راهنية ثورة أكتوبر


حميد خنجي
2015 / 11 / 8 - 02:43     

تطل علينا سنويا في مثل هذه الأيام ذكرى أحد أهم الاحداث البشرية الشاملة، المدوية والمصيرية.. إن لم يكن أهمها على الإطلاق؛ ألا وهي حلول ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية المسمى في وقتها "العظمى" أو التي قد تكون سميت بعد حين! لم يبق ألا سنتين لتحتفل البشرية، خاصة الغالبية العظمى، أي الجزء المهمش من البشر، اليوبيل المئوي لثورة أكتوبر. والغريب أن هذه الثورة ما فتئت في تدشين منظومة دولية جديدة- غير مألوفة- لكوكبنا الأرضي، بحيث ظل القرن الماضي (القرن العشرين) مطبوعا بسمات عالم ذي قطبين متناحرين (قطب رأسمالي أقوى وقطب يبني منظومة اشتراكية أضعف). ولعل الغريب -من مكر التاريخ- أن هذه التجربة الرائدة قد فككت –ذاتيا- على يد قيادة الحزب الشيوعي نفسه، في وضح النهار! ولكن الأغرب أن "الليجاسي" عن تلك التجربة مازالت تعيش وتعيش في الأفئدة والأذهان.. وتنتعش في الذكرى البشرية الجمعية الإنجازات العظيمة، التي قدمتها التجربة المذكورة للمحرومين من الناس في مختلف القارات، بحيث من الممكن الادعاء.. أن ذلك النظام، الذي تعرض -ومازل يتعرض- لهجوم غير منصف، ليس من قبل الاعداد الطبقيين فحسب، بل ايضا من قبل "الأصدقاء" و"ثوريي" / مثالي الأمس – من كل أطياف الشيع والمدارس المتمركسة والثورجية والشعبوية المختلفة.. ممكن الإدعاء وبلا مواربة، أن ذلك النظام الآفل، حاضر إفتراضيا وبشكل عجيب.. ومازال يمثل المنهل الذي لاينضب لكافة البشرية التقدمية للنهل من دروس التاريخ، بحلوها ومرها، بغية إعادة التعبئة التاريخية لقفزة بشرية أحسم وأقوى من أكتوبر، لقبر المنظومة الشائخة البربرية والمدمرة (الرأسمالية) والولوج إلى منظومة أرقى، حينما يزف الوقت!؟

هل كان السقوط أوالتفكك حتميا؟! سؤال مركزي ومربك!.. خاصة أن أكثرية الباحثين ينطلقون من فكرة "منشفية" مفادها؛ أن جرثومة الفشل كانت دائما تعيش في دماء التجربة والنظام، ومنذ اليوم الأول، لأسباب موضوعية أهمها ضعف وقلة الطبقة العاملة الروسية عدديا، بين بحر من الفلاحين!. وبالتالي القفز إلى السلطة كان خطأ تاريخيا! وأن "لينين" تجاوز "ماركس" واستسلم لرغباته، ولم يكن وفيا لـ"قبان" قوانين الجدل؟!.. ولذلك ولأسباب مزعومة مثالية وتخيلية أخرى، فإن ”ثورة أكتوبر" كانت خطوة قبل الأوان؛ بمعنى أن حركة التاريخ وتعاريجها واشكالياتها واستثناءاتها كانت يجب أن تقاس بالضبط بـ"المساطر"، التي يحملها هؤلاء وأولائك السادة المثقفين المتمركسين، حتى لاننتقل إلى الليبراليين، القدامى والجدد! ونتيجة لتك "الأوهام" فقد سادت تدريجيا "البيروقراطية الحزبية"، بل وحتى الطغيان والاستبداد الفردي والحزبي، في مراحل سابقة.. وبشكل تعسفي بعيدا عن سياقها التاريخي- حسب رأي المذكورين. غير أن منظومة الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية-بعد ذلك- قد تعافت من مصائب لم تكن في مقدور "منظومة سوسيو إكونومي" اخرى تحملها!.. كانت هناك قصورا وأخطاء وحتى تقييمات من الخطايا، لا أول لها ولا آخر. غير أن ذلك قد أفل، وتخطى المجتمع السوفيتي المشاكل- المعيشية خاصة- وحلت تحديات جديدة، كانت يجب أن تدرك وتحل بشكل علمي منهجي في حينه. ولكن – بالرغم من كل شئ- برزت نوعية حياة واعدة جديد؛ كانت تتعزز باضطراد، لو لم يسقط الحزب في يد أعداء فكر الحزب!.. هنا ينقسم المحللون إلى قسمين : السقوط كان لابد أن يحدث.. اليوم أو غدا !؟! و .. لم يكن السقوط حتميا.. كان تفكيكيا وتآمريا!.. كان يمكن تفادي الزلزال، لو أن "الإنتلجنسيا القائدة" كانت جديرة بهذا الوزر.. وكانت شجاعة جسورة.. ومحصنة بمعرفة متقدمة وبوعي اجتماعي وطبقي استثنائي!.. أنا اضع رهاني على الإحتمال الثاني.

