أن نتعلم ألفباء السياسة بالممارسة: ساحات الاحتجاج مثالاً


سعد محمد رحيم
2015 / 9 / 12 - 04:45     

السياسة في جوهرها هي ممارسة، لكنها الممارسة المستندة إلى إيديولوجيا وموقف وحسابات واقعية ومصالح.. وتختلف نسبة تأثير كل من هذه الأقانيم في الممارسة بحسب طبيعة الممارسين النفسية والعقلية والسلوكية، وتقلّبات الأزمان والظروف. وما يجري عندنا، عراقياً، في ساحات الاحتجاج المدني هو ممارسة سياسية حتى وإن ادّعى الداخلون في معمعتها أنهم ليسوا سياسيين، ولا ينتمون لأي من الأطراف السياسية المنغمرة في النشاط السياسي العام. فالاحتجاج على ممارسة سياسية هو في حقيقته ممارسة سياسية. فلا يمكن أن نقول، مثالاً، في طلب إصلاح الوضع السياسي، أو إجراء تعديلات على الدستور، سوى أنه ممارسة سياسية. ففي ساحة الاحتجاج أنت تفصح عن موقف، وتدافع عن رأي، وتنتقد ظاهرة، وتقترح بديلاً، وهذه كلها صور لممارسات سياسية تضغط باتجاه إحداث تغييرات في الحقل السياسي.
صحيح أن ذلك لا يجعل من الممارس، من هذا القبيل، محترفاً سياسياً، فنشاطه ذو الطابع العام قد يكون طارئاً ومؤقتاً ينتهي بانتهاء الحالة التي فرضته وحرّضت عليه. غير أن الممارس، ها هنا، يؤدي دوراً ذا بعد سياسي بامتياز، ويكتسب جرّاءه وعياً وخبرة سياسيين.
هذا النمط من الممارسة يُنضج وعياً سياسياً عند فئات اجتماعية واسعة، سواءً من المشاركين فيه أو المتعاطفين معه، أو المراقبين لتطوراته. فمعه تكبر دائرة المهتمين بالشأن العام والمؤثرين فيه. وهذا مؤشر حاسم لفعل الخيار الديمقراطي ونجاعته. والديمقراطية التي هي، باعتقادي، مقولة السياسة الأولى في قرننا الحادي والعشرين تتأصل في أحد مفاصلها بحرية إبداء الرأي والموقف، التي تجد في ساحات الاحتجاج واحدة من أهم قنوات التعبير عنها.
تخلق ساحات الاحتجاج هوية سياسية جديدة.. انتماءً من نوع مغاير هو حصيلة فعالية لم نخبرها في العراق منذ قيام النظام الجمهوري 1958.. هوية تتكرس بالاختيار الواعي الحر.. بحرّية الأنا التي اتخذت موقفاً واتجهت إلى جماعة لها الموقف ذاته.. ولأن فكرة الهوية مركّبة فإن هذه الهوية الجديدة تتمفصل مع هويات متفرعة أخرى، لترفد في النهاية مجرى الهوية الوطنية طالما كان المقصد من الاحتجاجات هو السعي لإنقاذ الوطن مما يحدق به من مشكلات وتحدّيات مصيرية. وهذه الهوية هي تمثيل للطاقة المجتمعية الشابة وهي تجترح فرصة أخرى للبلاد التي أثخنتها الجراح وتحمّلت كثيراً ولم تستسلم لقوى الموت والخراب. لذا من المنطقي أن ننعت هؤلاء الشباب بأنهم أبناء ساحات الاحتجاج، وأبناء العصر الديمقراطي، وهذه هي هويتهم الجديدة، التي بها أربكوا حسابات الفاشلين والفاسدين من الساسة، ونغّصوا عليهم نومهم في العسل الحرام. وأظن، استناداً إلى هذا الاستنتاج، فإن القرار السياسي العراقي منذ الآن سيأخذ بنظر الاعتبار، وهو يُصنَّع، ضغطَ تلك الساحات التي سبق أن أسميناها بساحات الأمل.
تُبنى الديكتاتوريات على مبدأ جعل الناس تخاف وتخبئ رؤوسها في الرمال حين ترى الشر والظلم والفساد. والخطأ الشنيع الذي وقع فيه الساعون ليكونوا ديكتاتوريين جدداً هو أنهم انغمسوا في السلوك الديكتاتوري في مناخ وزمن سياسيين ما عادا ملائمين له وصالحين لتطبيقاته.
على الرغم من سيئات مرحلة ما بعد 2003 كلها إلا أن هناك خطوات بناءة تحققت، ومن أهمها كسر حاجز الخوف عند المواطن الاعتيادي والنزوع عند كثر من المثقفين لقول الحق بوجه السلطة.. لا نقول إنها الديمقراطية الناجزة وقد أمسكنا بتلابيبها أخيراً، ولكن ثمة أكثر من كوّة انفتحت لحرية الرأي والتعبير والمعارضة. وقد تكون غير كافية، وهي غير كافية بالتأكيد، لكن يمكن القول إنها العتبة الأولى في الطريق الصحيح. فحتى وإن لم تحقق هذه الاحتجاجات أهدافها المعلنة إلا أنها تكون قد حرّكت الراكد في حياتنا السياسية.
