أية علاقة بين الدّين والقانون؟ الجزء الثالث


عبد الرحمان النوضة
2015 / 9 / 7 - 09:32     

أية علاقة بين الدّين والقانون؟
(أو نقد القانون الجنائي بالمغرب)

--------------------------------------------------------------------------------

((الجزء الثالث))

--------------------------------------------------------------------------------


محتويات المقال:

1) بأيّة فلسفة جنائية نكتب القانون الجنائي؟
2) بأي منهج نُقيّم مشروع القانون الجنائي؟
3) أَلاَ تتعارض عقوبة الإعدام مع حقوق الانسان؟
4) هل يجوز للقانون الجنائي أن يفرض تديّنًا معيّنا ؟
هل يُعقل تجريم «الإساءة إلى الله أو الأنبياء»؟
6) هل يُعقل تجريم «زعزعة عقيدة مسلم»؟
7) هل يجوز تجريم العلاقات الجنسية المُتراضية؟
8) هل يجوز تجريم شرب الخمر؟
9) هل ينصف القانون الجنائي حقوق المرأة؟
10) هل يجوز تجريم الرغبة في تغيير النظام السياسي؟
11) هل خطورة الجيش تبيح الغلوّ في تجريم كل من يتكلّم عنه؟
12) لماذا الغلوّ في المنع المؤقّت أو النهائي للنّشاط المهني؟
13) هل القانون الجنائي محايد أم متحيّز ؟
14) هل يجوز نقد أداء القُضاة؟
15) ملاحظات جزئية أو معزولة
16) خــلاصـات جـزئـيـة


--------------------------------------------------------------------------------

11) هل خطورة الجيش تبيح الغلوّ في تجريم كل من يتكلّم عنه؟

وطبقا للمادة 181، يعتبر خائنا، ويعاقب بالإعدام، كل من قام بِ: «زعزعة إخلاص(؟) القوات المسلحة الملكية»!

وقال بعض التقدميين: «نظرا لغموض مفهوم «زعزعة الإخلاص» في المادة 181، يمكن بسهولة مثلاً تجريم كل من انتقد الاغتناء الغريب لبعض المسئولين في الجيش، أو من انتقد ضلوع بعض أفراد الجيش في تهريب السّلع في الجنوب، أو من انتقد سياسة بعث تجريدات عسكرية مغربية إلى بلدان أجنبية، مثلاً قي الخليج العربي، أو في إفريقيا، إلى آخره. والنتيجة هي إلغاء حرية التعبير، وحرية النقد».

وتبعًا للمادة 181، يعتبر خائنا، ويعاقب بالإعدام، كل من «تمكن بأية وسيلة كانت من الحصول على سرّ(؟) من أسرار الدفاع الوطني بقصد تسليمه إلى سلطة أجنبية أو إلى عملائها»!

وقال بعض التقدّميين: «نلاحظ في هذه المادة 181 أنه يكفي ”الحصول على سرّ من أسرار الدفاع الوطني“، ولو لم يحدث بعد فعل تسليم هذا السرّ إلى سلطة أجنبية، حيث يمكن أن تُنسب خطأً، أو زورًا، إلى المتّهم، ”نيّة“ تسليمه، فيما بعد، إلى سلطة أجنبية. فيكون العقاب، ليس على جريمة مرتكبة في الماضي، وإنما على جريمة محتملة في المستـقبل».

وعلى التساؤل: ما معنى «سرّ من أسرار الدفاع الوطني»، تجيب المادة 187: ”أسرار الدفاع الوطني“ هي: «المعلومات العسكرية أو الدبلوماسية أو الاقتصادية أو الصناعية التي توجب طبيعتها أن لا يطّلع عليها إلاّ الأشخاص المكلفون بالمحافظة عليها». ثم تُجرّم هذه المادة إفشاء هذه ”الأسرار“.

وعلّق بعض التقدّميين: «لا ندري كيف يمكن لمواطن عادي أن يعرف أن ”طبيعة هذه المعلومات تُوجب أن لا يطّلع عليها إلاّ المكلفون“. كأن هذا التعريف يقول لنا: أسرار الدفاع الوطني هي المعلومات التي تظهر على أنها أسرار الدفاع الوطني! فلا يُعرّف هذا التعريف أي شيء ! وهذا هو ما يُوصف في اللّغة بالحشو، والتكرار، بلا فائدة (tautologie). زيادة على ذلك، نلاحظ باستغراب أن هذه المادة 187 لا تحصر ”أسرار الدفاع الوطني“ في المعلومات ”العسكرية“، وإنما توسّعها إلى معلومات ”اقتصادية أو صناعية“. وهذه مبالغة، وشطط بعيد عن الحقّ».

وحسب المادة 182، يعتبر خائنا، ويعاقب بالسجن المؤبد، كل من «ساهم عمدا في مشروع لأضعاف معنوية (؟) الجيش أو الأمة»! وطبقا للمادة 183، يعاقب بالسجن من 5 إلى 10 سنوات، كل من «ساهم في مشروع لإضعاف معنوية (؟) الجيش»! وغموض عبارة «إضعاف المعنوية»، يُسهّل تلفيق هذه التهمة إلى النقّاد أو المعارضين السياسيين الذين يتكلّمون عن الجيش! الشيء الذي يُقوّض حرية التعبير، أو حرية النقد.

وتبعًا للمادة 182، يعتبر خائنا، ويعاقب بالسجن المؤبد، كل من «باشر اتصالات (أي نوع من الاتصالات؟) مع سلطة أجنبية أو مع عملائها (ما معنى العميل؟)، وذلك بقصد مساعدتها في خططها (ما معنى الخطّة؟) ضد المغرب (ما المقصود بالمغرب؟)»! والغموض الذي يلفّ هذه المادة قد يبيح تحويل كل اتصال بريء بإحدى مؤسّسات دولة أجنبية، بهدف قضاء أغراض عادية، إلى خيانة يعاقب عليها بالسجن المؤبّد.

12) لماذا الغلوّ في المنع المؤقّت أو النهائي للنّشاط المهني؟

في المادة 48-2، تمنح الدولة لنفسها إمكانية منع أي معارض سياسي من ممارسة نشاطه المهني، خلال 5 سنوات في حالة جُنحة، أو خلال 10 سنوات في حالة جِناية. وهذا يكفي لقتل ذلك المعارض مهنيًا. خاصةً إذا تعلّق الأمر بِمعارض صحافي، أو كاتب، أو فنان، أو رسّام، أو كاريكاتوري، أو مغنّي، أو مسرحي، أو نقابي، أو حزبي، أو جَمْعَوِي، أو ناشط على شبكة الأنترنيت، إلى آخره.

