مرضان مستبدان في العراق : أمريكا وإيران


سهر العامري
2015 / 9 / 3 - 11:21     


يخطئ من يقول أن الأمر في العراق متروك لحكومة يترأسها حيدر العبادي ، ولبرلمان يقوده سليم الجبوري ، فالاثنان ، الحكومة والبرلمان ، هما عبارة عن هيكلين أقيما على جدث النظام السابق ، وبتصميم أمريكي ، وتعاون إيراني ، وظل الحال على ما هو عليه رغم طلاء الزينة الذي حاول الأمريكان ومعهم الايرانيون أن يختاروا اللون الذي يراد لذلك الهيكل رغم تقاطع ألوان كلا الطرفين في أحيان قليلة ، ولكن هذا التقاطع سرعان ما يزول حين يحوز كل منهما حصته من الضرع العراقي الذي يدر المال والنفط .
لو تساءل كل واحد منا عن مقدار تأثير أحد العاملين : الموضوعي والذاتي في ما يجري في عراق اليوم ، لكان الجواب حتما هو أن الريادة تظل للعامل الموضوعي " الأمريكي والإيراني " وليس للعامل الذاتي " العبادي وحكومته والجبوري ومجلسه ، ومن ورائهما مهدي الكربلائي ! " فالعامل الموضوعي هو الفاعل في مجمل ما يحدث للعراق والعراقيين ، ومنذ الساعة التي سقط بها النظام السابق .
لقد كانت إيران منذ ظهور الاستعمار الحديث دولة مشاركة في كل ما أصاب دول المنطقة وخاصة العراق من دمار ونكوص ، ففي العام 1508م ، تعهدت إيران للإنجليز أن تقوم بالمهمة التي طلبوها منها ، وهي احتلال بغداد التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية عدوة الانجليز اللدود بهدف وقف زحف الجيوش العثمانية التي اجتاحت أوربا ، ووقفت على شواطئ بحر البلطيق من جمهورية مولدافيا الحالية ، وكان الثمن الذي دفعه الانجليز لإيران مقابل تعاونها ضد دول المنطقة هو استبدال اسلحة الجيش الايراني من السيوف وقتها بالبنادق ، وذلك على أيام الشاه اسماعيل الصفوي الأول ، مثلما طلب الانجليز من الشاه نفسه ابتداع قاعدة فكرية يقوم عليها نظامه مغايرة لتلك القاعدة الفكرية التي تقوم عليها الدولة العثمانية ، فظهر للوجود ما عرف في تاريخ إيران والمنطقة مذهب " التشيع الصفوي " الذي سلب من العثمانيين قاعدتهم الفكرية في إيران بعد أن أجبر الشاه اسماعيل الصفوي أغلبية الشعب الإيراني على ترك تلك القاعدة الفكرية السنية ، والتحول منها الى القاعدة الشيعية الصفوية الجديدة التي أرادها الانجليز ، والتي رفضها رجال الدين الشيعة في النجف ، مثلما رفضوا التعاون مع الشاه ذاك ، بينما غنى لها رجال الدين الشيعة في جبل عامل من لبنان بعد أن أجزل الشاه اسماعيل الكثير من الهدايا عليهم ومنحهم عديد الوظائف .
هذا التعاون الغير نزيه لا يمكن للغرب أن ينساه بسهولة رغم مرور سيل من السنوات على ذلك ، ولا يمكن للإيرانيين أن ينسوه كذلك رغم أنهم أبدلوا التيجان بالعمائم ، ولبسوا الجبة بدلا من السروال ، فلقد عاد هذا التعاون الى الوجود في السنوات القريبة مرتين ، في المرة الأولى عاد إبان حرب الخليج الثانية أو حرب الكويت ، فعن وزير الخارجية الأمريكي ، جيمس بيكر ، على أيام حكم الرئيس الامريكي بوش الأب قال : أيقظت في ساعة متأخرة من نومي قبيل نشوب الحرب تلك ، وقالوا لي أن وزير الخارجية في الاتحاد السوفيتي شيفرنادزه ينتظرك على التلفون ، ويضيف كذلك أنه قد ظن وقتها بأن صدام قد وافق على سحب جيشه من الكويت ، لكنه فوجئ بأن شيفرنادزه ينقل له تأكيدا من الرئيس الايراني ، هاشمي رفسنجاني ، فحواه هو أن ايران لن تحرك ساكنا إذا ما أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على مهاجمة العراق .
