نمط الإنتاج الرأسمالي: نهاية الهيمنة الأمريكية


زكرياء بغور
2015 / 11 / 11 - 06:38     

من الناذر جدا أن نجد مُنظِّرا في أحد حقول المعرفة يتنبأ بوقوع حدث معين في المستقبل، لكن حينما يحدث ذلك فما علينا إلا الوقوف عنده وقفة متمعنة و فاحصة. يعتبر كارل ماركس أحد الأمثلة الناذرة على ذلك، و من هنا ستكون نقطة انطلاقي. آمن ماركس بأن نمط الإنتاج الرأسمالي نمط مآله السقوط لا محالة و ذلك باعتباره نمط إنتاج تشوبه التناقضات و الإختلالات و قد تطرق إليها بإمعان و تدقيق شديدين في "رأس المال: نقد الإقتصاد السياسي". لاحظ كارل ماركس أن نمط الإنتاج الرأسمالي يهدف إلى الربح دون أي اعتبارات إنسانية أو أخلاقية و بالتالي فإنه نمط إنتاج مجحف يمحق الطبقة العاملة و يؤسس لهيمنة ملاك وسائل الإنتاج على حساب البروليتاريا و بالتالي هيمنة رأس المال في مقابل العمل. نتيجة ذلك ستكون وخيمة على ملاك وسائل الإنتاج حيث سوف تُقلب علاقات الإنتاج و بالتالي العلاقات القائمة داخل المجتمع بثورة يقودها اتحاد العمال و الفلاحين، فالتاريخ البشري في نظر ماركس عبارة عن مجموعة من الصراعات الطبقية التي تؤدي في نهاية كل حقبة إلى قلب علاقات الإنتاج و الأدلة على ذلك لا تعد و لا تحصى.
يبدو هذا التحليل جيدا و منطقيا إلى حد كبير. لكن هل كان كارل ماركس على حق في استنتاجاته؟ قد نجيب ب "نعم" لكننا حينها لن نقدم إلا نصف الإجابة. صحيح أن ما تنبأ به ماركس حدث فعلا فقد أشعلت البروليتاريا في روسيا الإتحادية فتيل ثورة أدت إلى إعدام القيصر و تأسيس أول دولة تبنت نمط الإنتاج الإشتراكي و هي الإتحاد السوفياتي الذي ظل صامدا لما يقارب الثمانين سنة بل و تمكن من مجابهة قوى رأسمالية عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية لنصف قرن كما قاد ماو تسي تونغ ثورة اشتراكية بالصين كللت بإحلال نمط الإنتاج الإشتراكي. لكن نصف الإجابة الثاني يعد الأكثر أهمية و هو ما سيوضح لنا أين أخفق ماركس في استنتاجاته.
لعل أهم ملاحظة ستتبادر إلى ذهنك إن كنت مطلعا بشكل كبير على النظرية الماركسية أن هذه الأخيرة عجزت عن تجاوز الإطار الزمني الذي وجدت فيه رغم كونها من الأهمية بما كان، فقد عرف العالم تحولات عظيمة و متسارعة خلال القرن العشرين تجاوزت الفكر الماركسي بشكل واضح. شملت هذه التحولات العديد من المجالات كالسياسة و العلوم و شملت أيضا بنية الإقتصاد الرأسمالي. لم يتوقع كارل ماركس و لا صديقه فردريك أنجلس ظهور الرأسمالية المالية كما لم يتوقعوا تطور الرأسمالية إلى مرحلة العولمة و اقتصاد السوق و ظهور الليبرالية المحدثة، و هو ما يدعونا إلى مقاربة نمط الإنتاج الرأسمالي من منظور جديد يأخذ بعين الإعتبار العديد من المعطيات التي تقدم نفسها بشكل جلي خلال الحقبة المعاصرة.
حققت الأنظمة الرأسمالية إنجازات "عظيمة" في صراعها من أجل قمع الحركات العمالية خلال القرن الماضي كما وصلت إلى مستوى من الإزدهار لم تعرف له مثيلا من قبل توِّج بانتصار ساحق على الإتحاد السوفياتي و تأسيس النظام العالمي الجديد بقيادة أمريكا حاملة لواء الفكر الليبرالي الرأسمالي، لكن يبدو أن كل ذلك كان له انعكاسات سلبية على بنية نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يبدو أنه على شفى حفرة من السقوط إلى هاوية لا نهاية لها. عديدة هي المعطيات التي تدعونا للإعتقاد بقرب انهيار الرأسمالية و التي سنلخلصها في ثلاثة عوامل محورية:
أولا: تبعات الثورة التكنولوجية المتمثلة في تفوق عنصر العمل على رأس المال.
ثانيا: انخفاض الفائض القادم من دول الجنوب مقارنة برأس المال الذي يضخ بها.
ثالثا: تراجع الإقتصاد الأمريكي الذي بات يعتمد على اقتصادات الإتحاد الأروبي و اليابان و يعجز عن منافستها في عديد المجالات الحيوية.
ستقدم الأسطر الموالية تحليلا منطقيا للأسباب التي دفعتنا للإعتقاد بقرب انهيار نمط الإنتاج الرأسمالي في ظل العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه.