وتُبيح هذه المادة 48-2الحكمَ بِ: «المنع النهائي أو المؤقت من ممارسة نشاط مهني أو اجتماعي، إذا ثبت أن للجريمة المرتكبة علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمزاولة هذا النشاط، وأن ثمة خطر في استمرار ممارسته». ويتجلّى هنا المنهج ”الاستباقي“ للدولة في كونها تُعاقب على جرائم لم تحدث بعدُ في الحاضر، وإنما يُحتمل أن تحدث مستـقبلاً ٍ!

وتضيف المادة 48-3: «حلّ الشخص الاعتباري هو منعه من مواصلة نشاطه، ولو تحت اسم آخر، وبإشراف مديرين، أو مسيّرين، أو متصرّفين آخرين». وتربط المادة 48-4«المنع من ممارسة النشاط» المهني بِ «إغلاق المؤسسة» المعنية، و«حجب الموقع الإلكتروني».

ونجد إمكانية عقوبة «المنع النهائي أو المؤقت من ممارسة نشاط مهني أو اجتماعي» في العشرات من مواد القانون الجنائي.

وعلّق بعض التقدّميين: «نُلاحظ أن الصيغة الفضفاضة التي كُتبت بها هذه المادة 48-2المذكورة أعلاه، تعطي عن قصد للدولة إمكانية تطبيق هذه المادة في حالات لا تُعدّ ولا تُحصى. وبمثل هذا التَّـفَـنّـن القانوني في برمجة القمع، تستطيع الدولة أن تـقضي على كل ناقد أو معارض يُزعجها، مثلما فعلت في الماضي القريب مع صحافيين ناقدين، أو جريئين، خاصةً في ميدان صحافة الاستـقصاء، التي تفضح المخالفات، أو الجرائم، التي تحدث في بعض مؤسّـسات الدولة. ومن بين هؤلاء الصحفيين الذين ”قُتلوا مهنيًّا“، نذكر مثلاً: أبو بكر الجامعي، أو أحمد بنشمسي، أو علي المرابط، أو علي أنوزلا، إلى آخره. ويمكن أن نُسمّي هذا النهج القانوني بالاستبداد النّاعم. لأنه يُعطي للدولة إمكانية لممارسة ”التعسّف في استعمال السّلطة“ بطريقة قانونية. ورغم هذا التحايل، يبقى هذا القمع تحاملاً، ومناقضا لروح العدل، ومنافيا لحقوق الإنسان».

وقال تقدّميون آخرون: «كمثال آخر، يتذكر المواطنون صور الفيديو (vidéo) التي أُذِيعت على شبكة الأنترنيت، خلال السنوات الماضية، والتي أثارت استهجان جمهور الأنترنيت (من طرف قرابة 10 مليون شخص). حيث تُظهر تلك الفيديوهات المنشورة موظفين (مأجورين لدى الدولة) وهم يقبضون الرّشوة، أو يمارسون الضغط للحصول عليها. فجاءت لاحقًا هذه المادة 448-1، ثم المادة 448-2، وكأنها تريد تلافي مثل ذلك الحرج. حيث تجرّم ”كل من قام عمدًا، وبأي وسيلة، بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، بالتـقاط أو تسجيل أو بثّ أو توزيع أقوال أو معلومات صادرة بشكل خاص، أو سرّي، دون موافقة أصحابها“. وأضافت: ”يُعاقب بنفس العقوبة، من قام عمدا، وبأي وسيلة، بتـثبيت، أو تسجيل، أو بثّ، أو توزيع، صورة شخص أثناء تواجده في مكان خاص، دون موافقته“. وعقوبتها تتراوح من 6 أشهر إلى 3 سنوات. وهذا التجريم يمكن أن يردع كل من يفكّر في إمكانية التـقاط صور ”فيديو“ لموظفين آخرين لدى الدولة يتورّطون في أفعال فساد، مثل الرشوة، أو الابتزاز، إلى آخره».

13) هل القانون الجنائي محايد أم متحيّز؟

يقول المحافظون: «القوانين عندنا في المغرب (سواءً كانت جنائية، أم غير ذلك) هي نصوص وضعية (positiviste)، وموضوعية (objectif)، ومُحايدة (neutre)، وعادلة (juste). أي أنها غير متحيّزة لأية فئة مجتمعية، ولا لأي فكر سياسي، ولا لأي دين محدّد».

ويردّ عليهم التـقدّميون: «هيهات! في الواقع، كل المعطيات تدلّ على أن الصراع السياسي، أو الصراع الطبقي، يخترق كل شيء في المجتمع، بما فيه المؤسـسات، والقانون، والقضاء. حيث أن القانون هو تعبير مكثّف، في كلّ فترة تاريخية معيّنة، عن ميزان القوى السياسي القائم بين مختلف الطبقات أو الفئات، التي تتواجد، وتتصارع، داخل المجتمع. وقد يكون هذا الاختراق، حسب الظروف، خفيًّا، أو بارزًا، أو سافرًا، أو عنيفًا. فواضعو ”القانون“ هم أفراد من الطبقات السائدة، أو من خُدّامها. وهذا ”القانون الجنائي“ الحالي يخدم أولا وقبل كل شيء مصالح الطبقات السائدة. والمواطنون الذين تُنـفّذ عليهم عقوبات القانون الجنائي هم في معظم الحالات من الطبقات المسودة. ومهما كانت بنود القانون الجنائي قاسية، فإن هذه البنود لا تضرّ الأفراد المنتمين إلى الطبقات الحاكمة، أو السائدة. لأن ترابط وتشابك مصالح هذه الفئات المُجتمعية، يمنح أفرادها امتيازات كثيرة، وغير مرئيًّة، وأبرزها هو امتياز القدرة على الإفلات من المتابعة القضائية، ومن العقاب القانوني».

وقال آخرون: «من المحتمل أنه، لو كلّفنا مثلاً لجنة مكوّنة في غالبيتها من أشخاص محافظين، بأن يُعِدّوا لنا مشروع قانون جنائي، فإن هذه اللجنة ستنتج نصّا محافظا. وإذا كانت هذه اللجنة مكوّنة في غالبيتها من أشخاص تـقدّميين، أو ديمقراطيين، فإن هذه اللجنة ستنتج لنا نصّا تـقدّميا أو ديمقراطيا. وهذه الظاهرة هي من بين العناصر التي تفسّر اختلاف القوانين في بلدان العالم، مرورًا من دولة إلى أخرى، ومن نظام سياسي إلى آخر. وعليه، لا يقدر القانون على أن يكون، لا موضوعيا، ولا محايدا».

14) هل يجوز نقد أداء القُضاة؟

يَسوقنا منطقيًّا نقد مسودة مشروع القانون الجنائي إلى توسيع مجالات تساؤلاتنا، وإلى التمعّن في دور فئة القضاة، وإلى طرح مسألة مناهجهم في تطبيق القانون القائم.

