وتلا ذلك إستقالة المسؤول السياسى خليل كلفت عام 1982 إثر خلاف على تحليل الإجتياح الإسرائيلى للبنان وموقف المقاومة، بعدها إستمر فى نشرأفكاره بمجلة "الطريق" وجريدتى الأهرام والمساء وغيرها من المطبوعات وأصدر مجموعة كبيرة من الكتب وساهم فى ترجمة العديد من الأعمال الأدبية والثورية حيث أعاد تقديم كثير من الأدباء اللاتينيين الى القارئ العربى وتعمق فى الكتابة حول اللغة.
غاب عنّا ذلك الفارس النبيل وأخذ معه إبتسامته الجذابة وتواضعه الجم تاركا فراغا كبيرا لن يستطيع غيره أن يملأه ... وداعا أبو هند الرفيق والمعلم خليل كلفت.