الخسفة ......قصة قصيرة


حسب الله يحيى
2015 / 9 / 27 - 01:58     

الخسفة(*)
حسب الله يحيى
حتى هذه اللحظة، ليس بمقدوري ان اصدق ما حدث لي .. لي انا بالذات. اجلس في العتمة.. وكل ما حولي مجهول، الزمان والمكان، السماء والنبات. كل شيء مثير للريبة والحذر والقلق والخوف.. الخوف الذي يجعلني استسلم لحجر صغير، أو حشرة، او مخلوق زاحف .. حتى النسمة العابرة، كانت تخيفني، فقد يكون وراءها قادم، حتى حركة التراب تحت قدماي،.. كنت أخشاه، فربما يكون هناك من يرقب تلك الحركة، ويرصدني بدقة، ومن ثم الامساك بي واعادتي الى حيث كنت. ذلك المكان الموحش، الذي لا اعرف كيف انقذت نفسي منه، وتخلصت من موت حتمي لا خلاص منه ابداً.
كانت النجوم في السماء عالية، والمسافة بيني وبين تلك الحفرة الرهيبة، تجعلني في حيرة من أمري، بين سماء بعيدة، وحفرة يمتد عمقها الى ما لا نهاية.. قريبة مني، لها تماس بجلدي، لها حاسة شم يسري في كل مسامات هذا الجلد الذي قسا حتى على القسوة.
أقول لنفسي: اذا كانت النجمة تتحدى كل هذا الظلام الشاسع، وبمداه اللانهائي، فلماذا لا أكون انا هذه النجمة بكل ما تحمله من ضوء عميق يتجلى في الأمل، وفي التعلق بأهداب الحياة والانفلات من ذاك الموت العفن..
لماذا لا أكون مثل هذه الكائنات الصحراوية السرية التي تحتفظ بخواصها على الرغم من كل هذا الجفاف المحيط بها، وكل عوامل الطبيعة القاسية والمتغيرة المحيطة بها، صحيح انها تكيفت على هذا العالم المحيط بها، ولكنها بكل تأكيد ظلت تبحث لنفسها عن قطرات ماء، وغذاء ينقذها من الفناء، وتمكنت من العيش.
لم يكن امامي خيار الا مقاومة الظروف المحيطة بي .. علي اكتشاف المكان ومعرفة جغرافيته وتفاصيله وخباياه وخفاياه، مرتفعاته ومنخفضاته .. طرقه وخطوط تماسه مع الطرق الاخرى.
لا خيار لي بالراحة، والاطمئنان على سلامتي .. فمازال الوقت مبكراً جداً للارتياح الى الراحة بعد الخروج من تلك الحفرة الموصلة الى اقصى مديات العالم السفلي، وما زالت الطمأنينة عصية على عالمي الذي ينبغي علي اكتشافه، حتى لا اكون مرة اخرى في ايديهم، ومرة اخرى داخل الحفرة مع مئات من الجثث المتعفنة، ومرة اخرى سيشدون علي عيوني، وعلى يداي ويسحبانها الى الخلف بقيود تشد على الرصيفين كلما تحركت ..
ومرة اخرى .. يخاطبني أحدهم:
- هيا .. اذهب الى بيتك، لم يعد لنا حاجة بك ..
يكمل الاخر:
- لا عليك، سر الى الامام، ستجد نفسك امام بيتك، قد عفونا عنك.
كنت مكرها على السير، وكنت مرغما على مد خطوة الى الامام، وليس بمقدوري مد خطوتين الى الوراء.
كنت اعرف انهم ليسوا بهذا الطبع الرحوم، الرؤوم، السمح ..
كنت اعرف جيدا ان امرا مبتكرا قد دبروه لموتي .. ربما السير فوق لغم، ربما زرعوا في ملابسي عبوة ناسفة، ربما .. ربما ..
وهويت الى اسفل، الى اعماق تشد الى مشدات عيوني عتمة ليس بوسع سوادها سواد ..
كان اول ما بلغني من هذا المكان الموحش، المجهول .. تلك الرائحة العفنة المميتة .. ثم تنبهت الى انني معلق، معلق بين عمق معين من فوهة الحفرة ومداها السفلي الذي لا اعرف لمداه مدى، ولعمقه عمق.
تعثرت ملابسي بجدار الحفرة، بنتوءاتها البارزة. لم يكن بمقدوري تلمس ما حولي.. يداي مشدودتان، وعيناي مشدودتان، وجسدي مشدود الى ملابسي، وملابسي مشدودة الى نتوء صخري قاس وعفن.
كنت معلقاً، مصلوباً بصخرة صماء، أخشى الحركة حتى لا أسقط في مجهول، وأخشى المجهول حتى لا أموت في سره..