ورغم ما نكنّه مسبقًا لهيئة القضاة من تـقدير، واحترام، تتلاحق في ذّهننا تساؤلات من النوع التالي: إذا افترضنا أن نصّ القانون الجنائي ، أو المسطرة الجنائية ، جيّد، هل هذه الجودة في النصّ ستكون كافية؟ ألاَ يجب، في نفس الوقت، أن يكون القضاة متحلّين بالحرّية، والنزاهة، والعدل، والاستـقلالية؟ ألا يستوجب نقد مشروع القانون الجنائي توسيع النقد، في نفس الوقت، إلى أداء هيئة القضاة؟

هل كلّ القضاة متساوون في درجات مهنيّتهم، أو خبرتهم، أو جرأتهم، أو نزاهتهم؟ وإذا لم يكن القضاة متساوين في استـقامتهم، ألاَ يعني هذا التّفاوت أن بعضهم، على الأقل، يستحق النقد، أو المراقبة، أو التـقويم، من خلال مؤسّـسات أو هيئات سليمة؟ ألاَ يُفترض في مؤسّـسة مراقبة القضاة أن تكون هي أيضًا مستـقلّة ونزيهة؟ ألاَ يُثبت الواقع الحالي المأزوم للقضاء بالمغرب أن المراقبة التي يمارسها المجلس الأعلى للقضاء على القضاة ليست مُرضية، أو سليمة، أو كافية؟

هل كل الأحكام الصّادرة عن القضاة هي كلّها متساوية في جودتها؟ وهل كل الأحكام التي يصدرها القضاة هي حقّا عادلة؟ وهل المواطنون راضون عنها؟ وهل المناهج التي يشتغل بها القضاة هي كلّها سليمة؟ ولماذا لا يجوز للمواطنين، أو لمحاميهم، أن يناقشوا، أو أن يشتكوا، أو أن ينتـقدوا، أداء القضاة، أو أحكامهم؟ وإذا كان مثل هذا النقد مكروها، أو ممنوعا، ألاَ يعني هذا المنع إضفاء نوع من القداسة على القضاة؟ ولماذا نبيح نقد مجمل المهن المتواجدة داخل المجتمع، ولا نسمح بنقد أداء القضاة؟ وما دام القضاة بشرًا مثل غيرهم، ألاَ تؤدّي بهم طبيعتهم البشرية، من فترة إلى أخرى، إلى اقتراف بعض الأخطاء، أو الانحرافات، أو المخالفات؟ وما دام القضاة خطاءون مثل غيرهم من البشر، أليس السبيل لتـقويمهم هو إخضاعهم، مثل غيرهم، للمراقبة، وللنّـقد، وللمحاسبة، وإن اقتضى الأمر، للمتابعة، أو للتّأديب؟

ويمكن أيضًا أن نتساءل: ما هو العدل؟ ومن هو القاضي؟ أليس القاضي حَكَمًا بين طرفين متنازعين؟ وما هو أساس العدل؟ هل هو القانون، أم وزارة العدل، أم الدولة، أم أن أساس العدل هو خُصوصًا ضمير القاضي، الذي يُفترض فيه أن يكون عادلاً، ومستـقلا، ونزيها؟ وما قيمة أي قاض يفقد ضميره، أو نزاهته، أو استقلاليته، أو جُرأته؟ ومتى، وكيف، يمكن للقاضي أن يكتسب هذا الضمير النّزيه؟ ومن هي العناصر، أو القوى، التي يمكن أن تُفسد ضمير القاضي؟ وكيف نقلّص، أو كيف نبطل، مفعول القوى المُفسدة لضمير القاضي؟ وإذا مَا فسد ضمير قاض، كيف نساعده على إصلاح ضميره؟ وإذا كان القاضي مُتمسّكًا بنزاهة ضميره، هل تـقدر أية قوّة في المجتمع على إفساد أحكامه؟ وإذا لم يكن القاضي مستـقلاّ، على المستويات المادية، والفكرية، والدّينية، والسياسية، عن كلّ القوى المتواجدة داخل المجتمع، بما فيها السلطة السّياسية، هل يستطيع هذا القاضي مقاومة تأثيرات هذه القوى؟ وهل القاضي الذي يفـقد استـقلاليته، أو ضميره، أو نزاهته، هل يقدر على إصدار أحكام عادلة؟ ألاَ يغدو العدل في مثل هذه الحالة عسيرًا، أو مفقودًا، أو مستحيلاً؟

وما هي مهمّة القاضي؟ هل هي التّطبيق الآلي للقانون القائم، أم أنها تحقيق العدالة؟ وما العمل إذا وجد القاضي نفسه أمام بنود قانون غير عقلانية، أو غير عادلة؟ هل يطبقها بشكل آلي؟ هل يسمح لنفسه بتحكيم ضميره الإنساني بدلاً من تطبيق قوانين متجاوزة أو جائرة؟

والمشكل الأساسي، في مجمل البلدان غير الديمقراطية، هو أن الدولة (أو السلطة السياسية، أو النظام السياسي) تستغلّ كون القاضي مأجورًا، (حيث يتوصّل بأجرة شهرية من خزينة الدولة، أي من مداخيل الضرائب)، لكي تُحوّل هذا القاضي إلى أجير عادي، أو خاضع، أو مُسخّر، أو مدجّن. فتجرّد السلطةُ السياسية القاضيَ من استـقلاليته، أو تُؤثّر في ضميره، أو تُسخّره لخدمة هذه السلطة السياسية. وفي حالة حدوث تدجين القاضي، يصبح هذا التّطويع، بالضبط، من بين العلامات المُميّزة للاستبداد السياسي.

=ومشكل العدل في كثير من البلدان غير الديمقراطية، هو أن الدولة لا تـقدر على أن تتصرّف كمؤسّـسة مُحايدة (neutre) في الصّراعات السياسية، أو الاقتصادية، أو الثقافية، أو الطبقية. وإنّما تتصرّف الدولة كمؤسّـسة منحازة لصالح بعض العائلات القوية، أو بعض الفئات المجتمعية السّائدة.

ويُفترض عادةً في القضاة، باعتبارهم مكلّفين بإحقاق العدل بين الناس، (بما فيه الفصل في النّزاعات القائمة بين المواطن والدولة)، يُفترض فيهم أن يكونوا جزءا من الضمير الحيّ للمجتمع، مثل الفلاسفة، أو المفكرين، أو النقّاد، أو العلماء. لكن في تاريخ المغرب، وخصّيصًا خلال عهد الملك المستبد الحسن الثاني، كانت السلطة السياسية تهيمن بشكل مطلق على كل المجتمع، وكذلك على القضاة. وكانت السلطة السياسية تُخضع القضاة، مثل عموم المواطنين، لعملية ”تهيئة الذّهن“ (formatage de l esprit). فقد دجّنت السلطة السياسية مجمل مكوّنات المجتمع، وفرضت حتّى على القضاة أن يقتصر عملهم على تطبيق آلي للقانون، دون الاحتكام لضميرهم. ولا تُمارس الدولة عملية ”تدجين الأذهان“، أو ”كَبْتِها“، فقط على القضاة، بل تُطبّقها كذلك على مجمل المهن الأخرى. الشيء الذي لم يَحُل دون وجود قضاة استثنائيين، جريئين، نزيهين، ومعتبرين. وكمثال على ذلك، فقد حدث عدّة مرّات، أن تجرّأ بعض القضاة، في عهد الملك المستبد الحسن الثاني، على إصدار أحكام مخالفة لما كان يريده هذا الملك، في محاكمات ذات بعد سياسي. وهذه الجرأة تشرّف هيئة القضاة قاطبةً.

