وداعاً خليل كلفت..اﻷب الروحي للروائع اللاتينية

سميرة سليمان
2015 / 11 / 10 - 08:44     


رحل عن عالمنا المثقف والناقد والمترجم والناشط اليساري خليل كلفت، ولد في النوبة بأسوان في مصر في 9 أبريل 1941، وأجرى عملية زراعة الكبد في 27 إپريل 2007 في إيطاليا، لإصابة الكبد بسرطان،

نعت ورشة الزيتون في بيان لها الراحل ووصفته بأنه كان مثقفا ومناضلا وكاتبا وناقدا ومترجما مصريا بارزا ،استطاع أن يقدم نموذجا ناصع النقاء فى العطاء الفكرى والسياسى والأدبى على مدى نصف قرن.

يواصل البيان: بدأ حياته منذ منتصف الستينيات مع كوكبة اليسار المصرى وشارك فى إثراء المشهد النقدى آنذاك، عبر مقالاته ودراساته الأدبية التي كان ينشرها فى مجلتي جاليري 68 المصرية، والآداب الييروتية، بالإضافة لجريدة المساء، وقد كتب عن الشعراء خليل حاوى وعبد الوهاب البياتى وشعراء المقاومة ومحمد ابراهيم أبوسنة، وكتب سلسلة مقالات يردّ فيها على أدونيس وغالى شكري وآخرين تحت عنوان “حملة مشبوهة ضد شعر المقاومة”، وغير ذلك من مقالات وأبحاث ،جمع معظمها ونشرها في كتابه “خطوات في النقد الأدبي”.

بعدها انخرط خليل كلفت مع رفاقه في تأسيس التنظيم الشيوعي المصري في 8 ديسمبر 1969 بالتحديد، والذي تحول اسمه بعد ذلك إلى “حزب العمال الشيوعي المصري”، وكان خليل كلفت الذي كان يحمل اسم “صالح محمد صالح” راس حربة فى الحزب، وكتب عددا هائلا من الكتب والدراسات النظرية السياسية تحت هذا الاسم الحزبي.

يضيف: للراحل الكبير مئات المقالات التي كان ينشرها فى جريدة “الانتفاضة” و”الشيوعى المصرى”، تلك المقالات والدراسات التى لم تشهد النور حتى الآن، ولكن بعضها نشر بشكل أوسع نسبيا بعد اختلافه مع الحزب فى عام 1982 ، لموقفه الواضح من الاجتاح الإسرائيلى لجنوب لبنان، وكان يرى فى ذلك الوقت عدول المقاومة عن الاستمرار فى القتال، فكتب ورقة شهير باسمه الحقيقي تحت عنوان “الكارثة الفلسطينية”،بعدها صدرت سلسلة مطبوعات تحت عنوان “الطريق”، ،لتنشر بعضا من جهوده النظرية في المسألة القومية وغيرها، وبعد ذلك اتجه بكليّته إلى عالم الترجمة من اللغتين الانجليزية والفرنسية ،وترجم أعمالا أدبية للبرازيلى ماشادو ده أسيس فى رائعته “دون كازمورّو”،ثم روايته القصيرة “السرايا الخضراء”،ثم ترجم له عددا كبيرا من القصص القصيرة، بالإضافة لكتاب يورى كاريكين عن ديستوفيسكى ,وكذلك ترجماته للشاعر بورخيس تحت عنوان “مختارات الميتافيزسقا والفانتازيا”،وتتعدد ترجماته مالا يتسع المجال لحصرها.

وترجم عددا كبيرا فى الشأن الفكرى والسياسى ،كما أنشأ كثيرا من القواميس والمعاجم التى نشرت كاملة فى دار الياس العصرية ،وله جهود بالغة الأهمية فى تجديد النحو العربى .

واعتبر بيان الورشة رحيل كلفت خسارة ﻷحد اﻷعلام الكبار الذى أثرى المكتبة والحياة المصرية والعربية بكل ماهو ثمين وخالد.

عرف الوسط الثقافي خليل كلفت الكاتب والمترجم والإنسان،الذي لا تتوقف قيمة ما أعطاه وأنتجه وأنجزه عند ترجمته الراقية لإبداعات يودقيس العظيم، أو لاكتشافه للكاتب البرازيلى الأول ما شادوده اسيس في رائعتيه “دون كازمورو”، و”السرايا الخضراء”، أو قصصه القصيرة، ويعتبر ماشادوده اسيس عميد الأدب البرازيلى بلا منازع، وهو الأب الروحى لكافة الإبداعات البرازيلية الحديثة، ولا تتوقف ترجمات كلفت من اللغتين “الإنجليزية والفرنسية” عند حدود الأدب فقط بل تتعداها إلى إبداعات سياسية وفكرية لها حضور عالمي وحى ومشارك في تشكيل وصياغة اتجاهات الفكر السياسى العالمي، وزيادة على ذلك فخليل كلفت قد انشأ عددا من القواميس والمعاجم اللغوية المهمة، والتي لا غنى عنه لأى باحث، أشهرها “إلياس- هاراب التجاري، ومعجم تصريف الأفعال، وغيرها”، صدرت جميعها عن دار إلياس المتخصصة في هذا المجال، ويعتبر خليل كلفت في المجال اللغوي - عموماً - حجة قوية، وإسهاماته العديدة في هذا الأمر ترشحه لذلك، وقد نشرها في مجلات “قضايا فكرية، وابن عروس”، وهي دراسات عن الإزدواج اللغوي بين الفصحى والعامية، وتجدد النحو وتطويره، وتخليصه من كافة المعوقات التي تعرقل تطور ونمو اللغة ذاتها، ويجعلها متأخرة عن كل اللغات الأخرى الحية.

