حزب الطليعة : شمعة في مهب الريح 2/3


محمد الخباشي
2005 / 10 / 24 - 10:58     

الجزء الثاني : الغموض الايديولوجي والمنزلقات السياسية.
1- غموض الخيار اليديولوجي
المؤتمر الاستثنائي لم يحسم الخيار الايديولوجي للحزب بتبنيه للاشتراكية العلمية، بل عوق هذا التبني، لان التقرير الايديولوجي من مقدمته الى خاتمته، حرف الاشتراكية العلمية. وحمل الحزب في طياته فهما خاطئا للاشتراكية العلمية. ومنذ المؤتمر الاستثنائي الى غاية المؤتمر الرابع لم تصدر وثيقة توجيهية رسمية للحزب، أي لمدة 18 عاما. وهنا يكمن الاساس الحقيقي للمشاكل التي اختلقت وسط الحزب. ما هي المرجعية الايديولوجية للحزب خلال كل هذه الفترة؟ وعلى أي اساس تم استقطاب الوافدين الجدد؟ بعدم الحسم في الخيار اليديولوجي والتركيز على استقطاب المناضلين السابقين في الاتحاد وكذلك في الساحة الجماهيرية على خلفية الصراع مع اليمين الاتحادي، واستورار هذه القاعدة الى غاية المؤتمر الرابع، جعلت من الحزب خليطا من المرجعيات. وفي ظل الاستمرار في استعمال الصيغ العامة، وفي غياب بديل ثوري واضح، تم اغراق الحزب بجموع من الثورين المزيفين والقوميين والانتهازيين. واغرق باصناف من البرجوازية الصغرى على حساب الطبقة العاملة التي لم يستطع الحزب ان ينفذ اليها. ويكفي الامعان في التركيبة التنظيمية للحزب ليطرح السؤال : لماذا لم يستطع الحزب ان ينغرس في اوساط الطبقة العاملة المغربية؟ لماذا بقي تأثيره في النقابات العمالية محدودا جدا؟
وجاء المؤتمر الرابع، وتمت صياغة التقرير التوجيهي. والى حد بعيد شكل قفزة نوعية، حيث وضع حدا لمنزلقات المؤتمر الاستثنائي بآفاق التغيير الاجتماعي،وأكد على ثورة وطنية ديمقراطية كأساس للبناء الاشتراكي. الا ان التقرير لم يحض بالنقاش الكافي، حيث تقدمت به اللجنة التحضيرية شهرا فقط قبل المؤتمر. وأثناء المؤتمر جرى ما جرى فصودق عليه بالاجماع بمبرر ان المؤتمرات لا يمكن تحل كل القضايا مرة واحدة بل سيبقى النقاش مفتوحا حول التقرير التوجيهي...... وكان هذا آخر ما قيل عن الجوانب التوجيهية الى حين اجتماع اللجنة التحضيرية للمؤتمر الخامس.