كان لينين ثوريا نابغة.. لم يعرف النصية في فكر ماركس. لم يدرك أحد فكر ماركس وروحه كما أدركه لينين!.. عبثا يحاول المنظرون الجدد- كالقدامى- وضع لينين في تعارض مع ماركس! قائد ثورة أكتوبر عرف جيدا الصعوبات والمصائب القادمة. أبصر في لحظة تأمل استشرافي، ضرورة الإقدام التاريخي أوعودة القهقري للبشرية لعقود وأحقاب، لو تردد البلاشفة في منتصف الطريق، كدأب الثوريين الألمان في سنة 1919 ، الذين انتظروا عبثا الظرف "الأنموذجي"للثورة، والذين دفعوا الثمن غاليا! لم يكن بمقدور البرجوازية الروسية الناشئة والمجفلة إكمال ثورة شباط البرجوازية وكنس الاقطاع والقنانة الروسية، المتمثلة بالرجعية القيصرية. بحثت قادة البرجوازية السياسيين عن حل وسط مع القيصر.. تمثلوا تجربة الثورة البرجوازية الانجليزية، غيرمدركين الفرق بين التجربتين! لم يكن هناك سبيلا آخر لدى هؤلاء السادة الروس غير الإستسلام للرجعية لتعود روسيا أسوأ مما كانت؛ سجن الشعوب وحصن الرجعية والتخلف العالميين! لم يستطع أحد غير لينين، على كثرة وغنى زعماء البلاشفة الاخرين، أن يضع مشروعا منسجما لتطور روسيا الحياتي ( رسائل من بعيد/ تكتيكان/ مسائل نيسان...الخ..)! لمن يسفه " اللينينية" اليوم، عليه أن يستعيد لحظة التاريخ تلك؟! كان تحدى غير اعتيادي هو ما جابه هذا الروسي العبقري الفذ!.. امتحان تاريخي لمدى أحقيته بالقيادة، وبمتابع ماركس الفعلي والمبدع؟! .. كيف يطبق أفكار ماركس لأول مرة ؟! كيف ينقلها من عالم الفكر إلى عالم التطبيق، في لحظة وعمل استثنائي، قد يبدو ظاهريا أنه يعارض افكار ماركس (حتى لانقول تعاليمه/ لاتوجد تعاليم!). ثورة أكتوبر ومشروعها كانت استثناء على القاعدة!.. لابد من استكمال الثورة البرجوازية أولا. ولكن ليس بيد البرجوازية غير الكفؤة – في الحال الروسية- بل بيد الطبقة العاملة الروسية الصغيرة حجما والواعية جدا نوعا، بالتحالف مع الفلاحين، بقيادة ممثلها السياسي العتيد؛ "حزب البلاشفة" (بالمناسبة لم يفرض نمط الحزب الواحد إلا بعد عداء الآخرين وعزوفهم عن المشاركة). ثم الإنتقال إلى فترة انتقالية أو حتى فترات، إن لزم الأمر!.. حتى الوصول إلى الشروع في بناء المنظومة الاشتراكية، بعد بناء الأساس المادي لها؛ وهي أساسيات الرأسمالية (خطة النيب).. وإمكانية ذلك في بلد واحد مترامي الأطراف، بعد سحق الثورة الألمانية! لم تكن هناك طريقا آخرى، غير الثبات والعمل والإتكاء على الذات!.. لقد تحققت أكثر من المأمول بمراحل (تحققت معجزات!).. نعم ببيروقراطية وعنف.. ولكن في السياق التاريخي، ونتيجة عدوان الأعداء الخارجيين والداخليين، وأيضا بسبب ضعف الظرف الموضوعي المتراكم! ألم يتخط المجتمع الروسي ظروف رهيبة غير ممكن مقارنتها بتسعينات المجتمع السوفيتي؟! الفرق تواجد قيادة مخلصة، واعية وجسورة في الظرف السابق.. وتواجد قيادة متآمرة، متأمركة، سمسارة و جبانة عند التفكك أو التفكيك!؟ أما .. كيف وصل هؤلاء وكيف سيطروا على الحزب؟! فتلك قصة أخرى في حاجة إلى سجال أكثر دقة.