يضاف إلى ذلك أن خليل كلفت بدأ حياته ناقدا حصيفا وواعيا، ونشر دراساته ومقالاته في جريدة المساء، التي كانت تصدر صفحة شبه يومية، وكان يشرف عليها الراحل الكبير عبد الفتاح الجمل، وكتب خليل عن الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي مجموعة مقالات صدرت في كتاب مستقل بعد ذلك في السبعينيات، وكتب عن الشاعر الفلسطيني توفيق زيادة وبشر بأدباء المجلة وكتب مقالا كبيرا عنهم، قبل أن يصبحوا كتابا كبارا، أبرزهم سعيد الكفراوي وجار النبي الحلو.

خاض معركة أدبية أحدثت دويا كبيرا في أواخر الستينيات مع الكاتب الأردنى الجنسية، غالب هلسا، ونشر أيضا خليل بعض دراساته وابداعاته الشعرية، والقصصية في مجلة جاليرى 68، وهو يعتبر أحد الأعمدة النقدية الكبيرة في ذلك الوقت.

كتب باسم مستعار عددا من الإبداعات السياسية أهمها “الإقطاع والرأسمالية الزراعية في مصر: في عهد محمد على إلى عهد عبدالناصر”، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اليابانية، ونقله الباحث اليابانى ايجى ناجاساوا، الذي ترجم أيضا سيرة عالم الاجتماع سيد عويس أيضا صدر لخليل دراسات أخرى عن أسلوب الإنتاج الآسيوي، والبورجوازية البيروقراطية، والقومية العربية”، وفى عام 1982 صدر له كتاب “الكارثة الفلسطينية”، منتقدا بعض الأفكار السياسية التي رآها آنذاك مدمرة للقوة الباقية للمقاومة، حصل على جائزة الكتاب الأورو-متوسطية الأولى في الترجمة في يناير 2007 .

الوالد والهجرة

عندما ولد خليل كلفت، لم يوثّق والده التاريخ بدقّة. “كان يتردّد في إصدار وثائق ميلاد لأولاده الذكور، خوفاً من أن يتخذوا قرارهم بالهجرة إلى القاهرة والفرار من أرض الذهب”. لا يرى خليل كلفت مخاوف والده دليلاً على موقف رجعي، بل يضعها في سياق تجربة الوالد نفسه الذي جاء أيضاً إلى القاهرة في العشرينيات، وعمل طباخاً ثم عاد إلى النوبة ومعه مئات الكتب التي ظل يقرأها الى أن وضع الابن على الدرب نفسه.

بدوره، جاء خليل كلفت الى القاهرة بعدما أنهى دراسة الثانوية العامة، للالتحاق بكلية التجارة بناءً على نصيحة شقيقه الأكبر محمد التاجر في باب اللوق. لكن خلافات فكرية دبّت بينهما جعلت خليل يمضي في مسار آخر، ويترك الجامعة بعد عام واحد، في خطوة يجد لها تبريراتها: “هذا السلوك كان طبيعياً للمنخرطين في الوسط الأدبي. الشاعران عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل فعلا الأمر نفسه”.

عمل الراحل 7 سنوات (1962-1969) موظفا بمؤسسة فنون المسرح والموسيقى، إلى أن استقال لعدم ميله إلى الوظائف الحكومية. عمل سنتيْن بدار الياس العصرية للطباعة والنشر في مجال وضع المعاجم أو ترجمتها (ثم عمل معها من المنزل بالتعاقد على أعمال بعينها طوال عقديْن من الزمان في نفس المجال)..