أولا، تعبر الثورة التكنولوجية التي نعيشها حاليا عن نفسها بواقع أن نسبة كبيرة من الإنتاج المادي يمكن الحصول عليها بعمل أقل و أكثر تخصصا و مهارة، و برأس مال أقل، و بالتالي فإن نمط الإنتاج الرأسمالي المتأسس على هيمنة رأس المال على العمل قد استنفذ دوره التاريخي، فعلاقات الإنتاج الرأسمالية لم تعد قادرة على مراكمة الثروة المادية، فأصبحت تشكل عائقا أمام المجتمعات في سبيل إنتاج ثروتها المادية. هنا تأتي الحاجة إلى علاقات إنتاج جديدة قادرة على خلق الثروة الأمر الذي يبرز الدور التاريخي لنمط الإنتاج الإشتراكي باعتبار القادر على تأسيس علاقات إنتاج تمكن المجتمعات البشرية من مراكمة الثروة المادية. لا تتجلى أهمية نمط الإنتاج الإشتراكي فقط في تصحيح خارطة توزيع الدخل في صالح العمل (توزيع الثروة) كما يعتقد الكثيرون بل في قدرته على توفير وسائل إنتاج تلك الثروة و هو الأمر الأكثر أهمية. استنتاجنا هنا هو أن نمط الإنتاج الرأسمالي بدأ يفقد أهم مرتكزاته الأمر الذي سيدفعه نحو الإنهيار مع انتهاء المهمة التاريخية لعلاقات الإنتاج التي تتأسس في إطاره
ثانيا، لم تعد امبريالية الدول الرأسمالية الكبرى، و بالأخص الثالوث (أمريكا، الإتحاد الأروبي، اليابان) تلعب نفس الدور الذي كانت تلعبه سابقا في علاقتها بدول الأطراف فدول الثالوث لم تعد قادرة على متابعة التطور الرأسمالي لدول "الجنوب". سابقا، كانت تلك الدول قادرة على التحكم بالرساميل المصدرة للجنوب فكانت تلعب دورا نشيطا يكيف تطورها بشكل يمكن تسميته بالتابع و اللامتكافئ، و قد كانت الرساميل المصدرة تسمح بامتصاص الفائض الناتج عن استغلال العمل المضاعف فكانت الأرباح تفوق نسبة رأس المال المتدفق. لقد أصبحت دول الجنوب تقاوم بشكل أو بآخر محاولات الإستنزاف الخارجية حيث تدفع نحو استقلالية من خلال استثمارات محلية كما حدث للشركات التي يحتويها هولدينغ "أونا" بشمال أفريقا التي بدأت تتحرر من قبضة الإقتصاد الفرنسي شيئا فشيئا منذ مطلع القرن الحالي حتى تخلصت من الهيمنة الفرنسية بشكل شبه كلي و هو ما أدى إلى توتر العلاقات بين المغرب و فرنسا لمدة ليست بالهينةالأمر ذاته ينطبق على كل من كوريا الشمالية و البرازيل و هو ما دفع أمريكا إلى محاولة التدارك باعتماد الخيار العسكري تارة و خيار المديونية تارة أخرى. صارت دول الشمال تبرر هذا التراجع باستعمال خطاب ثقافوي جديد يسمى ما بعد حداثي لتداري حقيقة مفادها أن نمط الإنتاج الرأسمالي قد بات يعيش مرحلة خريفه.. مرحلة يطبعها الإنكماش عوض التوسع.
ثالثا، يبدو أن القوة الإقتصادية الأمريكية ليست إلا واجهة لحقيقة مغايرة تماما لما يعتقده معظم العامة فمعاينة الحقاق الإقتصادية توضح ذلك بشكل جلي. ليس النظام الإنتاجي للولايات المتحدة الأكثر فعالية إطلاقا. لا يستطيع أي قطاع ضمن هذ النظام التفوق على منافسيه و الشاهد على ذلك العجز التجاري للولايات المتحدة الذي يتفاقم حيث انتقل من 100 مليار دولار سنة 1989 إلى 450 مليار دولار سنة 2000، و هذ العجز يشمل أيضا كل قطاعات النظام الإنتاجي الأمريكي، بل إن الفائض في مجال الخبرات العالية التقانة الذي كانت تتمتع به الولايات المتحدة و الذي كان بقيمة 35 مليار دولار سنة 1990 تراجع ليصبح عجزا. إضافة إلى ذلك نشهد تفوقا لليابان في مجال الصناعات التكنولوجية و تفوقا للصين و كوريا في مجال المنتوجات المصنعة العادية، و يبدو أن الولايات المتحدة لا تتمتع بمزايا مقارنة ثابثة إلا في مجال صناعة الأسلحة الذي تدعمه الدولة مما يخلق فجوة في النظام الإنتاجي الأمريكي.
تغطي أمريكا هذا العجز الواضح بوسائل ملتوية كالإستيلاء على نسبة 60% من صادرات الأسلحة في السوق العالمية و الإستحواذ على احتياطات الدول من النفط بطرق مختلفة. الأهم من ذلك أن هذا العجز يغطى بمساهمات مرسملة من الإتحاد الأروبي و اليابان و مساهمات أخرى من دول الجنوب بشكل إجباري على شكل ديون تفرض في غالب الأحيان. مساهمات اليابان و الإتحاد الأروبي يقابلها دعم عسكري أمريكي للمصالح المشتركة فلا نكاد نسمع عن حرب في منطقة معينة إلا و نجد أن الولايات المتحدة لها شأن بها بل إن أمريكا تدفع نحو إخضاع حلافائها أيضا لمصالحها الخاصة من خلال حضورها القوي عسكريا. يوضح لنا هذا أن الأسطورة الأمريكية لم تعد تتمسك إلا بخيط رفيع يكاد ينقطع ليجر وراءه البقية الباقية من أنقاض نمط إنتاج متهالك على وشك السقوط.
في حقيقة الأمر، ليست الأزمة البنيوية التي يعيشها نمط الإنتاج الرأسمالي مرحلة انتقالية قابلة للتجاوز عن طريق توسع معولم جديد. إنها مؤشر على تداعي الرأسمالية و منه ضرورة تبني نمط الإنتاج الإشتراكي كضرورة موضوعية للمجتمعات البشرية.