حزب الطليعة: شمعة في مهب الريح1/3


محمد الخباشي
2005 / 10 / 21 - 10:49     

الجزء الاول : كي لا تنطفأ الشمعة
من أوصل حزب الطليعة إلى ما هو عليه؟ سؤال لم يعد يهم الجواب عليه، لكثر ما كان يخنق الأنفاس. كيف لا؟ إذا كان ثمن ما وصل إليه، نهرا من الدموع والدماء ومعاناة وتفقير وشجون وإعدامات وعائلات تشردت وشموع أطفأت ربيع شبابها في الظلمات وغياهب السجون؟. والذي يحز في النفس أكثر، أن عددا لا يستهان به من الصيحات ارتفعت داخل الحزب منذ وقت بعيد. وكانت عقول متكلسة تزف في وجهها جملة مقتنا تكرارها: "انتم لا تعرفون حزب الطليعة". وكثير مثلي من كان يعتقد أن حزب الطليعة ليس كائنا أسطوريا. حزب الطليعة هو أعضاءه ومناضلوه، حتى ولو كانوا لا يعرفونه، فأين يوجد؟
والآن إتضح السؤال واتضح الجواب، وانكشف مكان وجود حزب الطليعة الذي لا نعرفه. وفعلا حزب الطليعة الذي كنا نسعى إلى تثويره وتطويره لم نكن نعرفه، لأنه كان في مخيلة البعض، بدأ يكتسي طابعا آخر. بدأ يفسخ جلده. يوضع عنوة في قالب كما يريده البعض، لا كما تريده الضرورة التاريخية للصراع السياسي في المغرب. ما مناسبة هذا الكلام؟. من حق القارئ علي أن يعرف لماذا قررت أن أتكلم. وأعده أنني سأفعل حين يحين الوقت. في انتظار ذلك لا بد من طرق الباب، وأتمنى أن يتطور النقاش. وأتمنى أن يجرأ الجميع عن الكلام، بمن في ذلك من يعتقد أنني أقصده بما سأقول.
إذا كان من لا يزال يحتفظ بعضويته داخل الحزب، يعتقد أن الوضع الحالي للحزب عادي، فإنه سيظلم كل الشهداء والمعتقلين والمنفيين، ونفسه قبل كل هؤلاء. وعليه أن يدرك أن السؤال الذي طرحه القائد الشهيد المهدي بن بركة في عام 1962 حين كان يعمل على بلورة الاختيار الثوري، حين قال "من نحن؟ وماذا نريد؟"، عاد ليطرح نفسه من جديد.
هل لا زال حزب الطليعة يعتبر نفسه مشروع أداة ثورية للتغيير الاجتماعي في المغرب؟ إذا فرضنا انه كذلك، فما طبيعة هذا التغيير؟ وأي برنامج يحمله؟ ما حدود تأثيره في المجتمع وفي المنظمات الجماهيرية؟. وإذا كان قد تخلى عن مهمته، فما الذي تغير؟ أية عوائق حالت دون تثوير الحزب؟ لماذا ترك يواجه عوالي الزمن حتى نخرت عظامه؟ من يتحمل مسؤولية ذلك؟
هذه الأسئلة وغيرها، يجب على الجميع أن يطرحها على نفسه. وإني لطرحتها على نفسي حين كنت عضوا فيه، لأنني أتحمل جزءا من المسؤولية حيث كنت عضوا في المكتب الوطني للشبيبة الحزبية، وعضوا بالمجلس الوطني، ثاني هيئة تقريرية بعد المؤتمر، وتورطت في هيئة تحرير الجريدة الناطقة بلسانه، وكنت عضوا باللجنة التحضيرية للمؤتمر الخامس للحزب. فهل سيجرؤ أجد أن يقول عني أنني لا أعرف شيئا عن حزب الطليعة؟
ولأن هذا الأمر لا يجب أن يستمر، لأن حزب الطليعة ليس ملكا لأحد، وليس ملكا لنفسه، هو تراث نضالي وتضحيات جسام، لا يجب السكوت عن هدرها وطمسها من طرف عقول متكلسة تنتظر أن تولد الأداة الثورية من الأوراق والخمارات والهواتف النقالة. سواء من داخل الحزب أو خارجه، على من لا يزال يملك الغيرة أن يقف، من أجل تقييم جماعي لمسار الحركة الاتحادية. وعلى من لا زال يعول على حصان أعرج أن يستيقظ من سباته، وعلى من يريد أن يقنع الناس بالوضع الحالي لحزب الطليعة وتصوراته، عليه أن يقنع نفسه بذلك أولا.
