في نقد الفكر الليبرالي الحديث


زكرياء بغور
2015 / 10 / 31 - 06:53     

ظهر مفهوم الليبرالية المحدثة لأول مرة في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين حيث كان الهدف من وراء صياغته تفنيد الإشتراكية عامة و الفكر الماركسي بوجه خاص و إدانتهما باعتبارهما طريقا نحو العبودية، و المقصود بالليبرالية المحدثة مجموع النظريات الإقتصادية التي تأسس لاقتصاد السوق و الإنفتاح الإقتصادي بهدف زيادة رفاهية الأمم و تحقيق المجتمع الحر و المنفتح اقتصاديا.
كان فريدريك فون هايك و فلهلم روبكه و فالتر أوليكن أول من استعمل هذا المصطلح خلال ندوة اقتصادية سنة 1938 بفرنسا و قد دافع فون هايك عن الليبرالية المحدثة بشكل كبير خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية و بعدها حيث اعتقد أن المنهج الليبرالي المحدث يحتاج إلى بعض الوقت لكي يطفو على الساحة الفكرية و يهيمن و يفرض وجوده كسياسة تتبناها الدول فأسس بذلك نظرية اقتصادية احتضنتها المجتمعات الرأسمالية آن ذاك ما خوله الحصول على جائزة نوبل للإقتصاد سنة 1974.
انتقلت الليبرالية المحدثة من انتقاد الإشتراكية السائدة في دول شرق أروبا إلى محاولة النيل من النظرية الكينزية خلال العقد السابع حيث عرفت هذه الخيرة ازدهارا لا مثيل له فكانت مهيمنة على الساحة الأكاديمية. ادعت بذلك الليبرالية الجديدة أن أفكار جون مينر كينز لم تعد صالحة للتطبيق في تلك المرحلة حيث أنها عجزت عن تفسير أسباب الركود الذي نال من الرأسماليات الغربية و أنها نظرية تؤسس لاقتصاد مغلق غير منفتح على العالم الخارجي. في نفس السياق، كانت مؤسسات دولية وازنة مثل البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و منظمة التجارة العالمية قد نحت نفس المنحى بدعمها للإقتصاد الحر المنفتح الذي دعى إليه التيار الليبرالي المحدث فهاجمت النظرية الكينزية التي كان مآلها السقوط.
آن ذاك، أضحت الليبرالية المحدثة النموذج الأمثل للإقتصادات الرأسمالية فبدأت الدول تعتمد مناهج دراسية مبنية على مبادئ النهج الليبرالي المحدث فكانت سبعينيات القرن الماضي حقبة الثورة الليبرالية المحدثة بامتياز.
يمكن للقارئ الآن فهم السياق التاريخي لظهور الليبرالية المحدثة و أهدافها المتمثلة في خلق اقتصاد حر منفتح و تحطيم القيود التجارية و سيطرة الحكوموت على اقتصادات دولها. لكن هل حققت الليبرالية المحدثة ذلك الرخاء و الرفاهية اللذن رفعتهما منذ البداية؟
إذ قمنا بمراجعة الأحداث التاريخية و السياسات الإقتصادية للرأسماليات الكبرى خلال الأربعين سنة الماضية سنفهم أن النهج الليبرالي المحدث لم يكن إلا أكذوبة كبرى ولم يولد إلا التعاسة للمجتمعات سواء المتقدمة أو النامية و ذلك عكس ما جاءت به في بادئ الأمر. مرت المجتمعات الغربية خلال هذه الفترة بتحولات اجتماعية كبرى حيث أضحى الشغل الشاغل للسياسات الإقتصادية لهذه الدول توجيه الإقتصادات الوطنية و خصخصة القطاع العام، و من جهة ثانية أصبح التنظيم النقابي و الحركات العمالية في خبر كان حيث توجهت الدول نحو تقليص حقوق العمال و ارتفعت البطالة الهيكلية كما ارتفعت نسبة التفاوت في توزيع الدخل القومي و أصبحت الإقتصادات الرأسمالية تترنح بسبب الأزمات الإقتصادية التي تعصف بها.
من جهة أخرى، تعتبر الليبرالية المحدثة سببا مباشرا في تقليص دور الدولة في الإقتصاد حيث أصبحت الإستثمارات الخاصة هي المحرك الأساس لعجلة الإقتصاد فوجدت الدولة نفسها بين مطرقة تشجيع الإستثمارات الخاصة و ما يرادفه من إعفاء ات و تنازلات ضريبية و مساعدات مالية لأصحاب الثروة و توفير للبنيات التحتية اللازمة من أجل إغراء المستثمرين و سندان الأعباء المالية للحكوماتمن نفقات داخلية و أجور للعمال موازاةمع ارتفاع نسب البطالة و ارتفاع المدفوعات الإجتماعية. أصبحت بذلك الدولة تحت رحمة الإستثمارات الخاصة التي قد تعصف بها في حال سحبت أو واجهت عوائق مالية من أي نوع.
معضلة الدول الكبرى تتجسد في كون العديد من الإستثمارات الخاصة تحبذ النزوح نحو دول العالم الثالث نظرا لارتفاع نسبة الضرائب و تكلفة الإنتاج من يد عاملة و غيرها بالدول المتقدمة ناهيك عن مشكل آخر هو تراجع قطاع الصناعة على حساب التجارة.
كل تلك المشاكل التي لا زلنا نعايشها حتى اليوم تؤكد أن الليبرالية المحدثة لا تخدم إلا مصالح طبقة معينة و هي طبقة كبار الرأسماليين و اللوبيات الإقتصادية التي أضحت تتحكم في اقتصاد العالم ما يخولها التدخل في السياسات و القرارت الحاسمة و فرض قراراتها على الحكومات، أما البقية المتبقية و خصوصا الطبقة العاملة فلن يكون مصيرها إلا البؤس و لا شيء غير ذلك. يستوجب منا ذلك بالتالي الوقوف وقفة تأمل لمحاولة التصدي لهذا المد الإمبريالي الجديد الذي عاث في الدنيا فسادا.