وكانت السلطات السياسية العليا في المغرب، تتعامل مع القضاة كمجرّد موظفين، مأجورين، خاضعين، ومسخّرين. كأنّ الدولة كانت تـقول للقضاة: «مهمّتكم يا قضاة هي أن تُطَبِّقوا القانون الذي نعطيه إليكم، وكل الأشياء الأخرى لاَ تدخل ضمن اختصاصاتكم»! خاصة إذا كانت القضية المعروضة على المحكمة تحمل بعدًا سياسيا، أو تهمّ معارضين سياسيين للنظام القائم. أمّا حينما تكون القضية المعروضة على المحكمة تعني شخصيات لها ارتباطات مع أقوى الفاعلين الاقتصاديين أو السياسيين في البلاد، يخشى بعض المواطنين أن يغدو المطلوب من القضاة، ليس هو التطبيق الحرفي للقانون، وإنما هو تطبيق التعليمات الشفوية، أو التدخّلات، أو التلميحات. وحتّى إذا لم يتوصّل القضاة بتلميحات معيّنة من السلطات العليا، أو من القوى النّافذة في البلاد، فإنهم يُدركون مسبقًا ما الذي تنتظره منهم تلك السّلطات.

وغدا مألوفًا أن تفرض السلطة السياسية على القضاة «واجب التحفّظ»، كما لو كان القضاة سفراء أو قَناصِل مقيمين لدى دول مناوئة. وتعطي السلطة السياسية مفهومًا غامضا ومتّسعا لِ «واجب التحفّظ». حيث حوّلت السلطة السياسية «واجب التحفّظ» إلى حيلة لحرمان القضاة من حرّية التعبير. وحوّلت «واجب التحفّظ» إلى ضرورة خضوع القضاة إلى هذه السلطة السياسية ونزواتها. وأصبح معتادًا ألاّ يشارك القضاة، كمواطنين، فيما يجري داخل المجتمع من نقاشات حول القضايا الاقتصادية، أو التنموية، أو الإستراتيجية، أو السياسية، أو الفكرية، أو الدّينية، أو المجتمعية.

وأدّت أبويّة السلطة السياسية تجاه القضاة إلى الإلغاء الضّمني لحقّهم في حرّية التفكير، أو في حرّية التعبير، أو في حرّية التنظيم، أو حتى في حرّية الاختلاط مع المواطنين العاديّين. وغدا من المسلّم به أن القاضي الجيّد هو الذي يعيش منعزلا عن المواطنين العاديين، ولا يدخل معهم في علاقات تلقائية أو طبيعية. ولا يشارك معهم في أنشطتهم الرياضية، أو الثقافية، أو الفكرية، أو السياسية. فهل هذا التوجّه سليم؟ أليس القاضي مثل أي مهني آخر في المجتمع؟ أليس القاضي، قبل كلّ شيء، إنسان، ومواطن؟ أليس من حقّ القاضي أن يتمتّـع بحقوق المواطنة كاملة؟ قد يقول قائل أن بلدان أخرى عديدة تعمل بمثل هذه الأساليب الموجودة داخل المغرب. لكن هل العمل بهذه الأساليب في بلدان أخرى عبر العالم يشكّل حجّة كافية لتـقليدها، دون فحصها، أو إخضاعها للعقل النقدي؟

وأحسن مثال معبّر عن عتاب بعض المواطنين للقضاة، هو أن أستحضر هنا بعض الأحداث المأخوذة من تجربتي الشخصية. وهي بمثابة شهادة حيّة ومباشرة. فحينما كنتُ مهندسًا شابّا، خلال سنوات 1970، وبسبب انتمائي للمعارضة السياسية، أصبحتُ متابعًا، ثمّ تعرضتُ للاختطاف، أي للاختفاء القسري، وخضعتُ لتعذيب هو أعنف وأقسى من تعذيب المسيح، خلال سنة ونصف، داخل مركز الاعتـقال السّري المُسمّى درب مولاي الشريف بالدار البيضاء. وكانت الدولة تعتبر هذا الاختفاء القسري مجرد «اعتـقال احتياطي». وكان البوليس يستعملون التعذيب كوسيلة عاديّة وشرعية لِ «التحقيق» مع المتّهمين. وكان البوليس يعنون بِ «التحقيق»، ليس البحث عن الحجج الملموسة في أمكان الأحداث، وإنما يعنون به التفتيش داخل دماغ المتّهم بواسطة التعذيب. وكان البوليس يعتبرون هذا التعذيب كَ «عقاب شرعي»، ولو أنه يحدث قبل لحظة النّطق بحكم المحكمة. ورغم أن مجمل مسئولي الدولة كانوا ينفون رسميا، وقطعيا، وجود معتقلين سياسيين، وجود التعذيب في المغرب، فإنهم كانوا يعتبرون، داخل عمق أنفسهم، أن التعذيب هو «عقاب شرعي» ضدّ كُل متّهم أو مجرم، وخاصّة إذا كان هذا المجرم متّهما بمعارضة النظام السياسي القائم.

وقد أوصلني الجلّادون مرارًا وتكرَارًا إلى حافة الموت. وكانوا ينقلونني إلى قسم سرّي في مستشفى ابن سينا بالرباط لتلافي موتي، ولاسترجاع بعض القوة، ثم يعيدوني إلى التعذيب في المعتـقل السّري. ولم أعرف التهم الموجّهة إليّ، ولم أحاكم، إلاّ بعد مرور قرابة ثلاثة سنوات على بداية اعتـقالي (أي اختطافي). (مثلما يحدث لمعتـقلي غوانتانامو ). وكنتُ متّهما بالمسّ بأمن الدولة، والإعداد لحرب أهلية. ومنذ بداية اعتـقالي، وحتى خلال السنتين الأوليين لِتواجدي في السجن الرسمي، وُضعتُ في عزلة انفرادية مطلقة ومتواصلة. ودامت هذه العزلة قرابة ثلاثة سنوات ونصف. وأثناء المحاكمة، كان القاضي يصدّق كل ما ورد في محاضر الشرطة، ويتعامل معها كحقيقة مطلقة. وكان القاضي يرفض بشكل مطلق كل طلب يعبّر عنه المتّهم أو محاميه، لكي لا يؤدّي هذا الطلب إلى التّشكيك في نزاهة محاضر الشرطة القضائية.