لهذا السبب، وسأحتفظ بغيره، قررت أن أتكلم. وفي محاولة للإجابة على بعض من الأسئلة التي طرحتها أعلاه، سأضطر للحديث على أمور وقضايا تنظيمية يفترض أنها داخلية. وسوف يتهمني البعض أنني خائن، وأنني سربت معلومات داخلية...
ليطمئن هؤلاء، فالكل كان يعلم ما سأقوله، إلا المناضلون. كان البوليس يعلم والتيارات الأخرى تعرف، إلا المناضلون، هم وحدهم كانت تمارس ضدهم كل أنواع التعتيم. كيف تعرف الأطراف الخارجية، أي البوليس والأطراف الأخرى؟ يعرفون لأن هناك أقاليم حزبية كانت عبارة عن فوضى. كانت أكثر تخلفا من التجمعات المائعة للاتحاد في بداية تأسيسه. بل أفضع من ذلك، لأن المعلومات المذكورة كانت تسوق في الحانات. وبعضها يتم تسريبها عنوة للجرائد و"الأصدقاء".
لم يستطع الحزب أن يتخلص من كل المظاهر البرجوازية والبرجوازية الصغيرة في الممارسة السياسية. سأعرض بعض النقط وسأعود إلى التفصيل.
- على الصعيد التوجيهي: لم يستطع أن يزيل اللثام عن برنامج ثوري للتغيير الاجتماعي. وعن برنامج شامل لثورة اجتماعية. والأنكى من ذلك أنه تراجع إلى ما دون ما طرحته منظمة العمل الديمقراطي الشيعي عام 1985 في ندوتها الوطنية الأولى. وطفت الى الطح، كل النزوعات الاشتراكية الديمقراطية. والمثير للخجل انه تمت العودة الى تعويم الخطاب بمفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية... خجلا من تسميتها بالاشتراكية.
- على المستوى السياسي: بالإضافة إلى العزلة والنكوص، انغمس الحزب في ضبابية الرؤية. وارتداد واضح، وارتكبت أخطاء قاتلة، وأهدرت فرصا مهمة في ممارسته، وعلى مستوى التحالفات السياسية أيضا.
- على الصعيد التنظيمي: تراجع الحزب إلى أسوأ حالاته. وحتى في فترات إعادة تأسيسه وإعادة بناءه، كان أكثر فعالية رغم محدودية انتشاره، والآن في انعدام القمع، أصبح شبه منعدم الوجود وكثرت الانسحابات وضعف تأثيره على مستوى المجتمع وعلى مستوى المنظمات الجماهيرية.
من يتحمل مسؤولية كل هذا؟. لست غبيا لأوجه الاتهام إلى طرف بعينه. فالمسؤولية يتحملها من قاد الحزب نحو هذا الوضع ، ويتحملها أيضا من سكت أثناء البوادر الأولى له وأنا منهم.
وتكمن الأسباب الحقيقية في عوائق كامنة في التركيبة التنظيمية والسياسية والإيديولوجية للحزب. كيف؟ تشكل الحزب وأعيد بناءه بعد 1983 وتحديدا بعد خروج المجموعة الأولى من معتقلي أحداث 8 ماي. وفي الفترة ما بين 1983 إلى حين انعقاد أول اجتماع للجنة المركزية للحزب بتاريخ 20 أبريل 1989، كان الحزب يتكون من 5 مكونات.
1/- أعضاء اللجنة الإدارية الوطنية للاتحاد الاشتراكي الذين قادوا الصراع داخل الاتحاد، ومعهم كل المناضلين الذين شكلوا اليسار الاتحادي. وهذا المكون لم يستطع أن يبني بديلا شاملا للممارسة اليمينية داخل الاتحاد الاشتراكي، ولم يكن تيارا منسجما أو بالأخرى تيارا قائم الذات، حيت بنى أغلب انتقاداته ليمين الاتحاد على قاعدة المشاركة في الانتخابات والمسلسل الديمقراطي. ولم تتم بلورة تصور موحد بين جميع المناضلين. باستثناء مذكرة إقليم الرباط التي تمت صياغتها عام 1982. وكان تيارا غامضا من حيث مرجعيته الإيديولوجية.
2/- رفاق الشهداء: وهو يسار القطاع الطلابي الاتحادي، مناصر للجنة الإدارية الوطنية. تبلور عام 1979 في الوقت الذي بدأ يتشكل بعد المؤتمر الاستثنائي عام 1975. وتشكل كتيار قائم الذات راديكالي التوجه. ولعب دورا هاما في إعادة هيكلة الحزب، والتعريف به، وخاض الصراع داخل الحركة الطلابية ضد اليمين الاتحادي... وخاض حملات تعبوية من منطلق توجيهي ماركسي.