بهدوء حركت رأسي، وحاولت التخلص من القماشة التي شدوا بها عينيَّ، لامس وجهي شيئاً صلباً، تبينت انه حجر قاس، معتق بالرائحة البشرية النتنة. أحسست بدماء ساخنة تتسلل الى عيني وتملأ وجهي لتصل الى فمي.. لا يهم، المهم أن أرى .. المهم ان اعرف اين انا، اين موقعي من الموت والحياة.
تمزقت القماشة.. ولم تختلف الرؤية عندي، ولم يختلف ظلام القماشة عن ازاحتها .. فكل شيء في قرارة هذا المكان مظلم ..
جربت ان أعلق قدماي بشيء ما، حتى لا اظل مصلوباً اتنفس العفن..
خشيت ان تنفلت ملابسي وتتمزق واسقط داخل هذا الفراغ الذي تتبينه حواسي، وتجهل امر عيناي.
لا خيار لي الا البحث عن سبيل.. سبيل للموت او الحياة، والا.. لا يمكن للمرء ان يبقى معلقاً هكذا.. ينتظر موتاً بطيئاً، يتسلل مثل ثعبان يسري سمه حتى الموت.
كانت يداي المقيدتان، مشدودتين الى ملابسي المعلقة، هكذا بطريقة غريبة، لا اعرف كيف حدثت.
حتى اذا حركت يداي .. انفلت ثوبي، واذا حركت ثوبي انفلتت يداي!.
لم يكن بميسوري الا الاعتماد على قدمي، والى عينيَّ اللتين لا تبصران سوى الظلام .. ومن يبصر ظلاماً .. أعمى . ومن ابتلاه الخالق بالعمى لا يرى الا السواد متسعاً، والضوء مستحيلاً .
توسلت قدماً.. فتحرك في الفراغ .
توسلت القدم الثاني، فتعثر بشيء خشن، وصار في حدسي أنه نتوء في صخرة ثابتة، يمكن ان تيسر لقدمي الاستعانة بها.. جربت ولم يخذل ذلك النتوء الصخري توسلاتي التي كانت تحتاج الى قدر مستحيل، أو معجزة لا اعجاز لوجودها.
اعانني النتوء الى الاعتماد عليه، والارتياح بكل جسدي فوقه.. حاولت ان احرك يديَّ المشدودتين، واخلصهما من ثيابي.
كنت اتحرك بحذر شديد، وخوف رهيب من السقوط في هوة لا اعرف لها قراراً، ولا لنهايتها منتهى.
انفلتت يدي اليمنى .. وهذا يعني ان يدي اليسرى قد تخلصت من قيدها وصارت حرة بفعل الشد الى الصخرة..
سرني الامر، وبعث في نفسي الأمل .. لكنه أمل حذر محفوف بمخاطر كثيرة .
صارت يدي تفتش بأصابع قدت من الياف خشنة، عن شيء تمسك به .. اشتبكت الاصابع بنبات عصي على ترك مكانه. امسكت به فلم يخذلها، فيما امتدت اليد الاخرى.. تستعين بنتوء بارز تفتت وسقط في المجهول حال تلمسه .. فصارت تبحث عن رجاء آخر .. فلم تجده . استعنت باصابع اليد اليمنى وهي تقبض على النبات المتشبث بالصخور، ودفعت بجسمي لأعلى .. معتمداً على قدمي .. وجدتني أصعد وثوبي معلق بصخرة، وانا معلق بالمجهول، وحياتي معلقة بالموت وعلى ما سأبذله من جهود..
تبينت ان لذلك النبات .. امتدادات، ولتلك الصخور.. صخور اخر.
بدأت الحركة بحذر، انقذت يدي اليسرى من أسر ثوبي، ولم تعد علاقتي بالمكان سوى ثوبي، وانا اخشى انفلاته، او انفلاته مني، اومما علق به .. فذاك شأن قد لا تحمد نتائجه، وتلك حالة لا اعرف عواقبها.
هل ابقى ساكناً، حذراً، مستسلماً لصلبي البطيء هذا ؟
كان السؤال عصياً على ذاكرتي، والاجابة عنه أشد عليّ من الشدة نفسها.
لا وقت للتفكير. الوقت مرهون باستعدادي للمغامرة، والبحث عن سبيل لانقاذ جسدي من هذه المحنة المقترنة بالموت.
امسكت بالنبتة.. فاعانتني على الحركة. نقلت قدمي لنتوء آخر، وضعت قدماً على نتوء غير بارز، بحيث انفلتت اصابع قدمي منه.
صرت افتش باصابع يديّ وقدميّ ووجهي كذلك عن نتوءات تساعدني على الانتقال الى الأعلى ..
تشبث ثوبي بالصخرة، ولم يكن امامي هذه المرة الا انقاذ جسدي منه والخروج بعرائي الكامل من هذا المكان. سمعت الثوب يتمزق حزناً على ما آل اليه الزمان.. من بهاء كان يمتلكه الى ذل بات عليه أن يتحمله والى شيء يثقل على صاحبه بدلاً من العمل على ستر حاله الذي لم يعد له حال .