وكما سبق ان قلت في مقال سابق، ما سمي بالمؤتمر الخامس لا يستحق الا النسيان لانه شكل قفزة واضحة نحو المجهول. وشكل ايضا انعطافا واضحا لتخلي الحزب عن مهماته التاريخية وعن مشروع التغيير الاجتماعي. مؤتمر حرف الاشتراكية العلمية وزاغ عن الخط السياسي الذي انبثق عن المؤتمر الرابع رغم نواقصه. وتبلور عنه خط سياسي ارتدادي يعود الى ما دون المؤتمر الثالث لعام 1978. وصيغ بيان سياسي الاكثر تخلفا في تاريخ الحزب بيان لا يستحق حتى ان يقرأ. وسار الحزب امثاله من الاحزاب الاخرى فيما يتعلق بالمسألة الدستورية. فجاء المؤتمر الخامس وشطب الشعار التاريخي للحزب وهو المجلس التاسيسي للدستور. وهنا سؤال جوهري يؤكد عدم وضوح الرؤية لدى الحزب. ماذا يعني البرنامج المرحلي الذي صيغ في المؤتمر الرابع. هل هو مطالب يرفعها الحزب لطلبقة الحاكمة كي يتحول المغرب الى الديمقراطية؟ ام أنه تصور لجزء من التغيير الاجتماعي الذي من المفروض ان تقوده الطبقة العاملة وحلفاءها؟ سفينة الحزب بدأت بالانجراف حين كان الكل يعتقد ويؤمن بمهمة الحزب التي اشرت اليها في السؤال الاول. لسببين: جاء البيان العام للمؤتمر الرابع بصيغة "..... فإن الحزب يطالب ب: ....." وراج نقاش في الهوامش خلاصته " ان هذا البرنامج سيج الحزب" وكانت النتيجة ان تغير البرنامج ، فهل تخلص الحزب من سياجه؟ والافظع من ذلك ان ندوة وطنية داخلية حول النضال الديمقراطي نظمت في وقت سابق وتمت صياغة تقرر يتضمن 17 مداخلة بينت ان لا احد من المتدخلين استوعب عملية التغيير الاجتماعي سواء في شقها الديمقراطي او نحو افاقها الاشتراكية. أؤكد مرة أخرى انني لم أفش سرا حزبيا، لأنني لم أطلع على هذا التقرير من خلال التنظيم، بل في اقليم لم ارتبط فيه بالحزب وتم تمثيله ب5 أعضاء في اللجنة المركزية ولا توجد به خلية واحدة.
وعلى الجميع ان يطرح السؤال على نفسه. منذ تأسيس الحزب وهو يتقلب من مؤتمر الى آخر، ويعرف خطه السياسي ورؤيته الايديولوجيه وتصوره لعملية التغيير الاجتماعي، مذا وجزرا. فهل نستمر في الاعتقاد بأن الحزب لا يزال يحمل في ذاته مشروع الاداة الثورية، بغض النظر الى التدبدب والمد والجزر الذي يحصل من مؤتمر الى آخر؟ هل نقول ان ما سمي بالمؤتمر الخامس وضع حدا لأحلام وتمنيات وتضحيات اكثر من جيل؟
2- الاخطاء السياسية
سميتها اخطاء سياسية لكي لا اسميها اقبح من ذلك، لنها مقصودة. ارتكبت عمدا وفق استراتيجية واضحة، استعمل فيها المسموح به وحتى الممنوع. ولا يمكن ان اقف لأعدها واحدا واحدا. قصدي ان ابين أن الوضع الحالي للحزب كان مخططا له، خارج التنظيمات الواردة في القانون الداخلي والقانون الاساسي، وسارجأ الحديث عن هذا الى النقطة الخاصة بالجانب التنظيمي.
قرر الحزب مقاطعة الانتخابات التشريعية والمحلية، وقبلها قاطع الاستفتاء على دستور 1992. وتم خوض الحملة بحماس منقطع النظير.تحرك فيها الحزب بنوع من الديناميكية والعقلانية. وتم استثمارها تنظيميا، إذ خلقت اشعاعا للحزب وساهمت في توسيع الخريطة التنظيمية والرقعة الجغرافية للحزب، حيث وصل المناضلون الى مناطق لم يكن يعرف بها الحزب. وخيضت في اطار التعبئة للمؤتمر الوطني الرابع.
وجاءت انتخابات 1996، بعد المؤتمر الرابع واشتعال فتيل بعض الممارسات الصبيانية وسط الحزب قادها اعضاء في قيادة الحزب.وبدأت حملة الاستقطابات الرخيصة في بعض الاقاليم... قرر الحزب ايضا مقاطعة الانتخابات. وحيث كان من المفروض ان يتم التركيز على افاق البرنامج المرحلي للحزب وصياغة استراتيجية واضحة للتغيير الاجتماعي، واساليب تطوير وتثوير الحزب، بدات بعض العناصر تفتح نقاشا في الهامش حول الانتخابات. وبدأت تطرح غير جريئة مسألة المشاركة في الانتخابات، كأن التنظيم الحزبي لا يسع مثل هذا النقاش. وتم خوض الحملة بحماس اقل. بل هناك اقاليم كانت فيها التعبئة لموقف مقاطعة الانتخابات خافتا.