وكمثال على عدم التزام البوليس باحترام القانون، كان هؤلاء البوليس لا يقومون بإجراءات ”المسطرة الجنائية“ الضرورية في مجال ”الاعتـقال الاحتياطي“. (فلم يكونوا مثلا يحصلون على توقيع فعلي من طرف وكيل الملك، يُبيح تجديد، أو تمديد، مدّة ”الاعتقال الاحتياطي“، إلاّ في نهاية هذا ”الاعتـقال الاحتياطي“، أي قُبيل نقل المتّهمين من مركز الاعتـقال السّري إلى السجن الرّسمي. وكان وكيل الملك لا يكلّف نفسه أبدا عناء زيارة المتهمين، ولا التأكّد من اعتقالهم في مكان قانوني، كما لا يتأكّد من عدم تعريضهم للتعذيب). ثم حُكم عليّ بالسجن المؤبّد النافذ، دون أن يستمع إليّ القاضي، ودون أن يسمح إليّ بالدّفاع عن نفسي. وكان ذنبي هو المشاركة في الطّموح إلى تغيير النظام السياسي الفاسد الذي فرضه الملك المستبد الحسن الثاني. وقضيتُ قرابة 18 سنة في السجن. ثم أُفرج عنّي بعفو ملكي شامل. كأن هذه المحنة التي عشتُها كانت مجرد نُـكتة سوداء، أو عبثًا، أو خطأ تـقنيا محضا. وعاش عشرات الآلاف من المواطنين الآخرين مصيرًا يشبه مصيري إلى هذا الحدّ أو ذاك.

وعليه، إذا كانت القوانين الرسمية للدولة موضوعة فقط للتّجميل، أو للمُغالطة، وإذا كانت القوانين المعمول بها هي شئ مخالف، أو مناقض لما هو معمول به، فهذه المفارقة، لا تُثير لدى كثير من المسئولين في الدولة، أي حرج واضح، ولاَ أية أزمة أخلاقية.

وهكذا، وفي عهد الملك المستبد الحسن الثاني، رأيتُ، في العديد من محاكمات المعارضين السياسيين، كيف كان القضاة يطبّقون قوانين من صنفٍ «كل ما من شأنه المسّ بأمن الدولة». ورأيتُ كيف كان معظم القضاة يتعاملون مع محاضر البوليس السياسي (أي الفرقة الوطنية للشرطة القضائية ) كأوامر مقدّسة، أو كتعليمات، أو كتوجيهات مُلزمة. حيث كان القضاة لا يهتمّون بفحص الحجج الملموسة، وإنما كانوا يشعرون كأنهم مجبرين قانونيا على مسايرة تـقارير البوليس، أو الخضوع لها، أو التـقيّد بها، رغم كلّ ما كان يتخلّل هذه التـقارير من هفوات، أو مبالغات، أو تحاملات، أو مغالطات، أو خروقات. ورأيتُ كيف كان أفراد الأجهزة الأمنية السّرية يُرهبون كل المؤسّـسات، بما فيها جهاز القضاء. وبهذا الصّدد، أتذكر مثلاً، أثناء نقلي من مركز الاعتقال السّري إلى السّجن الرسمي، أن جلادي المعتـقل السّري «درب مولاي الشريف» دخلوا معي إلى مكتب وكيل الملك، وأمام هذا الأخير، كانوا يشتمونني، ويهدّدوني بإرجاعي إلى التعذيب، إذا لم أوقّع على المحضر الذي يريدون إجباري على توقيعه. وذلك دون أدنى اعتراض، أو احتجاج، من طرف وكيل الملك. وكانت مثل هذه الهيمنة المطلقة للأجهزة القمعية تُعتبر آنذاك عادية، بل مبرّرة قانونيا.

لكن بعد ظهور منتدى الحقيقة والإنصاف (كهيئة لضحايا القمع) في قرابة سنة 1992، وبعد تكوين الدولة لِ هيئة الإنصاف والمصالحة (وهي هيئة رسمية)، ثم تكوين المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ، إنتهت الدولة، في آخر المطاف، إلى الاعتراف بأن الحالات التي أُرتـكبت فيها الدولة بالمغرب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بين سنوات 1960 و1990، سواءً أثناء الاعتـقال الاحتياطي، أم التحقيق، أم المحاكمة، أم تنفيذ العقوبة، كانت شائعة، ويفوق عدد ضحاياها قرابة 000 30 شخص. وهي في معظمها مُوثّـقة الآن بالشّواهد والوثائق لدى المجلس الوطني لحقوق الإنسان (وهو هيئة رسمية).

وتحوّلت عملية «العدالة الانتـقالية» المزعومة في المغرب إلى مغالطة كبرى. حيث لم يتم لاَ إبراز «الحقيقة»، ولاَ تحقيق «الإنصاف». فتحوّلت «المصالحة» إلى مخادعة. وقد سُمح للضحايا بالتعبير عن شكاواهم، لكن كل الجلادين، أو المعذّبين، وكذلك مرؤوسيهم، رفضوا كشف هويّاتهم، ورفضوا الخضوع إلى أية مساءلة. ولم يخضع أي واحد منهم لاَ للمحاسبة، ولاَ للمتابعة. وذلك ربّما خوفًا من أن تُؤدّي محاسبتهم إلى اتهام مجمل السلطات العليا في البلاد. وحتى «توصيّات هيئة الإنصاف والمصالحة»، ورغم نقائصها، فإنها بقيت حبرًا على ورق. وإلى حدّ الآن، تدلّ مجمل المؤشّرات على أن النظام السياسي لا يتوفّر على إرادة حقيقية لاتّخاذ الإجراءات اللازمة لكي لا تتكرّر تلك الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان. وقد ساهمت «هيئة الإنصاف والمصالحة»، وكذلك «المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان» في هذه المغالطة. سواءً بوعي، أم بدون وعي. وفُسّرت الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت بكونها مجرد «استعمال مبالغ فيه للأجهزة القمعية»، أو «استعمال غير متكافئ للقمع». كأنها مجرّد أخطاء تـقنية، أو جزئية، أو عابرة. بينما الحقيقة هي أن تلك الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان ظلّت، على امتداد قرابة 30 سنة، سياسة عامّة، واسعة النطاق، إرادية، واعية، منظمة، متواصلة، وممنهجة. وكانت الدولة تخصّص لها ميزانيات ووسائل لوجستية ضخمة. ويمكن لنفس الأسباب، أن تعيد في المستـقبل، إنتاج نفس الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان.