...............................................................................................................

لطفا.. وحتى لا نعيد انجازات المجتمع الاشتراكي السوفيتي .. تجدون أدناه ما كتبته في الذكرى الـ 93

شُعلةُ أُكتوبَر السّرمَدِيّة

حميد خنجي
الحوار المتمدن-العدد: 3179 - 2010 / 11 / 8 - 18:38
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية

شهد التاريخ البشري في مثل هذه الأيام قبل 93 عاما ( 6-7-8 من نوفمبر 1917 التي كانت في وقته حسب التقويم الروسي القديم 24-25-26 من أكتوبر) حدثا تاريخيا فريدا من نوعه، لم يكن في حسبان الناس في كرتنا الارضية قاطبة-يومئذٍ- عدا فكرة تخمّرت، منذ بعض الوقت في أذهان ثلّة من المثقفين الألمعيين الروس، الذين وضعتهم صدفة الضرورة الموضوعية على رأس منظمة ثورية من طراز جديد، قوامها بضع مئات من الألوف، يمثلون–وقتئذ- خميرة البروليتاريا العالمية وطليعتها.. حين أبوا -هؤلاء- إلا أن يكونون سباقين، قبل غيرهم من الأمم، في تدوين سفرٍ تاريخيٍّ مجيدٍ للبشرية.. بل وتعبيد سكة جديدة رائدة ،غير مطروقة أو مسبوقة من قبل! كان هذا ما وضعه التاريخ على أجندة حزب البلاشفة (الأكثرية بالروسية)، ليقتحم المجهول-بكل جسارة وثبات- ويبادر في الإستيلاء على السلطة السياسية من أجل وضعها في تصرف ومصلحة الكادحين في روسيا والعالم قاطبة

رُبّ قائلٍ يحاججنا هنا ( ما أكثرهم ): ... "ما فائدة هذا السرد التاريخي لمعبدٍ قد غرق وفكرٍ قد أفل ؟!" .. جوابنا بسيط : لم يعرف البشر منظومة فكرية مماثلة، سيطرت على عقول وقلوب الملايين الكادحة -في فترة قياسية قصيرة- ألهمتهم للنضال الدؤوب في سبيل تجاوز المنظومة الرأسمالية المستغِلة! ولم تعرف المجتمعات البشرية نظاما سياسيا مماثلا، في: مفارقته، إلتباسه، وقصوره –أخطائه- من جهة! وفي: انجازاته- من جهة أخرى- التي يعجز المرءُ عن تعدادها، في ظروفٍ عصيبةٍ، عصيّةٍ وغير مؤاتية، في زمنٍ قياسيّ وبموارد ذاتية فحسب.. مقارنة بالمنظومة الرأسمالية السائدة العجوز، التي احتاجت لقرونٍ طويلةٍ لتصل إلى ما وصلت اليه، معتمدة على: نهب خيرات الشعوب، حرائق كونيّة مدمّرة، تلوّث ايكولوجيّ شامل ( جالب للأوبئة والأمراض) وتفسّخ أخلاقي وخُلقي لاحدود له ! وهي مازالت- كالأخطبوط- تشطف رهيق "القيمة الزائدة"، المتأتية من عرق كاحي العالم أجمع، بنهمٍ مرضيٍّ لايشبع، وطمَعٍ بشريٍّ لا قاع له !