مع ثورة الميديا والمعلوماتية وانخراط مئات آلاف العراقيين في حمّى مواقع التواصل الاجتماعي لم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه إلى وقت طويل. وقد وفّرت تلكم المواقع فضاءً ملائماً لانبثاق تجمعات ذات طبيعة سياسية ـ اجتماعية. ديمومتها تجعل منها مراكز قوى وجماعات ضغط، فيما الحوار المستمر بين المنتمين إليها، حيث شروط الانتماء سهلة في الغالب، يفضي إلى إنضاج رؤى وقناعات مشتركة. ففي ساحات الاحتجاج يتعلم الجيل الجديد ألفباء السياسة من منظور العصر الما بعد الحداثي، ومفردات السلوك الديمقراطي، وممارستهما، برؤى أعمق، وآليات أكثر فاعلية. وأحسب أن مثل هذه التجمعات المتحرِّكة المرنة ستحل محل الأحزاب السياسية بأشكالها التقليدية في المستقبل، في أي مكان من العالم تزدهر فيه الديمقراطية. فهي جزء من دينامية الحراك المدني في المجتمعات المعاصرة ومنها العراق. وتلك التجمّعات تستطيع التواصل مع أفرادها بوقت قياسي قصير، وتعلن عن اتجاهاتها وبياناتها وتصوّراتها ومواقفها أمام الرأي العام بشكل واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار على الشبكة العنكبوتية، وتستطيع دعوة أفرادها للتجمعات والتظاهرات والاعتصامات بلمح البصر. وتحل نفسها بعد الوصول إلى أهدافها. وقد يعترض بعضنا على هذا التخريج بحجة أن مثل هذه التجمّعات ستفتقد المركزية والانضباط الصارم والسرّية، كما في الحياة الحزبية التقليدية، التي تتطلبها إجراءات ومواقف سياسية معينة في الحالات الخاصة الحرجة. وهذا صحيح، لكن تخميناتنا للمستقبل ترينا أن وجود مثل هذه التجمعات سيكون هو الغالب. وستتسع مديات تأثيرها وفعالياتها.
والآن علينا الاعتراف بأن الواقع السياسي العراقي مأزوم ومصاب ببلايا مخيفة ( الإرهاب، الفساد، الفشل في إدارة الموارد، الخ.. ) وأن حراكاً مدنياً محدوداً يتمثل بالتظاهرات الاحتجاجية لن يبدل صورة الواقع، لاسيما في المدى القصير. وأن الخروج من حالة الأزمة الشديدة هذه يتطلب عملاً أكبر وأعقد مما يحصل في ساحات الاحتجاج. لكن يجب أن نبقى نذكِّر بأن التأثير القوي لا بد من أن يأتي من استمرار النشاط الاحتجاجي السلمي وتطوير وسائله وأساليبه، وتحديد غاياته بدقة، وتنظيم أنشطته على وفق معايير اقتصاد عمل مدني فعّال ومنتج.
إن القسم الأعظم من المشاركين في الاحتجاجات المدنية السلمية الحالية هم من الشباب الغاضب الذين لا يجدون فرصاً لائقة للحياة الكريمة، ويشعرون بأنهم يهدرون طاقاتهم وزمنهم في اللاشيء، فيما تتربص بهم المخاطر من كل صوب.. إنهم يحتجون اليوم ليستعيدوا الأمل.
الكتب وحدها لن تعلّمنا مبادئ السلوك الديمقراطي.. الديمقراطية هي نتاج ممارسات في مختبر الواقع. وتكريس تقاليدها في حياة أي مجتمع بحاجة إلى سنوات طويلة، لأننا خلال هذه السنوات، علينا أيضاً أن نتخلص من عُقدنا ومخاوفنا التي زرعتها في نفوسنا وأرواحنا عهود العسكرة والديكتاتورية، وأن نعود إلى طبيعتنا الإنسانية الحقة التي تشوّهت في ظل تلك العهود، وأن نتمثل حقيقة أن كلاً منّا هو ذات وعقل وحرية.
ذات تتحقق وتتفتح في مناخ من علاقات اجتماعية ـ اقتصادية منتجة وعادلة.
وعقل هو الأداة لفهم منظومات الذات والمجتمع والعالم وإعادة بنائها على أسس عصرية.
وحرية، بوصفها الشرط الضروري ،لأن نكون ذواتاً إنسانية متحققة ومنفتحة ومبدعة، وعقولاً متنورة.
إن جيلاً جديداً يكافح لاسترداد ذاته في مرآة هويته الوطنية، ويمضي إلى المستقبل بسلطة العقل، ويجعل من الحرية رائده، يولد اليوم في ساحات الاحتجاج، ويُنشئ عبر الممارسة اليومية ثقافة سياسية مدنية حديثة، يتسق ومعطيات الراهن العراقي ومتطلباته.. وهذا ما يُفترض بنا أن نقرأ تجلياته جيداً، ونراهن عليه.