3/- الاختيار الثوري: بعد المؤتمر الاستثنائي سنة 1975، تشكل تيار يساري أغلبه من المنفيين الاتحاديين. والتف حول جريدة كان يصدرها باسم "الاختيار الثوري" وفاء لفكر ونضال الشهيد المهدي بن بركة. وأثناء إعادة هيكلة ما سمى فيما بعد بالاتحاد الاشتراكي-اللجنة الإدارية الوطنية- عقد مؤتمره سنة 1985 وقرر الالتحاق بالاتحاد-ل.إ.و.
4/- رابطة العمل الثوري: تيار انبثق على يسار منظمة 23 مارس أحد مكونات اليسار الجديد. وبعد حملات القمع وتقييم التجربة، تبلور تياران داخل المنظمة، بعد الانشقاق الأول عام 1972. تيار شكل فيما بعد منظمة العمل وتيار شكل رابطة العمل الثوري. التيار الأخير قرر عام 1988 الالتحاق بالاتحاد ل.إ.و.
5- جيل جديد ممن التحقوا بالحزب، تاُروا بالخطاب الثوري الذي كانت تصرفة جريدة المسار قبل ان تتوقف، او ممن استقطبوا داخل الجامعة على قاعدة خطاب رفاق الشهداء. وبصفة عامة الملتحقين بالحزب قبل ان يبدأ خطاب الردة يلوح في الافق.
تلك كانت أهم المكونات التي شكلت المراحل الأولى لإعادة هيكلة الحزب الذي سيتغير اسمه فيما بعد إلى حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي. هل كانت هذه المكونات منسجمة على المستوى الإيديولوجي والسياسي؟ لا أحد يستطيع أن يؤكد ذلك، خاصة أن مرحلة إعادة التأسيس، بثرت التوضيح الإيديولوجي من دائرة الاهتمام، وأولي الاهتمام الأكبر إلى القضايا التنظيمية والجماهيرية والسياسية. وفي الوقت ذاته كانت جريدة المسار، منبر حر للتعبير عن مختلف الآراء، بل لعبت دورا هاما كقيادة فعلية للحزب. لكن كل ما كان يكتب في المسار لم يكن يعبر بالضرورة عن آراء الحزب. بل كانت اجتهادات شخصية، على الأقل لم تفض إلى بلورة وثيقة رسمية موحدة للحزب، في المجال التوجيهي.
وجاء المؤتمر الرابع كخطوة أولى في عملية التوضيح الإيديولوجي. وكان لبنة مهمة نحو تثوير الحزب. إلا أنه حمل معه معوقات هذا التثوير: فمن جهة لم يتم الإعداد الكافي من ناحية دراسة المشاريع المقدمة للمؤتمر، خاصة المقرر التوجيهي الذي لم يتم بعثه إلى التنظيمات القاعدية في الفروع والأقاليم إلا شهرا قبل المؤتمر. وأثناء المؤتمر نفسه. تم التحايل بطريقة ذكية على المقرر التنظيمي وملاحيقه خاصة القانون الداخلي والأساسي. حيث أرجأت الصادقة إلى أول مجلس وطني. ومباشرة بعد المؤتمر، بدأت عدة مشاكل تبرز إلى السطح، بل عرفت أقاليم عدة صراعات عولجت بطريقة ما أفضت في نهاية المطاف إلى تعطيل عجلة الحزب، في الوقت الذي كان بالإمكان أن يحسمها النقاش الديمقراطي واللوائح التنظيمية للحزب، وأن تذوب الاختلافات مهما كان حجمها لو كانت مصلحة الحزب توضع فوق كل اعتبار.
ومنذ ذلك الوقت إلى الآن، انعطف الحزب وزاغ عن أهدافه، كمشروع لبناء أداة ثورية.
بعد المؤتمر الرابع إلى الآن، وقعت "أخطاء" كانت تصب كلها نحو التخلص من عبء التراث الحزبي، ويتم التخطيط في الخفاء لولادة قيصرية عسيرة لحزب من طراز جديد. حزب ينزوي نحو المعارضة البرلمانية والمجالس... حزب لا يختلف عن غيره شكلا ومضمونا.
ولكي لا أطلق الكلام على هوانه، سأعالج بالحجة الدامغة هذا التحويل القسري. وسأبين ذلك من خلال النقط التالية:
1- الغموض الايديولوجي
2- المنزلقات السياسية
3- الأخطاء والهفوات التنظيمية.
4- الأخطاء في الميادين الجماهيرية.
5- التعامل مع الشبيبة الحزبية
6- الإعلام الحزبي.

الجزء الثاني : الغموض الايديولوجي والمنزلقات السياسية.