صار جسدي حراً الآن .. لا شأن له بثوب ممزق ولا عورة تفضح صاحبها او تكشف عن ذلها وكسلها وذبولها .
تحول جسدي الى مجموعة اصابع تتشبث بالمستحيل، بما هو بارز او صلب او خشن حتى تتنفس عالماً بعيداً عن جبال الجثث التي لم يبق منها الا عفونتها المميتة.
كنت اتعلق بأهداب المستحيل وانا اتسلق باصابع صارت مخالب.. باظافر حادة لاصقة .. يستعين بها صاحبها متعلقاً بحياة لا تحيا الا بالمستحيل ..!!
بدأت اشم رائحة الصحراء وتغمر وجهي عواصف جافة .. لا يهم، المهم انني اتنفس قدراً من الحياة حتى تحيا واحيا معها.
ارتميت عند حافة الحفرة. لم يعد باستطاعتي الحركة.. بالكاد سحبت جسدي الى تراب خلي .. كانت النجوم ضالتي في هذا السواد البهيم ..
حدقت حولي.. لم ار شيئاً، لكنني تلمست تراباً جافاً وحجارة مختلفة الحجوم واشواكاً عافها ماء المطر فجفت بانتظار زخة مطر عصي على المكان.
صرت اتذكر ما جرى، وحاذرت ان تأخذني الذكرى الى النسيان ما انا عليه من كائن بشري فقد خواصه الطبيعية.
وعرفت.. عرفت جيدا انني كنت في الجحيم، كنت في « نهاية العالم « كما وصفوا لي هذا المكان ذات مرة .. كنت في مكان شديد الهول، اسمه « الخسفة « يعرف تفاصيله الناس في مدينة الموصل.. كانوا يقولون ان الغرابة في « الخسفة « كونها تنتمي الى قرية يسمونها « العذبة « جنوب الموصل .. ولا أحد يعرف السر الذي يجمع بين « العذوبة « و « الخسفة»!
فالاولى عذبة بعيونها وطيبة أهلها، وعلى مسافة منها هذا الجحيم المقترن بالموت الصعب والمجهول والرهيب الذي يسمى « الخسفة « والذي يلقون فيها بآلاف الجثث من دون ان يشغلوا انفسهم بدفنها .. مهمتهم محدودة . طلقة في الرأس ودفع الضحية الى « الخسفة « وقد يلقون الضحية حية من دون ان يمنوا على صاحبها بطلقة .. كما فعلوا بي .. وفي علمهم ان « الخسفة « تخسف بكل شيء من دون ان تمتلئ، ومن دون ان يفكر احد بالبحث عن اشلاء مجهول او معلوم .. فكل شيء في هذا المكان يستقر في اللانهاية ..
ابتسمت، وانا انفلت من تلك اللانهاية .. الى وجود علني اباهي نفسي به .. واتخفى من أجله، وكل ما سألقاه .. سهل، سهل امام ما عشت .. ولم يعد امامي الا التسلل الى « العذبة « ليلاً وعندها سأكون في أمان.
كنت اتخفى نهاراً .. متستراً في جذع شجرة جافة، او منخفضات ارضية او احتمي بعاصفة ترابية تغطيني ولا تكشف عني .. الا عندما اشاء اكتشاف ذاتي ..
فيما كنت ليلاً ازحف حتى لا يشعر بوجودي أحد، وحتى لا يكتشف أمري واحد من اولئك الذين وجدوا في وجودي معصية لإله يعبدونه، وفي حضوري بين الناس خطراً .. مادمت احرق سيكارة في اصابعي وعلى شفتي، أو استأصل خشونة لحية يقدسون شكلها .. او ارتدي ثوباً بطول معلوم.
- هل كنت مجرماً استحق الموت حياً ؟
سألت الرجال الذين استقبلوني في « العذبة « وهم يسألون عن الجرائم التي اقترفتها بحيث استحق هذا العقاب. كان جوابي وسؤالي .. ينتقل على وجوههم، راسماً المزيد من الاسئلة والاجوبة التي لا مفاتيح لها ..
صرت اتنفس عذوبة طباعهم .. وصرنا نتنفس معاً .. احساساً بالمسؤولية في انقاذ من تبقى من البشر في تلك المدينة المنسية التي اسمها الموصل .


(*) الخسفة / مكان هوة مجهولة العمق، قريبة من قرية (العذبة) التي تقع جنوب الموصل عند مفرق حمام العليل، ترمى فيها جثث الضحايا التي يقتلها تنظيم داعش الاجرامي ويطلق عليها اسم (نهاية العالم) ويوجد ما يماثلها في مدينة حديثة / الرمادي وفي سيبيريا وسوريا، ويقال انه ان (الخسفة) سببها سقوط نيزك من الفي سنة .
وكلمة (خسف) لغوياً تعني (إذاقة الذل والهوان) .