جوزيف برودون و نظرية القيمة: في نقد اﻹ-;-شتراكية المثالية و اﻹ-;-قتصاد السياسي


زكرياء بغور
2015 / 10 / 29 - 08:33     

من أهم المحطات التي على أي دارس لتاريخ علم اﻹ-;-قتصاد المرور بها ما يطلق عليه التيار الفوضوي الذي جاء بمجموعة من اﻷ-;-فكار في إطار تأسيس نظريته المثالية في علم اﻹ-;-جتماع و اﻹ-;-قتصاد خلال حقبة تميزت بظهور و تطور نمط اﻹ-;-نتاج الرأسمالي بأروبا و ظهور اﻹ-;-قتصاد السياسي على يد آدم سميث و ديفيد ريكاردو و غيرهم.
ظهر التيار الفوضوي بفرنسا على يد مجموعة من المفكرين على رأسهم جوزيف برودون صاحب الكتاب الشهير (فلسفة البؤس)، و هو كتاب وجه من خلاله برودون مجموعة من اﻹ-;-نتقادات للفكر الماركسي المبني على مبدأ المادية حيث أن جوزيف برودون عرف بأفكاره المثالية التي حاول تطبيقها في العديد من كتاباته.
يحاول هذا المقال إذا تسليط الضوء على أحد المفاهيم الأساسية التي تطرق إليها جوزيف برودون و هو مفهوم القيمة حيث يوجه المقال مجموعة من المؤاخذات على برودون في نقاط أساسية نعتبرها مغالطات يجب تصحيحها و توضيح مكامن الخطأ فيها. نعتقد بالتالي أن جوزيف برودون لم يكن واضحا في شرحه للعلاقة بين قيمة الإنتفاع و قيمة التبادل كما نعتقد أن مقاربته لنظرية القيمة كانت مقاربة مثالية تنزاح انزياحا واضحا عن الواقع اﻹ-;-قتصادي و لا تصلح لتفسير العلاقة القائمة بين قطبي نظرية القيمة و بالتالي نعتقد أن برودون أغفل عاملا أساسيا ذو طابع مادي في تلك العلاقة و هو تكاليف اﻹ-;-نتاج.
يحاول المقال أيضا التطرق إلى مفهوم القيمة عند ريكاردو و خصوصا ما يعرف بفائض القيمة حيث نستنتج أن ريكاردو أسس لنظرية تخدم مصالح ملاك وسائل اﻹ-;-نتاج من خلال وضع فائض القيمة في يد الرأسمالي و إغفال دور العامل في عملية اﻹ-;-نتاج.
جوزيف برودون و نظرية القيمة:
يجزم جوزيف برودون أنه أول من لاحظ العلاقة التعاكسية أو التناقض القائم بين قيمة التبادل و قيمة اﻹ-;-نتفاع، و يتضح ذلك من خلال ما جاء على لسانه في (فلسفة البؤس): "لقد بحث الإقتصاديون جيدا المفهوم اﻹ-;-زدواجي للقيمة، لكنهم لم يشيروا بدقة إلى طبيعة القيمة المتناقضة. و من هنا يبدأ نقدنا... و لكي نضع الكلام بأشكال علمية نقول أن قيمة التبادل و قيمة اﻹ-;---;--نتفاع هما في نسبة معاكسة الواحدة للأخرى." تعتبر هاته المغالطة اﻷ-;-ولى عند برودون فمجموعة من اﻹ-;-قتصاديين قبله كانو قد أوضحوا و بشكل جلي هذا التناقض و من بينهم لوردردال في كتابه (دراسات عن أصل و طبيعة الثروة العامة) و ريكاردو في (مبادئ اﻹ-;-قتصاد السياسي و الضرائب) إضافة إلى ماركس في (نقد اﻹ-;-قتصاد السياسي)، و سأستدل بمثال واضح مقتبس عن سيسموندي في كتابه (دراسات) الصفحة 162 حيث يقول: "إن التناقض بين قيمة اﻹ-;-نتفاع و قيمة التبادل هو الذي نقص قيمة كل شيء." و بالتالي يتضح لنا أن برودون يقر بحقيقة لا أساس لها من الصحة. بتجاوزنا لهاته المسألة و بتعمقنا جيدا في كتابات برودون سنلاحظ أنه و خلال محاولته لشرح التناقض القائم بين قطبي نظرية القيمة يقدم برودون تحليلا بعيدا عن الواقع و من هنا تأتي مؤاخذتنا الثانية.
تتمثل المؤاخذة الثانية في أن جوزيف برودون يعتبر أن هذا التناقض يمكن تجاوزه و إيجاد نقطة التقاء بين قيمة اﻹ-;-نتفاع و قيمة التبادل من خلال ما أسماه "اﻹ-;-رادة الحرة" للبائع و المشتري، و المشكل هنا أن مفهوم اﻹ-;-رادة الحرة مفهوم ميتافيزيقي مجرد لا يصلح أن يكون آلية للتحليل اﻹ-;-قتصادي. و برودون أصلا لم يقدم شرحا واضحا لمفهومه المجرد حيث اكتفى بالقول بأن الصراع بين البائع الحر و المشتري الحر هو ما يشكل نقطة اﻹ-;-لتقاء بين قيمة اﻹ-;-نتفاع و قيمة التبادل و هذا ما يظل أمرا مبهما بدون تفسير علمي حقيقي.
