الانتخابات البرلمانية: الدرس الحقيقى


خليل كلفت
2015 / 10 / 27 - 08:16     


منذ صدمة الجولة الأولى من الانتخابات الپرلمانية الحالية تتركز المناقشة على أسباب انخفاض نسبة المشاركة. والصدمة مفهومة وغير مفهومة؛ مفهومة لأن النسبة منخفضة بالقياس إلى التوقعات التى لا أساس لها، وغير مفهومة لأن النِسَب المرتفعة للمشاركة كانت ترجع طوال أكثر من ستين عاما إلى سببين: أحدهما أن النسبة المعلنة كانت لا تعكس النسبة الفعلية، والثانى أن لحظات قليلة فى الفترة المذكورة شهدت صراعا واستقطابا شديدين جذبا إلى الانتخابات كثيرا من الناخبين لحسم الصراع، بعيدا عن لامبالاة الفترات العادية.
وبالطبع فإن النسبة المنخفضة تعنى من ناحية زوال المسافة بين الفعلى والمعلن، وهذا شيء حسن، غير أن الناحية الأخرى تعنى عجز الحكومات المتعاقبة على مرّ عقود عن دفع عجلة الإنتاج والتوزيع إلى الأمام، والتركيز على دخل الفساد المتفشى.
وإذا كانت هناك مشروعات مهمة تحقَّقَ منها مشروع تطوير قناة السويس، وإذا كان هذا التطوير قد رفع بنسبة ما دخل القناة، فإن ثمار المشروعات الكبيرة والصغيرة المطروحة الآن، بافتراض تحقيقها، لا يمكن أن تُعطى ثمارها إلا بعد حين.
ولا شك فى أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التى بلغت ذروة تدهورها فى عهد الرئيس الأسبق مبارك، غذَّت توقعاتٍ وطموحاتٍ وآمالًا وأحلامًا وأوهامًا كبرى لأن الاحتجاج عليها كان السبب الأكبر وراء ثورة يناير.
وبالطبع فإن فترات الثورات والفترات التالية لها لا تعنى فقط استمرار التدهور السابق للثورة بل تؤدى بحكم أحداثها إلى تعميق الأزمة السابقة وتفاقم التدهور السابق.
ولا مناص من أن يكابد الشعب لسنوات على الأقل نفس، وعلى الأرجح أكثر من، مظالم ما قبل الثورة، قبل خروج متواضع محتمل من الأزمة المتفاقمة. وعلى من يريد أن يستوعب ما هى الثورة وكيف تبدأ وكيف تنتهى أن يقوم بنفسه، بدلا من الغوغائية السائدة، بمراجعة استقرائية جادة لعشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين ثورة من بين آلاف الثورات على كوكبنا طوال التاريخ.
ومع أن ثورتنا حققت إنجازات كبرى أهمها أنها تفادت، إلى الآن، حربا أهلية طاحنة، وقطعت الطريق أمام "ثورة" إسلامية إخوانية كانت واردة، ثم قضت، إلى الآن، على محاولات إقامة دولة دينية بكل ويلاتها، فإن كل هذا شيء وتحقيق مستويات معيشية أفضل شيء آخر. ولأن التوقعات كانت بالغة الارتفاع فإن الصدمة كانت هائلة.
على أن حياة الشعب التى ازدادت سوءًا، وهذا من طبيعة الثورات، هى المحرِّك الطبيعى للسلوك السياسى للشعب.
فلماذا نتوقع اهتمام الشعب بالانتخابات؟ ومتى كانت الپرلمانات فى مصر قادرة على تحسين شروط الحياة؟ فهى تأتى ملائمة لمصالح الطبقة الحاكمة كما أن السلطة التنفيذية لهذه الطبقة هى التى تفرض قوانينها على كل السلطات بلا استثناء.
وفى أوقات سابقة بعد ثورة يناير كانت هناك كُتَل انتخابية كبيرة، بحكم الصراع مع الإسلام الإخوانى، الذى سحب نسبة لا يستهان بها من الناخبين، وساهم هذا أيضا فى انخفاض نسبة المشاركة. كذلك فإن هذه النسبة ارتفعت بقوة أحيانا كامتداد لمليونيات الثورة للتخلص من قوى الدولة الدينية. والآن بعد أن تراجعت المليونيات وتم توجيه ضربة قاصمة لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، كان لا مناص من أن ينعكس هذا فى الإقبال الفاتر على الانتخابات، كما يحدث فى بلدان كثيرة أخرى.
غير أن المناقشة لا ينبغى أن تضع كل تركيزها على عزوف الشعب، بل هناك الدرس الكبير الذى ينبغى أن نركز عليه.
ففى الانتخابات تنافست أحزاب وتحالفات متعددة. غير أن التنافس بدا كأنه لا وجود له. فالأحزاب ضعيفة والرؤى ضيقة والجهود المبذولة فى المنافسة ضعيفة. وتبقى كل القوة هناك عند المال السياسى للطامحين إلى أن يحكموا لتحقيق مصالحهم.
وبالطبع فإن المصالح الأنانية هى التى تُحرِّك هذه العملية كلها. ويتغنى الجميع بعظمة الثورة والمصلحة الوطنية التى لن تزيد عن كونها واجهة دعائية للمصالح الطبقية الحزبية.
وهناك مَنْ يتصورون أنهم يمثلون ليس المصلحة الوطنية فقط بل مصالح وطموحات الطبقات الشعبية. غير أن الأحزاب التى تزعم هذا صغيرة وشعبيتها ضيقة. وبالطبع فإن الأحزاب الكبيرة والمتوسطة بدأت صغيرة. غير أن نموَّها مشروط بشروط لا مجال للقفز فوقها أهمها التطور العفوى لحركة الطبقات الشعبية، والبرامج التى يمكن أن تخدم مصالحها، وقدرة الأحزاب التى تتصدى لتمثيل هذه المصالح على الارتباط الواسع النطاق بهذه الحركة البعيدة تماما عن أن تكون إرادية أو ناتجة عن التوجه بجدية إلى الطبقات المعنية.
على أنه يمكن أن يلعب وجود عناصر متماسكة داخل الپرلمان دورا فى توعية الشعب بمصالحه رغم أن الپرلمان نفسه لا يلعب أىّ دور حقيقى كسلطة تشريعية.
ومن المؤسف أن الصراعات على السلطة الحزبية والزعامة والتى تتزين بدعاوى مبدئية وبرنامجية جعلت اليسار رغم دوره المهم نظريا ينقسم بحيث لا يكون قادرا على أن يمارس دورا سياسيا وفكريا حقيقيا، أو نصف حقيقى، أو عُشْر حقيقى.
ولا أظن أن الجولة القادمة ستأتى بجديد يقلب هذه المعادلة.