ولم يكن المتواطئون في هذه الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان هم فقط أفراد الشرطة القضائية ، أو الأجهزة القمعية المتنوّعة، أو وزارة الداخلية، بل أيضا النيّابة العامة، ووكلاء الملك، وكذلك القضاة، وإدارة السجون، ووزارة العدل، و«وزارة حقوق الإنسان»، والبرلمان، والحكومة، و مديرية مراقبة التراب الوطني ، و المديرية العامة للدّراسات والوثائق ، و المخابرات العامة ، والإعلام العمومي، والصحافة المناصرة للدولة، والأحزاب الموالية للنظام السياسي القائم، إلى آخره! كلّهم كانوا يعرفون ما يجري، وكلّهم لزموا الصمت. بل بعضهم شارك في نفيها بحماس كبير. ورغم جسامة كل تلك الخروقات، وإلى حدّ الآن، لم يُقدّم بعدُ، ولو ضمير حي واحد، من بين تلك الهيئات المذكورة سابقا، نقدًا ذاتيا، ولو رمزيا. ولم تـقدّم الدولة بعدُ إلى الشعب ضمانات قانونية، جدّية، ملموسة، فعّالة، وكافية، لكي لاَ تتكرّر مثل هذه الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان. فإلى متى سيـستمرّ شعب المغرب في مثل هذه العقليات، والسلوكيات، والخروقات؟

أتمنى أن يتحوّل كلّ قاض إلى ضمير مجتمعي متميّز بحرّيته، وباستـقلاليته الفكرية، والأخلاقية، والقيمية، عن السلطة التنفيذية، وعن مجمل مؤسّسات الدولة، والقوى الأخرى المتواجدة داخل المجتمع. وأرجُو أن يسترجع القضاة حقهم في حريات المواطنة. وآمُلُ أن يتجرّأ القضاة على رفض حصر دورهم في تطبيق آلي لقوانين تُثير أكثر من جدل. وأتمنى أن يتجرّأ القضاة على قول كلمة «لاَ!» ضدّ كل ظلم، ولو كان الفاعل الذي اقترف هذا الظلم هو السلطة السياسية، أو الدولة. وأنتظر ألاّ تبقى استـقلالية السلطة القضائية ، المنصوص عليها في الدستور، مجرد كلام سطحي موضوع لتجميل النظام السياسي القائم([1]). وأتمنى أن يجد القضاة، فُرادا وجماعات، الصّيغ العملية الملائمة، التي تُمكّنهم من التعبير الحرّ عن آرائهم حول مضامين القوانين، وفعاليتها، وملائمتها، وعدالتها([2]). وحتى إذا كان القضاة مجبرين على تطبيق القوانين كما هي (في انتظار تعديلها)، وحتى إذا كان القضاة مجرّد سلطة قضائية (وليس سلطة تشريعية)، أتمنى أن يتجرّأ القضاة، في نفس الوقت، كمواطنين متمتّعين بكامل حرّيات المواطنة، على شجب كل قانون يتنافى مع روح العدل، أو مع حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا.

15) ملاحظات جزئية أو معزولة

((لم يكتمل بعدُ البحث في هذا الجزء من المقال، ويمكن تطويره في صيغة لاحقة)).

- في مجال تجريم ومعاقبة الإثراء غير المشروع :

بقيت مسودة مشروع القانون الجنائي دون المستوى المطلوب في مجال معاقبة الإثراء غير المشروع. فمثلاً المادة 529 التي تعاقب «من وُجدت في ملكيته أموال لا تتناسب مع حالته الاجتماعية أو المهنية»، تشترط (في إصدار العقوبة) أن يكون هذا المتهم قد حُكم عليه «منذ مدة تـقلّ عن عشر سنوات ...بالاختلاس أو الغدر أو الرشوة أو استغلال النفوذ...». كأن هذه المادة تُصرّ على العفو عن الجناية أو الجنحة الأولى. والمادة 531 لا تحكم بمصادرة الأموال إلاّ إذا «لم يستطع المحكوم عليه أن يثبت حصوله عليها من مصدر مشروع». بينما كان ينبغي أن يُكتب في هذه المادة: «تُصادر كل الأموال المعنية إذا أثبتَ التحقيقُ أن هذه الأموال مُحصّل عليها من مصدر غير مشروع»! وتُعفي المادة 534، وبدون حقّ، «السارق إذ كان المال المسروق مملوكا لأحد فروعه»!

وفي المادة 574-2، التي تحدّد الجرائم، وفي سطرها: «6- الرشوة والغدر واستغلال النفوذ واختلاس الأموال العامة والخاصة»، يجب تعويض حرف «و»، بكلمة «أو».

- في مجال خرق حقوق الإنسان :

المادة 124 تقول: «لا جناية، ولا جنحة، ولا مخالفة، في الحالات الآتية: 1) إذا كان الفعل قد أوجبه القانون، أو أمرت به السلطة المختصّة؛ 2) إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة، أو كان في حالة استحال عليه معها، استحالة مادية، اجتنابها، وذلك لسبب خارجي لم يستطع مقاومته». يجب حذف هذه المادة لأنها تلغي القانون، وتلغي العدل، وتُبيح، بل تبرّر الإفلات من المساءلة، ومن العقاب، لمجمل الأفراد والقوات الأمنية، سواءً أثناء التحقيق، أم التعذيب، أم خلال قمع المظاهرات، أو غيرها من العمليات الأمنية.

- وفي المادة 537 المتعلّقة بِ «انتزاع توقيع ... بواسطة القوة أو الإكراه»، أو بواسطة خيانة الأمانة (في المادة 553، والمادة 554)، ينبغي الإشارة إلى أن هذه المواد تنطبق أيضا على قوى أمن الدولة، وعلى موظفي الشرطة القضائية، ومن شابههم، الذين ينتزعون توقيعًا على محضر بواسطة الإكراه، أو التعذيب، أو عبر التهديد به.

- وفي المادة 590 المتعلّقة بِ : «ارتكاب أعمال عنف أو إيذاء»، يجب الإشارة إلى أن هذه المادة تنطبق أيضًا على قوى الأمن، وعلى أفراد الشرطة القضائية، ومن شابههم.

- اقتراح إضافة تجريمات أخرى :

- بمناسبة مراجعة القانون الجنائي، يُستحسن تجريم فعل القيام بتبادل اقتصادي، أو المشاركة في إنجازه، مع الكيان الإسرائيلي الصهيوني، (سواءً كان هذا التبادل الاقتصادي استيرادا أم تصديرا، وسواءً كان مباشرا أم غير مباشر)، إذا لم يحصل هذا التبادل الاقتصادي على رخصة خصّيصة، مسبقة، ومكتوبة، من طرف الحكومة، تُجيز كلّ تبادل اقتصادي بعينه.

