كلنا غرقي في بحر الرأسمالية


أحمد محمد منتصر
2015 / 9 / 3 - 13:35     

لم يعُد البحر مجرد حاوِ للأسرار و مكنونات النفوس لدي البشر كما حدثونا في الروايات بل أصبح حاوياً للبشر أنفسهم , فأخذ يبتلع تلك النازحين من جحيم الفقر , وتلك الفارّين من نيران القصف و الميليشيات , و تلك المُحمّلين بأحلامِ لم يجدوا لها مأوي سوي البحر , و كأن أحلامهم هذه أوزاراً ثقُلت علي عاتقهم حتي أودت بحياتهم بالنهاية بالغرق !
و نحنُ الآن أمام جريمة قتل ممُنهج لمئات من البشر فرّوا من جحيم إلي غرق , ولكن هذه ليست البداية و أيضاً ليست النهاية , فعلي مرّ التاريخ توافد علينا الضحايا أمام أعيننا بأبشع المناظر و أبشع طرق القتل التي تُمارس علي الإنسانية كلها و نحنُ ما علينا سوي البكاء عليهم و علي مصيرهم و فقط ننتظر ضحايا جُدد , ولكن إذا ربطنا هذه الأحداث و الوقائع بنظيراتها من الجرائم التي تُرتكب في حق البشرية القاطنة لهذا الكوكب سنجد بكل بساطة أن هذا المصير محتوم و مُتعارف عليه ما دُمت سابحاً في بحر الرأسمالية .
هؤلاء الغرقي و من سبقوهم و من أيضاً سيلحقوا بهم هم في الأصل واقعين تحت وطأة الرأسمالية و توحشها , و ها قد جاء في مُخيلتهم أن ما عليهم هو الفرار من الحرب إلي مكان آمن و لم يحسبوا مصيرهم المُردي هذا , فالأجدر بنا الآن أن ننُحللّ هذه الوقائع و أسبابها و نسأل لماذا كل هذا التخاذل من الإتحاد الأوروبي في مواجهة اللاجئين ؟ لماذا الخوف من الهجرات المتكررة ؟ لماذا تزايدت معدلات الهجرة ؟
فنجد أن خلال الأيام القليلة الماضية لقى 450 شاباً وشابة من الأفارقة، ينتمون إلى إريتريا وجنوب السودان ونيجيريا وتشاد ومصر وغانا، مصرعهم غرقاً قرابة السواحل الإيطالية فى حادثين منفصلين، لأن فرق الإنقاذ التابعة لدول جنوب أوروبا تقاعست عن إنقاذهم , فى إطار عملية تواطؤ غير إنسانى تنظمها سياسات أوروبية غير معلنة تتزعمها بريطانيا، ترى أن محاولات إنقاذ هؤلاء سوف تغرى المزيد من المهاجرين الأفارقة الذين يحلمون بفرصة عمل وحياة فى أى من الدول الأوروبية على القدوم فى موجات هجرة متتابعة بلغت ذروتها هذا العام، وربما يدفع غرق هؤلاء , الآلاف من أمثالهم الذين ينتظرون فى مدن السواحل الليبية فرصة ركوب البحر إلى أوروبا إلى إعادة التفكير فى حلمهم الصعب والعودة إلى ديارهم الأصلية ، لكن ما يحدث على أرض الواقع بالفعل أن أحداً من هؤلاء لا يعود إلى دياره، حيث البطالة والفقر والجوع وندرة فرص العمل وتسلط حكومات ديكتاتورية تصادر حريات الأفراد وتسىء معاملتهم، بل لعل الجميع يرون أن العودة إلى الديار أشد قسوة من الموت غرقاً على مشارف الساحل الأوروبى .
كل هذه الأعداد من آلاف الضحايا الذين لقوا حتفهم علي السواحل الأوروبية , و مع تزايد معدلات الهجرة لأوروبا و أمريكا , نجد أننا أمام حقيقة و هي أن الهجرة أصبحت تظاهرة عالمية يقودها الآلاف من مواطنين الكوكب القابعين في مناطق إستنزاف الموارد الطبيعية و البشرية من قِبل حكومات وضيعة تعمل علي نقل الثروات و تجميعها و إحتكارها و إتاحتها للمالكين زمام الأموال و سلبها من المعدومين , فأصبحت الهجرة واجب نضالي أكثر من مصلحة شخصية , فنجد التدفق الأكبر و الغير مسبوق في تاريخ القارة الأوروبية للمهاجرين لأوروبا في الشهور الأربعة الأولي من عام 2014 حيث تم رصد ما يقرب من 25 ألف مهاجر إلي إيطاليا و بنما فقط في حين أن عدد المهاجرين الغير شرعيين إلي أوروبا عامة خلال عام 2013 لم يتجاوز الـ 40 ألف مهاجر , و ياللعجب فالآن أوروبا و أمريكا - قارات المُهاجرين - الذين سكانهم الأصليين من المهاجرين و العابرين للبحار يتعّنتون من الهجرة إليهم , فأوروبا تلك نجد أن دول الجنوب منها تحتاج سنوياً لأعداد من اليد العاملة المهاجرة الرخيصة و لكن عندما يأتي المهاجر لاجيء تُعلّق له المشانق !
