الكتلة التاريخية وعقدة يونس


قاسم علي فنجان
2015 / 11 / 2 - 01:46     

شكلت الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا 1929 - 1933 أوضاعا مأساوية مؤلمة ليس بالنسبة لأوروبا فحسب بل للعالم اجمع, أزمة كادت أن تطيح بالنظام الرأسمالي وتغيره, انبثقت عن هذه الأزمة ونتيجة لها أنظمة وحكومات استبدادية ودكتاتورية تمثلت بصعود مخيف للفاشية في ايطاليا والنازية في ألمانيا, لم تستطع القوى السياسية المعارضة وخاصة اليسارية منفردة أن تواجه هذه الدكتاتوريات, فبدأت ببلورة أفكارا وروئً لإدامة النضال ضد هذه الدول الاستبدادية والحكومات البوليسية, وكان من أهمها ما طرحه المفكر الايطالي "انطونيوكرامشي" واسماه (الكتلة التاريخية) وهي حشد اكبر عدد من القوى الوطنية والنقابية والثقافية لمواجهة الفاشية.
نقل المفكر "محمد عابد الجابري" مقولة (الكتلة التاريخية) إلى العالم العربي في ثمانينات القرن الماضي، بعد أن أحس أن القوى السياسية التي تحكم الدول العربية فشلت في تحقيق أوضاع اقتصادية واجتماعية مستقرة للشعوب العربية, طبعا آلت جميع تجارب (الكتلة التاريخية) إلى الفشل ولم تحقق نتائج على الصعيد الميداني وبقيت فقط للتنظير الفكري والاستعراض الثقافي.
في عراق اليوم المبنية حكومته ودستوره وقوانينه على قوى الإسلام السياسي ومجموعة القوميين الشوفينيين, عراق اليوم الذي تحكمه المليشيات والعشائر وقوى الظلام والبربرية, يظهر لنا منقذ جديد بطرح قديم مع لفيف من المثقفين الذين بدءوا يروجون لمقولة (الكتلة التاريخية) والتي يعتبرونها الحل للمشكلة العويصة والمعقدة التي تواجه المجتمع, المنقذ ومن خلفه مرجعياته السياسية والليبراليين وبعض من عطاري الفكر الذين يحلمون بعد -شرب البيرة-بعراق موحد يعمه الخير ويسوده السلام قدموا مشروعهم الفذ (الكتلة التاريخية), ومن المعروف لأي مراقب للمشهد السياسي أن مشاريع القوى "المدنية واللبرالية" كثيرة أخرها مشروع "تجريم الطائفية" الذي نادت به الكتلة"المدنية" داخل مجلس النواب, والذي لم يجد له أي أذن صاغية, فأعضاء المجلس يعرفون أكثر من مدني- ينا أنهم جاءوا إلى البرلمان على أساس طائفي وقومي فكيف يروجون لتجريم أنفسهم, أن "المدنيون" داخل مجلس النواب وخارجه أكثر مدعاة للشفقة.