- اقتراح تجريم تشغيل المِجْهَار ، أي مُكبّرات الصوت (Haut-parleurs)، التي تُضخّم الصوت، في الأماكن الآهلة بالسكان، سواءً خلال الأعراس، أم الحفلات، أم على صوامع المساجد، أو فوق سيارات الإشهار، إذا كانت هذه المكبّرات للصّوت تضرّ بحاسّة سمع المواطنين، أو تزعج السكان، أو إذا اشتكى منها السكان وطالبوا بتخفيض قوّتها دون أن يُلبّي صاحبُ مكبّر الصّوت طلبَهم. ويمكن مثلاً أن نُحدّد تكبير الصوت المضرّ بالسكان بكونه هو كل صوت يُحدث أكثر من 40 دِيسِيبَلْ (ِDéciBel) أو (dB)، على بُعد 100 متر من نقطة وجود مكبّر الصّوت. (للمقارنة: ثقّابة الصخور، التي تعمل بالهواء المضغوط، تحدث في عين المكان 90 ديسيبل، وطريق سيّار تمرّ منه سيارات عديدة يُحدث قربه 70 ديسيبل).

- وفي المادة 593، المتعلّقة بالنظام والأمن العام، وفي النقطة التي تـقول «8- مرتكبو الضجيج أو الضوضاء أو التجمع المهين أو الليلي الذي يقلق راحة السكان»، يجب الإشارة إلى أن هذه المادة، أو النقطة، تنطبق أيضا على مكبّرات الصوت المستعملة في الأعراس، وفي الحفلات، أو فوق صوامع المساجد، أو فوق سيارات الإشهار.

- تجريم تحايل شركات الهاتف المحمول :

بالغ الشركات التي تبيع خدمات الاتصالات بالهاتف المحمول في التحايل والكذب على المواطنين، في غفلة تامّة من الحكومة. وتربح ملايير الدراهم بواسطة هذا التحايل. حيث تبعث رسائل مكتوبة عبر الهاتف المحمول إلى زبنائها، وتخبرهم في هذه الرسائل مثلاً أنهم إذا قاموا بتعبئة 50 درهم مثلا، فإنهم سيحصلون على 250 درهم. لكن بعد مرور مدة يوم، أو يومين، أو ثلاثة، حسب الحالات،على تلك التّعبئة، يصبح فجأة رصيد الزبون هو فقط 50 درهم، أو حتى صفر درهم. حيث لا تخبر، أو لا توضّح، الشركة للزبناء أن هذا العرض لا يصلح سوى خلال 24 ساعة، أو خلال يوم واحد، أو يومين، حسب الحالات. وهذه الممارسة تتنافى مطلقًا مع روح القانون، وتخرق الدستور. حيث أن بيع بضاعة معيّنة لا يُعقل أن يكون مشروطا. والمشتري له حق التمتّع باستهلاك كل البضاعة التي اشتراها. ولا يحقّ للشركة التي باعت البضاعة أن تستغلّ كون البضاعة تبقى مكتوبة في لوائحها لكي تتلاعب بهذه البضاعة، أو تنقص منها، أو تسترجعها، جزئيا أو كلّيا.

- المادة 528 تعاقب من عثر على «كنز» دون إخبار السلطة المختصّة. وكان الأحسن هو أن تتحدث المادة عن «من عثر على آثار أو أشياء ذات قيمة أركيولوجية أو تاريخية»!

16) خــلاصـات جـزئـيـة

تناولتُ مسودة مشروع القانون الجنائي من زوايا محدودة فقط. وبالتّالي، فهذا النقد للمسودة لم يكتمل بعدُ. وزيادةً على ذلك، اضطُرِتُ إلى نشر الصيغة الأولى لهذا النقد، رغم عدم اكتمالها، بسبب ضغط الآجال المفروضة من طرف وزارة العدل، التي تجمع الملاحظات والانتـقادات، وتـقول أنها تريد التفاعل معها. على الأقل لكي لا تـقول الوزارة أنه: «لو توصّلنا بهذه الملاحظات داخل الآجال المحدّدة لَأخذناها بعين الاعتبار»! ومن المحتمل أن أنشر فيما بعد صيغة أخرى أكثر اكتمالا. وفي ما يلي بعض الخلاصات الجزئية :

1- في تناغم مع التطورات التي حصلت في منظومة العدالة أو القضاء في الولايات المتحدة الأمريكية، (بعد الحدث الإرهابي الذي وقع في 11 شتنبر 2001)، وقد انتشرت هذه التطوّرات جزئيا إلى أوروبا، نلاحظ أن مسودة القانون الجنائي بالمغرب تتّجه، هي أيضا، نحو شنّ ”حرب وقائية أو استباقية“، ضد كل من تعتبرهم الدولة مناوئين، أو خصومًا، أو أعداء محتملين لها([1]). حيث نلاحظ توسّعا غير مبرر في مفهوم الجريمة، وفي توصيفها، وفي تحديد مسئوليات المتّهمين. ونلاحظ تجريم تصرّفات متزايدة كانت من قبل تُعتبر عادية. كما نلاحظ تشدّدا في العقوبات. ويعتمد مشروع القانون الحالي على ”افتراض وجود نيّة إجرامية“ مُسبقة، دون أن يحدد هذا القانون تجلّياتها، أو كيفية إثباتها، أو قيّاسها. كأن الدولة، في مواجهتها للجريمة أو للتّطرّف الإرهابي، تـقبل بأن تكون هي أيضا متطرّفة في مناهجها. وكون الدولة مهووسة بحفظ الأمن والاستـقرار، يدفعها إلى الإفراط أو التشدّد في ”الوقاية“. وتتحوّل العقوبة (الحبسية) من عقاب قضائي على فعل إجرامي وقع في الماضي، إلى عقاب على احتمال ارتكاب جرائم ممكنة في المستـقبل. مثلما في حالة معتـقلي غوانتانامو ، الذين يختطفون، ويعتـقلون، ويعذّبون، خلال سنوات، قبل إثبات جرائمهم. وهكذا، باسم الدفاع عن المواطن، تنحرف الدولة نحو اضطهاد المواطن.

2- خلال عهد الملك المستبد الحسن الثاني، أي إبّأن ”سنوات الرّصاص“، وبشهادة «هيئة الانصاف والمصالحة» (الرسمية)، كان النظام السياسي القائم بالمغرب يقمع بشكل فجّ، دون اكثرات بالقانون، عبر ممارسة انتهاكات جسيمة ومفضوحة لحقوق الإنسان. فتعرّض هذا النظام لانتـقادات هيئات حقوقية عالمية. فاستفادت الدولة من هذا الدرس، وأنتجت اليوم هذه المسودة لمشروع القانون الجنائي، وسجّلت فيه ترسانة ضخمة من البنود التي تمكّن النظام السياسي من أن يكبت الكثير من الحرّيات، ومن أن يقمع، بشكل قانوني هذه المرّة، كل من يخالفه، أو يضايقه، أو يزعجه، أو ينتـقده، أو يعارضه، أو يرغب في تغييره. كما أن هذا المشروع للقانون الجنائي يمكّن الحركات الإسلامية المتعصّبة من قمع كل من يخالفها في الآراء، أو في المعتـقدات، أو الأذواق، وذلك بقوة القانون القائم. والفرق بين الماضي والحاضر، هو أن القمع كان يمارس بشكل مناف للقانون، والآن سيمارس طبقا لقانون مكتوب وقائم. لكن هذه اللعبة لن تخدع إلاّ من يقبل بأن يكون مخدوعا.