سُجن في السبعينيات على ذمة قضية لحزب العمال الشيوعى المصرى (1973-1975)، وعن ذلك يقول: “لم أعش في السجون والمعتقلات طويلاً، بل لم تتجاوز فترة سجني السنتين إلا شهرين. وكانت هناك فترات من الهرب من الشرطة السياسية. وأعتقد أن الثورات العربية الحالية حررت المثقفين في سياق تحرير الشعوب في علاقتهم بالسلطة. لقد صار المثقف أكثر تسييساً ورفضاً للسلطة القائمة، غير أن مصير الثورة والثورة المضادة هو الذي سيحسم الأمر في النهاية وربما بأشكال مختلفة في مختلف بلدان هذه الثورات. والسلطة في هذه البلدان لا تقوم الآن إلا بقتل البشر. عشرات الآلاف من البشر فى كل بلد، ومهمة السلطة (أيْ الثورة المضادة) الآن في هذه البلدان هي تصفية هذه الثورات بالقتل والاعتقال والتعذيب والترويع، وكذلك عن طريق استمالة وترويض المثقفين وإلحاقهم بركابها”.

يقول في أحد حواراته عن الفارق بين المترجم المبدع وغيره، أن المترجم المبدع ستكون ترجمته أكثر إبداعاً ومتعة بفضل وضوح وقوة تعبيرها والمستوى الراقي لأسلوبها الأدبي. في حين تكون ترجمة المترجم “العادي” عادية وضعيفة وغير دقيقة. وبين هذين المستويين الأعلى والأدنى للترجمة توجد ترجمات جيدة أو معقولة أو ومقبولة. والحقيقة أن دور النشر كثيراً ما تتساهل فيما يتعلق بنوعية الترجمة.

مشكلات الترجمة

عن ولعه بعالم المعاجم والقواميس، يقول أننا في البداية كنا مجموعة من الأصدقاء اهتمَّتْ بمعجمة تصريف الفعل العربي (حسن بيومي، وأحمد الشافعي، وأنا)، وصدر “معجم تصريف الأفعال العربية” عن دار إلياس العصرية للطباعة والنشر في 1989.

وفي ما بعد قمتُ وحدي بوضع “معجم تصريف أفعال لهجة القاهرة”، واهتمامي بتأليف هذين المعجمين يرتبط ارتباطاً وثيقاً باهتمامي بعلوم اللغة العربية وخاصةً علم النحو، ولي في هذا المجال كتاب “من أجل نحو عربي جديد”، الصادر في 2009 عن المجلس الأعلى للثقافة، ولي أيضاً كتابات أخرى عديدة حول قضايا لغوية متنوعة. أما العمل المعجمي بين الإنجليزية والعربية فقد كان ذلك “عملي” في دار إلياس العصرية، موظفاً أو شبه موظف فيها من الدار أو من المنزل. وكان عملاً في قاعدة بيانات معجمية في دار إلياس بالإضافة إلى إسهامي في كُتُب معجمية أو لغوية صدرت عن الدار.

أما عن معضلات الترجمة في العالم العربي فيقول: أعتقد أن شبكة معقدة مستعصية من الأسباب تقف وراءها. فمن مشكلات المترجمين عدم فهمهم الواضح للمواد التي يترجمونها فلا يقدِّمون ترجمات دقيقة وواضحة ومعبِّرة ومبدعة.. وهناك مشكلة ضعف لغتهم العربية ومن هنا الركاكة وتردِّي أساليب أغلب المترجمين في سياق تردِّي القدرة التعبيرية والأسلوبية للكُتّاب والمؤلِّفين والأدباء أنفسهم من روائيِّين وشعراء.. وهناك أيضاً حالة الركود التي تعانيها اللغة العربية التي لا تتطور بصورة دينامية، لأن مثل هذا التطور يفترض دينامية التقدم الاجتماعى-الاقتصادي، والإنتاج العلمي والفكري، والانتقال من وضع المستهلكين للمعرفة إلى وضع منتجيها.. هناك أيضاً في مصر بالذات تدنِّي أسعار الترجمة (وبالطبع فإن أسعار التأليف أكثر تدنِّياً بما لا يقاس).

في مقاله “الانتخابات البرلمانية: الدرس الحقيقي” ليوم 27 أكتوبر الماضي في “الأهرام اليومي”، يقول: ومع أن ثورتنا حققت إنجازات كبرى أهمها أنها تفادت، إلى الآن، حربا أهلية طاحنة، وقطعت الطريق أمام “ثورة” إسلامية إخوانية كانت واردة، ثم قضت، إلى الآن، على محاولات إقامة دولة دينية بكل ويلاتها، فإن كل هذا شيء وتحقيق مستويات معيشية أفضل شيء آخر. ولأن التوقعات كانت بالغة الارتفاع فإن الصدمة كانت هائلة، على أن حياة الشعب التي ازدادت سوءًا، وهذا من طبيعة الثورات، هى المحرِّك الطبيعى للسلوك السياسى للشعب.

يواصل: فلماذا نتوقع اهتمام الشعب بالانتخابات؟ ومتى كانت الپرلمانات فى مصر قادرة على تحسين شروط الحياة؟ فهى تأتى ملائمة لمصالح الطبقة الحاكمة كما أن السلطة التنفيذية لهذه الطبقة هي التي تفرض قوانينها على كل السلطات بلا استثناء.