وفي العودة إلى كرامشي وكتلته التاريخية ففيها الكثير من المفاهيم التي يجب أن تتطابق مع المؤسسين والمنضوين تحت هذه الكتلة, وقد يكون أهمها صراع الإرادات, والدور الذي يلعبه المثقف العضوي كما أطلق عليه كرامشي هذه التسمية, بدءا ليس لدينا تصور كيف سيكون شكل الصراع داخل هذه الكتلة، في حال صار لديها وضع ما داخل العملية السياسية -مع أن هذا حلم بعيد المنال- ونقول داخل العملية السياسية لأنهم لا يستطيعون الخروج أو طرح فكرة إزالة هذه العملية البغيضة والتي هي السبب الرئيسي في ما نحن فيه من بؤس, واستحالة الخروج منها هو لأن أحد المنضوين تحتها -التيار الرئيسي فيها- واحد من أقطاب هذه العملية السياسية, وهو أيضا أكثر القوى رجعيةً وظلامية في تعريفات التيار المدني نفسه, ثم ما هو دور المثقف العضوي داخل هذه الكتلة -سنتكلم عن دور المثقف من جهة التيار المدني فنحن لا نعرف مثقفين من الجانب الآخر- فدوره ينحصر في تنمية القوة الأكثر تقدمية داخل الكتلة, لكننا لا نعرف كيف سيكون ذلك, هل يستطيع هذا المثقف أن يكتب ويدافع عن الحريات العامة, أو هل سيكتب ويدافع عن تحرر المرأة, أو هل سيسمح له بالمناداة بدولة علمانية تفصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم -طبعا أذا افترضنا أنه يؤمن بذلك-، وكيف ستكون المفارقة أذا صادف أن احد المثقفين المدنيين يجلس في نادي ترفيهي يمارس حريته الشخصية -ونحن دائما نجدهم هناك-، ويدخل عليه مسلحون ينتمون لنفس "الكتلة التاريخية" وينهالوا عليه بالضرب والشتم -وهم دائما يفعلون ذلك-، فماذا سيكون موقف "الكتلة التاريخية" وقيادتها, ألا أذا كانوا قد اتفقوا على الخطوط الرئيسية من البداية.
أن هذه العقلية البائسة في أنتاج الحلول السياسية هي التي لا تستطيع أن تتعلم أن لا فائدة من تحالفات ومعاهدات ومساومات مع قوى تنشر الجهل والتخلف والظلام داخل المجتمع, قوى تتسابق في سلب الإنسان كل شي بدءا من حياته, أن المسألة الأكثر أهمية تنحصر الآن في معرفة ما أذا كانت هذه القوى"المدنية" قد تعلمت شيئا أم لا خلال هذه السنين من التجارب المريرة مع هذه الكتل السياسية من الإسلاميين والقوميين, وعليها تكوين عقل تاريخي ولا تبقى فأر تجارب.
لكن قد يبحث من فكر بتشكيل "الكتلة التاريخية" بالحنين والعودة إلى "الرحم", فالأسطورة القديمة تتحدث عن ابتلاع الحوت ليونس بعد أن فشل في المهمة الملقاة على عاتقه من هداية المجتمع الذي عاش فيه في رمزية تحمل معها الحنين للرحم والذي يشكل ملجأ آمن, فبطن الحوت -الرحم- يرمز للامان من الأخطار, ولكنه أيضا يمثل المدفن والمخبأ والاحتواء, فرجالات "الكتلة التاريخية" اللذين بعضهم خرج من رحم أحزاب دينية فلم يشعروا بالأمان -بعد هذا الخروج- أو أنهم أحسوا أنهم اغتصبوا على وجه ما في داخليتهم، فبدءوا يبحثون عن ملجأ آمن لهم, فبيت السيد في مخيلة الموروث الشعبي "الفلكلور" -الذين هم غارقون فيه- يمثل مكان مقدس يستطيعوا أن يشعروا فيه بالطمأنينة وهو بالتالي مدفن لهم، ويستطيع هذا البيت ايضا أن يحتويهم. من جانب أخر شكلت رؤية صورة رجالات "الكتلة التاريخية"مع قائدهم الجديد ما نستطيع أن نسميه مع المحلل النفسي "اوتو رانك" بـ(صدمة الولادة) فالبدائي يصدمه منظر الولادة فيهرب بشكل تلقائي من عالم خطر ومهول وعدواني إلى الاختباء في البديل الآخر لبطن إلام "الكهف"، فالجمهور الآخر من المثقفين صدم بهذه الولادة فأصيب بالإحباط وبدأ ينزوي باحثا عن مدفن له, أن عقدة يونس تصيب المثقفين وهي ماثلة وحاضرة حتى في التفكير السياسي لجمهور "النخبة", أن "الكتلة التاريخية" هي (بقعة سوداء وهي كافية عندما نتأملها بإمعان لأن تغرقنا في محيط من الظلمات) باشلار.