3- في مسودة القانون الجنائي (لسنة 2015)، جاءت حكومة عبد الإله بنكيران (ذات الأغلبية الإسلامية) بشيئين بارزين: أوّلاً، مضاعفة وتشديد جرائم المس بأمن النظام السياسي الملكي القائم؛ وثانيًا محاولة فرض أسلمة المجتمع والدولة، عبر تجريم سلوكيات تعتبرها تيارات الإسلام السياسي الأصولي بأنها مسيئة لمشاعر المسلمين. وقد تعبّر هاتين السّمتين عن نشوء تحالف سياسي من صنف جديد بين القصر الملكي من جهة، ومن جهة أخرى أمراء حركات الإسلام السياسي الأصولي. وينبني هذا التوافق أو التحالف على المعادلة التّالية: تـقوّية أمن واستـقرار النظام السياسي الملكي، مقابل تـقوية أسلمة الدولة والمجتمع.

عبد الرحمان النوضة (انتهى تحريره في 18 يونيو 2015، بالدار البيضاء).

--------------------------------------------------------------------------------

الهاوامش:

(1) خلال يوم الإثنين 20 أبريل 2015.

(2) في مدينة الرباط، النّدوة الأولى خلال يوم الأربعاء 15 أبريل، والثانية خلال الثلاثاء 28 أبريل، والثالثة في الحسيمة في خلال يوم الأحد 12 أبريل 2015.

(3) النّدوة الأولى في الدار البيضاء خلال يوم الجمعة 17 أبريل 2015، والثانية في الرباط خلال يوم الثلاثاء 28 أبريل 2015 بالرباط، والثالثة في الرباط خلال يوم الجمعة 8 ماي 2015.

(4) ندوة خلال يوم 24 أبريل 2015.

(5) ندوة في مدينة تمارة خلال يوم السبت 9 ماي 2015.

(6) ندوة في الرباط، خلال يوم5 ماي 2015.

(7) ندوة خلال يوم الأربعاء 13 ماي 2015.

(8) ندوة خلال يوم الاثنين 15 يونيو 2015.

(9) ندوة خلال يوم الجمعة 15 أبريل 2015.

(10) في يوم 24 يونيو 2015، نشر المكتب التنفيذي لِ ”الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان“ بلاغا يندّد فيه «الإقصاء التعسفي للقاضي محمد الهيني من الترقية المهنية في جدول سنة 2015، رغم حقّه في هذه الترقية كحق لا يجوز المساس به». واعتبر البلاغ أن هذا الحرمان هو «ك"سيف" مسلط على مجموعة من القضاة بقصد المس باستقلاليتهم».

(11) سبق لبرلمانـيّي حزب العدالة والتنمية الإسلامي أن احتجّوا بصخب، وطالبوا بطرد صحافية مصوّرة من داخل قاعة البرلمان، وذلك بدعوى أن لباسها يسيء إلى مشاعرهم كمسلمين... وفي بداية شهر يونيو 2015، في مدينة إنزكان في جنوب المغرب، هاجم أشخاص مجهولون شابتين كانتا ترتديان تنّورات (juppe) قصيرة شيئا ما، وذلك بدعوى أنهما يستفزّان الرجال بِ لباسهن الفاضح . وتدخلت قوات الأمن، واعتقلت الشابتين خلال 24 ساعة. ثم أطلقت سراحهن، مع متابعتهن أمام المحكمة بتهمة الاخلال بالحياء العام .

(12) Charles Darwin, De l origine des espèces , publié en 1859.

(13) سبق للكاتب أن أقترح حلاّ لمعالجة مسألة العلاقات الجنسية، الناتجة عن التفاوت الكبير بين سنّ البلوغ المبكر، وسنّ الزواج المتأخّر. أنظر كتابه:

Abderrahman Nouda, L Ethique politique, Chapitre: La sexualité, p.160. Ce livre peut être téléchargé à partir du site : http://LivresChauds.Wordpress.Com.

(14) أنظر كتاب عبد الرحمان النوضة بعنوان: نقد الشعب والأصولية واليسار والدولة .

(15) الآية «الرجال قوّامون على النساء» (النساء، 34).

(16) أنظر مقال عبد الرحمان النوضة: تحليل دستور المغرب لسنة 2011، هل هو ديمقراطي أم استبدادي؟ ، ويمكن تنزيل هذا المقال من الموقع الإلكتروني: (http://LivresChauds.Wordpress.Com).

(17) بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال، جاء في أخبار نهاية شهر ماي 2015 الإعلان عن تأسيس: جمعية حقوق وعدالة ، مكوّنة من قضاة ومحامين، وتهدف إلى «رصد المحاكم ونشر الأحكام». كما أُسّـس الإئتلاف المغربي للجمعيات المهنية القضائية ، ويهدف إلى «تحقيق استـقلال كامل للسلطة القضائية، ... ومناهضة التضييق على الحرّيات واستهداف القضاة». ويضم هذا الإئتلاف كلاّ من الجمعية المغربية للنساء القاضيات ، و نادي قضاة المغرب ، و الودادية الحسنية للقضاة .

(18) أنظر مقال:

Mireille Delmas-Marty, La démocratie dans les bras de Big Brother , publié dans le journal Le Monde , du samedi 6 juin 2015.

--------------------------------------------------------------------------------




[1] أنظر مقال: Mireille Delmas-Marty, La démocratie dans les bras de Big Brother , dans le journal Le Monde , du samedi 6 juin 2015.[2] بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال، جاء في أخبار نهاية شهر ماي 2015 الإعلان عن تأسيس: جمعية حقوق وعدالة ، مكوّنة من قضاة ومحامين، وتهدف إلى «رصد المحاكم ونشر الأحكام». كما أُسّـس الإئتلاف المغربي للجمعيات المهنية القضائية ، ويهدف إلى «تحقيق استـقلال كامل للسلطة القضائية، ... ومناهضة التضييق على الحرّيات واستهداف القضاة». ويضم هذا الإئتلاف كلاّ من الجمعية المغربية للنساء القاضيات ، و نادي قضاة المغرب ، و الودادية الحسنية للقضاة .