بلا شك من أن ثورة أكتوبر قد دشنت مرحلة جديدة في مسيرة التاريخ المدوّن وفتحت صفحة مشرقة، لا تهترئ بتقادم الزمن.. أعطت الملايين الكادحة أملاً وإلهاماً جديدين، بُغية تحويل حلم البشرية الأزليّ في تحقيق العدل، من يوتوبيا إلى واقع فعليّ. وعبّدت: سُبُل إمكانية تشييد مجتمع جديد منصِف، إنهاء عسف القرون المظلمة ووضع حدٍّ لاستغلال الانسان لأخيه الانسان! وكون المقالة هذه كُتِبت أصلاً، في هذه العجالة : لا لتحليل وأسباب بُنية المنظومة الاشتراكية التي تفككت ( موضوع شائك سنوافيه مستقبلا)، لكن فقط لتبجيل مناسبة عزيزة على أفئدة كادحي ومثقفي العالم، عانقي وحاملي هذا الفكر الجديد.. ولهذا سنكتفي هنا بأهم إنجازات ثورة أكتوبر، وتفاعلاتها الحالية والمستقبلية على مصير البشرية، بغض النظر عن مكر التاريخ ، سيره الملتوي ومَتْنه الملتبس! ... على أن نرجع في سانحة أخرى، في وقفة متأنية، لتحليل الأسباب والعوامل الفعلية (الموضوعية والذاتية)، خاصة الأخطاء الذاتية المتراكمة عبر فترة طويلة والتي أفضت إلى تفكك هذه المنظومة الرائدة، عمداً وفي وضح النهار!... ولعل أهم المنجزات تلك نلخصها أدناه :

في مثل هذا الأيام الخريفية العصيبة والعظيمة (قبل 93 عاماً) بعد سقوط "قصر الشتاء" مباشرة، والاعلان عن تشكيل أول حكومة للعمال والفلاحين، صُدر أول مرسوم ( مرسوم السلام الشهير)، الذي كان يعنى انهاء الحرب من قِبَل روسيا فوراً، وتدشينا أوليا لمعنى السلم العالمي وأهميته للبشرية!.. ثم تلاه "مرسوم الأرض"، الغنيّ عن التعريف كونه يجسّد أهدافاً عظيمة وآمالاً عريضة للفلاحين الفقراء (القِنّ الروسي) ويدشّن بداية النهاية لأحقاب مظلمة من العلاقات البطريركية الروسية السوداء

في فترة قصيرة بعد فشل الثورة المضادة (الحرب الأهلية) ودحر التدخل الخارجي المشهور من قِبَل أكثر من دستة من الدول الغربية، بدأت روسيا ( الاتحاد السوفيتي منذ 1922 ) تدريجيا بالتعافي والتطور المضطرد والسريع بحيث قُضِيَ -في فترة سنوات قصيرة- على آفة الأمية والجهل والعوز والبطالة والحاجة لسكن لائق. تلتها إنجازات في البُنية التحتيّة والعمرانية، لعل أهمها توفر شبكة مواصلات عصرية عملاقة، اتسمت برمزية أسعار تذاكرها ( ما زالت لشبكة المواصلات تلك الافضلية على الدول الغربية). وفي فترة أقل من ثلاثة عقود استطاع الاتحاد السوفيتي الّلحاق وتجاوز الدول الصناعية الكبرى ليحل ترتيب ثاني دولة بعد الولايات المتحدة الامريكية، في مختلف الصُّعد.. بل تجاوز الاتحاد السوفيتي الولايات المتحدة في الحقول الاجتماعية والثقافية والرياضية وبعض المجالات العلمية والطبية، العسكرية منها والمدنية، كغزو الفضاء