مشكلة اللاجئين و المهاجرين عموماً أصبحت لعبة قذرة تتشارك فيها القوي الوضيعة الحاكمة للعالم , و لن تُحلّ تلك المشكلة إلا فقط بفتح الحدود لإنتقال البشر و إعتبار هذا حق طبيعي لكل كائن , و أن هذه الحظائر المسيجة بالحدود التي وضعونا فيها بِسم الوطنية والقومية ساقطة بشكل طبيعي طالما هي مفتوحة أمام الشركات لتنهب الموارد والأموال وتصدر الأسلحة والبضائع ومغلقة في وجه الفقراء , و في نهاية المشهد الأليم تخرج علينا الحكومات و البرلمانات و الأمم المتحدة بالتنديد بالمُهرّبين معدومي الضمير و واجب ملاحقتهم , و هم خلف الستار هم شركاء للحكومات الداعمة لرجال الأعمال الذين يُحققون أرباحهم و أرباح داعيمهم من الدول من " تجارة السلاح " .
فأوروبا التي تبلغ مبيعات أسلحتها 20% من إجمالي مبيعات الأسلحة في العالم تعبر عن حزنها الشديد لأحوال اللاجئين وتدعو إلى ملاحقة عصابات التهريب , وتشاطرهم في الحزن الولايات المتحدة التي تمتلك حصة 30% من إجمالي مبيعات الأسلحة ، أما روسيا فهي تشاطر خصومها أيضاً حزنهم على الموت العلني للمهاجرين وتمتلك حصة 27% من مبيعات السلاح عالمياً , أما الأمم المتحدة التي تمثل أصحاب البدلات الأنيقة هؤلاء فإنها سارعت لتعلن عن أسفها لما يجري وأدانت عصابات التهريب ودعت بكل قوتها إلى "عدم اعادة اللاجئين بالقوة الى مناطق الصراع الملتهبة" هذه العبارة مرت على الجميع هكذا دون أن ينتبه إليها أحد، فبدلاً من مطالبة جميع دول العالم بفتح حدودها للاجئين لتجنيبهم خوض البحار والطرق الخطيرة وتخليصهم من براثن المهربين فإن العالم بأسره يستنكر ويتوعد المهربين ولا أحد يتحدث عن فتح الحدود ولا عن إيقاف تجار الأسلحة، الجميع يؤكد على ضرورة أن يموت الناس في بلدانهم وأن يجنبوا أوروبا معاناة رؤية جثث الأطفال المنتفخة على سواحلها .
في النهاية ما علينا في الحقيقة هو الوصول إلى فهم أعلى وأعمق للإنسانية , إلي فهم أن القبور ليست فقط للموتي بل هناك مقبرة حياتية نحيا بها أشباه أموات ما دُمنا خاضعين لها و لقوانينها هذه المقبرة تُدعي الرأسمالية , لذلك فإننا حينما نتحدث عن مآساة اللاجئين السوريين فإننا لم ننسي سابقيهم من ضحايا الغرق , و حينما نتكلم عن القضية الفلسطينية فإننا بالطبع لم ننسي مُعاناة العراق , و حين نذكر أزمة الشعب اليوناني فإننا بالضرورة لم يغيب عننا الطفل الذي يموت جوعاً كل ثلاث ثوانٍ في افريقيا , لم ولن ننسي الدماء التي سالت في ثورات الربيع العربي من عاصمتها تونس مروراً بالدماء المصرية التي سالت بإيدي و أوامر جنرالات الجيش من ماسبيرو لمحمد محمود إلي رابعة العدوية و النهضة , ثم الدماء السورية التي سالت تارة بإيدي الجيش النظامي للسفاح بشار و تارة بإيدي الميليشيات الدينية المسلحة , و الدماء اليمنية التي جرت من صنعاء إلي عدن جرّاء قصف قوات قتل المملكة و ميليشات الحوثي , لن ننسي الدماء المالية و النيجرية و الصومالية التي سالت وفق منظومة الحرب الأهلية و التعصبات القبلية , نحن هنا للناضل و نقول أنّ الإنسانية لا تتجزأ، وأنّ كلّ هذه الأزمات مصدرها واحد، فالحروب والمجاعات والأمراض والفقر والحرمان والتشرد هي منتوجات هذه المنظومة التي نحن وأنتم كلنا ضحاياها وأجزاء فيها، وهذه المنظومة لن تتغير طالما بقينا ننظر إلى مشاكلنا بنفس الطريقة البدائية ومن الزواية الضيقة .
إنتموا لوطنكم الفطري - الأرض - ذلك الحيز الذي تحيا به الإنسانية أجمع متمعة بنفس القدر من الحريات دون تمييز ولا تقييد ولا سلطوية , فيوماً ما لم تكن هناك حدود ولا جيوش ولا مُعتقلات ولا تأشيرات سفر ولكن في جميع الأزمنة تواجد من يتمتعون بإنسانيتهم حتي إن كانت مكبوحة ولكن يحافظون علي ما تبقي منها , إنتموا لإنسانيتكم و فطرتكم قبل الإنتماء لأوطان مفروضة .