واتيحت للحزب فرصة ذهبية. ارتكبت وزارة الداخلية خطأ فادحا باصدار الامر لاعتقال مناضلي الحزب. ومنع الحزب من عقد التجمعات العمومية...... كان بالامكان لو مرت الحملة دون اعتقالات ان تكون دون اثر والا يستفيد منها الحزب. وعكس ذلك عندما بدأت الاعتقالات تحولت قاعات المحاكم الى قاعات للتجمعات الحزبية، وهذا امر واقع. كما ان الاعتقالات خلقت اشعاعا على الصعيد الخارجي. وتوصل الحزب بمائات الرسائل التضامنية من هيئات واحزاب من اوروبا بصفة خاصة.
هذه الفرصة الذهبية تم التفريط فيها بعد اسدال الستار عن المحاكمات، وانتهى الامر. لماذا لن تتم متابعة الاتصالات بالهيئات التي تضامنت مع الحزب؟ لماذا لم يتم استثمارها لخلق وتطوير شبكة للعلاقات الخارجية؟ ليس لدى قيادة الحزب أي مبرر على الاطلاق. واذا كان البعض سيقتنع باكذوبة الامكانيات المادية، فلماذا تم التفريط في اقليم اوروبا الغربية؟ لماذا تمت تصفية اقليم باكمله،وثم استبدال قادة ومناضلين من عيار ثقيل بانصاف المناضلين؟ ولي عودة لهذه النقطة في المحور الخاص بالشق التنظيمي.
الخطأ السياسي الثاني هو ان الحزب ظل يقدم بديلا ناقصا. هناك هفوات وغموضا لازال يكتنف البديل الديمقراطي والتحرري كما سماه الحزب. واريد له ان يظل كما هو. وعايشت درجة حساسية مفرطة من النقاش الايديولوجي، بل تمت عرقلته بشدة. من له مصلحة في ذلك؟ لماذا تم التخلي عن الخوط العريضة لمشروع ورقة توجيهية وسياسية، صادقت عليها اللجنة التحضيرية للمؤتمر الخامس، واستبدالها بمشروع من درجة "لا يعتبر"؟ لقد تم التخلي عنه بعدما تمت عرقل النقاش داخل اللجنة التوجيهية والسياسية. كيف كان ذلك؟ بالغيابات المتكررة والمفضوحة عن اجتماعات اللجنة. كيف عرفت ذلك؟ بسيطة . لأنني كنت مقرر اللجنة قبل ان اقرر الانسحاب.
وبذلك اريد للحزب ان يظل في انتظارية الى ما لا نهاية. يتخد موقفا ويركن، في انتظار مبادرة للطبقة الحاكمة حتى يعارضها. وهكذا دواليك.... الم يكن من بديل لهذا الخط؟ بلى، لم يستطع الحزب ان يبني بدائل واضحة. يقاطع الحزب الاستفتاء على الدستور. وأي دستور يريده الحزب؟ بعيدا عن الشعارات العامة كدستور ديمقراطي وفصل السلط... لم يقدم الحزب أي شيء آخر. لماذا لم يتم الاشتغال على هذا الستور نفسه، لبلورة بديل تتم تعبئة الجماهير حوله؟ لماذا ترك الحزب معركة الدستور تدور بينه وبين الطبقة الحاكمة، في غياب تام للجماهير المعنية بالتغيير؟ اية مبادرة خطاها الحزب اعتبر فيها صاحب القرار، كي لا يكون ديليا لردود الافعال؟
الخطأ السياسي الثالث، يكمن في التحالفات السياسية. بحكم تاريخ الحزب والطريقة التي تم بها الفرز داخل الاتحاد الاشتراكي، عاش الحزب نوعا من العزلة، حيث ضرب عليه طوق من طرف الاتحاد الاشتراكي ومن كان يدور في فلكه، لما له من تأثير على الاحزاب السياسية الاخرى، او ما سمي آنداك بالتحالف الثلاتي ثم الكتلة الديمقراطية فيما بعد. وهذا الامر لا يتحمل فيه الحزب اية مسؤولية. المسؤولية يتحملها حين رفع شعار "جبهة وطنية للنضال من أجل الديمقراطية" وسقط في انتظارية طوباوية حتى. جبهة وطنية شعار مرحلي صحيح، لكن كيف؟ وما مكوناتها؟ وما الاساليب الممكنة لبلورتها؟ هذه اسئلة لم يشغل الحزب باله من اجلها. بل اخطأ حين بادر الى مراسلة الاحزاب الاخرى تحت دريعة احراجها. وهذا امر لم يكن ذا تأثير يذكر. هذا في الوقت الذي كان من المفروض ان يفهم الحزب بأن أي تحالف، لكي يكون فاعلا في اتجاه التغيير الاجتماعي، لا بد من نواة صلبة. والى حين مشاركة بعض الاحزاب في حكومة ما سمي بالتناوب، توجه الحزب نحو شعار القطب اليساري الديمقراطي... وهي خطوة كان من المفروض ان تكون اللبنة الاساسية لتلك الجبهة. قبل ذلك كان واضحا ان النظرة الحزبية محكومة بنظرة كمية أو بمظلة سياسية وهذا هو المبرر الوحيد للانتظار الطويل (1989-1999)
وبدا يتضح ان الحزب تدارك اخيرا، وبدأ من حيث يجب البدء، حين بدأ مشاورات مع تيار النهج الديمقراطي. افضت هذه المشاورات الى اتفاق مبدئي وتقارب واتخدت خطوات عملية وتم تسطير برامج... والاهم من ذلك انه شرع في بلورة تنسيق عملي على مستوى الفروع والاقاليم في الميادين الجماهيرية.
الا أنه وبمنطق غير مقبول، تم اغراق هذه النواة لتحالف سياسي مقبل وممكن، بتيارات طالما عرقلت تطور الصراع السياسي في المغرب. ويجب التساؤل ان كان ما سمي تجمع اليسار يخدم في شيء استراتيجية التغيير الاجتماعي. لا اعتقد ذلك. من حيث الشكل، فهو تنسيق فوقي لم ينتج الا اطنان الكلام والاوراق المسودة بالتمنيات. وهو استنساخ كاربوني لتجربة الكتلة الديمقراطية في اسوإ حالاته. ومن ناحية المضمون، فهو تنسيق ظرفي، محكوم بعقلية استقطابية، كما وقع بين مكونات اليسار الجديد في فترة البحث عن تجمع يحتوي مختلف المكونات ويوحد الفعل السياسي والجماهيري. وهاهي النتائج الاولية توضح دلك. عوض التوجه نحو تحريك الوضع الجماهيري، الجمعوي والنقابي، اهتمت بعض الاطراف بالاستقطاب التنظيمي. وإذا كان التجمع يهدف الى وحدة تنظيمية، فيكفي النظر الى واقع اليسار الاشتراكي الموحد. الوحدة لا تكون سياسية فقط بل تنظيمية ، ايديولوجة وسياسية، وترتبط الجوانب الثلاث ارتباطا جدليا. وبعيدا عن ذلك، اية معارك سطرها التجمع و نفذها؟ ما هي القوة القادرة على تحرك التجمع؟ ما الضمانة المتوفرة لكي لا ينقضي اجله بعد الانتخابات؟ وماذا تغير في منطق وممارسة بعض الاطراق التي حاربت قوى اليسار الى حدود الامس القريب؟
واؤكد مرة اخرى ان التحالفات السياسية، لكي تكون ذات فعالية على المستوى الجماهيري، تبنى من تحت، من القاعدة، وليس بين قيادات معزولة عن الجماهير. في غياب هذا المنطلق، وحيث تجتمع القيادات في المركز، يستمر الصراع والاقصاء وكل الامراض التي تقتل الفعل في التغيير الاجتماعي، في الفروع والاقاليم، في الاوساط الجماهيرية.
هل قيادة حزب الطليعة، لا تعرف هذا؟ بكل تأكيد هي واعية بكل هذه الامور. فلماذا تجهض التنسيق مع النهج الديمقراطي، وتعوم هذا التنسيق وسط ركام من التيارات غير واضحة الاهداف والاستراتيجية؟