توفّق الاتحاد السوفيتي، إلى حد ملحوظ، في حل المشكلة القومية والاثنية، التي ورثها من روسيا القيصرية، انطلاقا من المبدأ الإشتراكي : "حق الأمم في تقرير مصيرها".. ومن هنا سُمِح بالخروج الطّوعيّ المبكر لفنلندة من مجموعة الامم والشعوب، التي حاولت تأسيس الاتحاد السوفيتي ونجحت في تشييده في سنة 1922.. حتى أن بعضها اعلنت استقلالها في البداية ( جيورجيا كمثال ) إلا أنها رجعت إلى حظيرة الاتحاد بعد لأيٍ، على أثرعودة البلاشفة المحلين للحكم هناك. من الجدير بالذكر ان الاتحاد السوفيتي –بعد الحرب العالمية الثانية- رسى على 14 جمهورية مستقلة، بجانب مجموعة كبرى من الجمهوريات ذي الحكم الذاتي، بالإضافة إلى عدة عشرات من دوائر قومية وإثنية لشعوب أصغر (اليهود احدهم على سبيل المثال). ولعله من المفيد أن نذكر أن هناك كانت شعوب بدائية ورعوية، لم تملك حتى ابجديتها الخاصة في البداية، لكنها اضحت بعد سنوات تملك اكاديمية للعلوم تخصها وبلغتها! ولابد أن نسأل هنا أي منصِف محايد: هل حدث شئ من هذا القبيل في التاريخ وحتى في أعرق الدول الرأسمالية؟!.. ليس هذا فحسب بل أن شعوبا شرقية واسلامية كان وعيها الجمعي ليس بأفضل من مستوى الوعي الاجتماعي الثقافي الافغاني والباكستاني (على سبيل المثال وليس التندر)، انتقلت من حال بدائية إلى تقدم حضاري فريد من نوعه، وصلت فيه المرأة الشرقية المسلمة إلى تقدم ومساواة جنوسية لاتحلم بها المسلمات – حتى يومنا هذا- للوصول اليها في أي قطر اسلامي آخر! أكيد كان من المستحيل أن يحدث هذا التحول المعجزة تحت أي نظام آخر!

دورُ الاتحاد السوفيتي، في الحرب العالمية الثانية (الحرب الوطنية العظمى حسب النظرة السوفيتية) في هزيمة النازية وانقاذ البشرية من تسييد منظومة متخلفة من التراتبية العنصرية البغيضة في العالم، معروفٌ للقاصي والداني (لونجحت الفاشية في مسعاها لتأخر العالم عدة قرون إلى الوراء).. والحقيقة أن ألد أعداء الاشتراكية والإتحاد السوفيتي لا يمكنهم انكار ذلك الدور التاريخي الحاسم، الذي وضعه التاريخ على أكتاف الجيش الأحمر وعلى أجندة المجتمع الاشتراكي الجديد!.. وأكيد أن البشرية، في مشارق الأرض ومغاربها، ستكون مدينة إلى الأبد لتلك الملحمة البطولية الخالدة، ولأكثر من عشرين مليون سوفيتي سقطوا دفاعا عن المدنية، الحضارة والتمدن الانساني

لم يكن التأثير الأيجابي لثورة أكتوبر ووجود الاتحاد السوفيتي هائلا على الُمستعمَرات السابقة ،وتقويض تلك المنظومة السخرة فحسب، بل تعداه إلى الدول المستعمِرة نفسها وغيرها من الدول الغربية الاخرى! فأكثر المستعمرات استقلت، مكونة دولاً جديدة بفضل العضد السوفيتي لحركات التحرر الوطني، في المستعمرات وشبه المستعمرات.. ونشأت منظومة جديدة من العلاقات الدولية، كحاضنة لحضورتشكيلة جديدة من الدول على المسرح الدولي. ليس هذا فحسب، بل –كما اسلفنا-أن تأثير المجتمع السوفيتي الجديد وانجازاته كان عظيما حتى على الدول الغربية نفسها، الأمر الذي أجبر ساسة الغرب المكارين - تحت هلع عنصر الجذب السوفيتي وتأثير ذلك على الوعي الجمعي لشعوبها- من تغيير سياستهم الداخلية، حيث إرتأت الاستفادة مما في جعبة الفكر الاشتراكي التعاوني، تجسّدت ذلك بتدشين ما عُرف، بدولة الرعاية والحماية الاجتماعية ، خاصة بعد الحرب العالمية لثانية.. وهو المشروع الاستراتيجي الرأسمالي،الذي هُندِس بُغية تحقيق عدة أهداف في نفس الوقت، لعل أهمها : سياسة سحب البساط من تحت أقدام الطبقة العاملة الاوروبية والغربية، بالتنازل لها عن هامشٍ معيّنٍ من الثروة (في صورة منح وحماية اجتماعية) .. اي سياسة " برجزة" البروليتاريا الغربية، المنحى الذي مازال قائماً في السياسات الداخلية للدول الغربية، ولو أن "البحبوحة" تلك، ما فتئت تنكمش، منذ أن تفككت المنظومة الاشتراكية وأضحت الآن عُرضة للتراجع التام، على أثر الأزمة المالية العالمية الحالية