في النهاية يعتقد برودون أن قيمة التبادل ترتفع بسبب عامل النذرة حيث أنه إذا وجد منتوج معين يتسم بالنذرة فإن قيمته في السوق ترتفع و تكون الحاجة إليه أكثر إلحاحا نظرا لخاصية النذرة التي يتميز بها.
"إن الأشياء التي لا يستغنى عن استعمالها و التي لا تحد كميتها يمكن الحصول عليها بلا شيء، و الأشياء التي ذات النفع القليل و التي تمتاز بنذرتها و قلتها تكون ذات قيمة لا تعد و لا تحصى."
برودون. (فلسفة البؤس). ص: 93.
ما أغفله جوزيف برودون هنا هو عامل الطلب. فالطلب هو ما يحدد قيمة منتوج معين حيث أن الطلب إن ارتفع فقيمة المنتوج التبادلية ترتفع بارتفاعه بغض النظر عما إذا كان ناذرا أو غير ناذر. و هذا ما يدفع الرأسمالي دائما لمحاولة المحافظة على ارتفاع الطلب ليرفع فائض القيمة لديه باستمرار.
مؤاخذة أخرى لدينا على برودون و تخص مسألة السعر. يعتقد برودون أن السعر تتحكم فيه الإرادة الحرة لكل من البائع و المشتري حيث أن الإثنين يحددان سعر السلعة انطلاقا من مبدأ أنهما يتمتعان بالحرية اللازمة للتفاوض من أجل السعر. يبدو إذا أن برودون انغمس في تأويلاته و تفسيراته المثالية لدرجة إغفاله أن تكاليف الإنتاج لها دور مباشر و حاسم في تحديد السعر، و هذه الأخيرة هو التي تحدد هامش الربح لدى المنتج.
من ذلك كله يتضح لنا أن جوزيف برودون كان يوهم نفسه أنه يقدم إسهامات جديدة لنظرية القيمة لكنه لم يكن يقوم إلا بإعادة إنتاج أفكار اقتصاديين آخرين و بشكل غير متناسق.
نقد نظرية القيمة عند ريكاردو:
يمتد نقدنا هنا ليشمل مفهوم القيمة عند ريكاردو. يعتقد ريكاردو أن قيمة منتوج معين تقدر بعدد ساعات العمل المستهلكة خلال إنتاج ذلك المنتوج. هذا أمر حقيقي في الواقع لكن ما نؤاخذه على ريكاردو هو إهماله عمدا لدور العامل في عملية اﻹ-;-نتاج حيث أن قوة العمل في تنظير ريكاردو لا تقدر بعدد ساعات العمل و نتيجة ذلك أن فائض القيمة لا يستفيد منه إلا رب العمل فكلما زادت المردودية فإن فائض القيمة يرتفع و يزيد من أرباح مالك وسائل اﻹ-;-نتاج فقط لأنه مالك رأس المال بينما يبقى العامل غارقا في وضعيته المزرية. هنا يتضح أن ريكاردو تهرب من حقيقة لا مفر منها و هي ضرورة توزيع وسائل إنتاج الثروة و بالتالي فائض القيمة لكي لا نقع في المحضور أي في اتساع الهوة بين ملاك وسائل الإنتاج و الطبقة التي لا تمتلك إلا قوة العمل.
الخطير في اﻷ-;-مر هو أن ريكاردو، و على غرار رواد اﻹ-;-قتصاد السياسي اﻵ-;-خرين، عمد إلى توجيه أفكاره لخدمة الطبقة الرأسمالية و تبرير ممارساتها غير المشروعة و تأسيس إديولوجيتها المبررة لكل مظاهر الإستغلال التي تمارسها في حق الطبقة العاملة و هو ما كان واضحا منذ البدايات الأولى للرأسمالية في أروبا امتداد إلى الحقبتين الحديثة و المعاصرة مع ظهور الرأسمالية المالية و العولمة التي ليست سوى إحدى تجليات الإمبريالية لكن بمظهر مختلف يتماشى مع خصوصيات الحقبة الحالية.
نستنتج بالنهاية أن جوزيف برودون لم يقدم إسهامات كبيرة بخصوص نظرية القيمة و لم يحاول حتى الإشارة إلى خطورة طرح ريكاردو و التوجه إليه بالنقد بل اكتفى بالإنغماس في تحليله المثالي الذي لم يقارب الواقع الإقتصادي الحقيقي على عكس محللين اقتصاديين آخرين مثل كارل ماركس و رفريدريك أنجلس اللذان قدما نظرية متناسقة و آليات تحليل واقعية قاربا من خلالها الواقع الإقتصادي بشكل واضح جدا.