حقق المواطن السوفيتي منجزات كثيرة بعرق جبينه وضَمَن حقوقا خيالية لنفسه، من مجانية التعليم والتطبيب وفي مختلف حقول المعرفة والفن والجمال والرياضة.. وأضحت هذه الأخيرة بالذات منتشرة للكل بل ومسنودة بقوة القانون لتكون هواية فحسب وليست احترافاً، حتى لاتتحول إلى سلعة ولايتحول النجم الرياضي إلى فرسٍ للربح والمراهنة، حسب ما نراها في المجتمعات الأخرى! وأُطبق نفس التوجة على مجمل حقول الفنون والآداب.. إلى درجة أن فنونا راقية ومكلفة كالمسرح والباليه والسينما وغيرها ( في المجتمعات الغربية) أضحت في متناول المواطن العادي (بأسعار رمزية)، الذي أصبح يختار بكل حرية مايريده، بُغية اشباع غليله الثقافي والروحي

فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفولة.. من المكن أن لا نبالغ إذا قلنا أن أرقى المجتمعات البشرية ( في الدول الرأسمالية المتطورة) ، لم تستطع- حتى الآن- تحقيق المساواة الكاملة والشاملة بين الجنسين كما فعله الاتحاد السوفيتي، حيث وصلت المساواة التامة بين الجنسين إلى مشارف غيرمسبوقة. ولابد من ذكر حقيقة مشرقة ومشرفة في مجال تحرر المرأة وتعزز شخصيتها الإنسانية وهي إختفاء أقذر مهنة – مُهينة للمرأة- عرفتها المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، ألا وهي البغاء! أما حقوق الأمومة والطفولة فقد وصلت إلى درجة كانت تذهل السواح الغربيين وقد كان بعضهم يطلق على الطفل السوفيتي كأسعد أطفال الدنيا !

لا نضيف جديداً إذا قلنا أن شُعلة أكتوبر لاتنطفئ أبداً، بالرغم من انتكاسة المنظومة التي مثلتها بعد تجربةٍ ثريةٍ ودروسٍ بليغةٍ، دامت سبعة عقودٍ ونيف.. وذلك ببساطة لأن الزمن سوف يأخذ دورته الكاملة، وتعود الأمور إلى نصابها-آجلاً أم عاجلاً- مادام في قناديل الفقراء زيت! بالرغم من أن وضع الوعي الاجتماعي الحالي متسم بالفراغ الايديولوجي-إن صح التعبير- ، الذي امتلأ بخُزَعبلاتٍ من أفكارٍ، ضبابية الرؤية ، تتحكم –حاليا- في تشكيل رأي عام عالمي ملتبس ومسطّح! لكن يمكن للراصد النزيه أن يرى بوضوح البشائر الأولى لعودة الحرارة للفكر الإشتراكي والرؤية الماركسية من جديد.. نعم النهوض الجديد لايبدأ من الصفر ولاترتد المنجزات البشرية المحققة في العهد الاشتراكي وتأثيراتها الانسانية الواسعة، من حقل التطبيق الى حقل النظرية المجردة ثانية.. بل يُبني الجديد القادم على ما قبله من تجربة - بمآثرها وأخطائها- ويكون أكثر غنىً ومناعةً عما مضى !.. ولابد أن "العنقاء" –في نهاية المطاف-ستخرج من بين الرماد