ذاك التعاون الأول أما التعاون الثاني بين أمريكا وإيران فقد حدث حين عزم الرئيس الأمريكي ، جورج بوش الابن، على غزو العراق واسقاط النظام فيه مطلع العام 2003م، وذلك قبيل الحرب حين رعت الولايات المتحدة مؤتمر المعارضة في العراق الذي انعقد في لندن ، ذاك المؤتمر الذي كان من المستحيل على السيد عبد العزيز الحكيم المقيم مع أخيه محمد باقر الحكيم وأخرين من حضوره لولا الموافقة الإيرانية عليه ، وبعد الحرب صار التفاهم الأمريكي الإيراني هو من يشكل الحكومة في العراق ، وعلى مدى السنوات التي اعقبت تلك الحرب ، والى يومنا هذا.
واليوم فلا غرابة حين يجد المتظاهرون الثائرون في العراق أن رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي ، الذي علقوا آمالهم عليه في تحقيق مطالهم هو عاجز ، وغير قادر على تحقيق الكثير من تلك المطالب التي ترفض كل من أمريكا وإيران تحقيقها ، وأقرب الأمثلة على ذلك هو عدم قدرته وقدرة برلمان سليم الجبوري على عزل مدحت المحمود رئيس مجلس القضاء الأعلى ، فمدحت المحمود عينه حاكم العراق الأمريكي بول بريمر، ثم صار ذلك التعين من ضمن التفاهم الأمريكي الإيراني الذي بنى الهيكل الحكومي في العراق ، ففي الوقت الذي نسمع فيه هتافات الملايين من العراقيين في كثير من المدن العراقية تطالب فيها باستقالة مدحت المحمود أو تنحيته نجد هادي العامري قائد منظمة بدر ، وهو واحد من جنود إيران في العراق ، يقوم هو وبعض من رجالات إيران فيه بزيارة مدحت المحمود في مقر عمله ، لكي يمنحوه تأييدهم نيابة عن إيران ، وعلى الضد من إرادة الشعب العراقي الذي يطالب بتنحيته . وكيف ينحى وهو من الرجالات الذين اختارتهم أمريكا وبالتفاهم مع إيران ، وذلك من أجل تمرير مشاريعها في العراق التي قدمت من أجلها لهم رشى طائلة تمثلت برواتب ضخمة سُلبت من أموال فقراء العراق ، وأوضح مثال على ذلك هو إقرار قانون النفط والغاز من قبل الحكومة في العراق ، ذلك القانون الذي فرط بالكثير من مكاسب حفظ الثروة النفطية الوطنية التي حققها العراقيون بنضالهم العنيد ضد الشركات النفطية الأجنبية ، ومنذ صدور قانون (80) على أيام عبد الكريم قاسم .
لا بد لي ان اذكر هنا أن سياسة الأمريكية القائمة على احتواء ايران سياسة قديمة ، لم يتبناها الحزب الديمقراطي الأمريكي ، ولا الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ، وإنما تبناها الحزب الجمهوري ، والرئيس الجمهوري ، بوش الأب ، ووزير خارجيته جيمس بيكر الذي عبر عن هذه السياسة بصورة علنية وقتها ، وذلك بعد أن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها في العام 1991 م .
ومما تقدم يتوجب على ثوار العراق اليوم أن يدركوا أن النفر الذي يدير الحكم في العراق هو نفر مقبول من قبل إيران وأمريكا في وقت واحد ، ولهذا لا يمكن لحيدر العبادي ومن على شاكلته أن يقيل أحدا قد أتت به إيران أو أمريكا الى كرسي الوظيفة ، فحيدر العبادي المزكى من قبل المخابرات البريطانية ، والمقبول من طرفي التفاهم ، إيران وأمريكا ، لا يمكن أن يذهب بعيدا في قراراته الإصلاحية ، إذا كانت قرارات إصلاحية هناك ، ولا يمكنه أن يقفز خارج الدائرة المرسومة له سلفا ، والتي جلس على كرسي الحكم فيها . ولي أن أذكر هنا حادثة من تاريخنا القريب ، مثلما روها الأديب العراقي ، عبد الكريم الدجيلي ، في كتابه : الجواهري شاعر العربية ، إذ يقول : اصطحبت الجواهري على أيام الحكم الملكي في العراق الى السفارة الأمريكية في بغداد ، وحال دخولي على السفير الأمريكي قدمت الجواهري له قائلا : أقدم لك شاعر العرب الأكبر ، والنائب عن كربلاء في الدورة البرلمانية القادمة ! فما كان من السفير الأمريكي إلا أن رد عليّ بلغة الواثق من نفسه : شاعر العرب الأكبر فبها ، أما أنه نائب عن كربلاء فلا !
على هذا يتوجب على المتظاهرين أن يرفعوا أصواتهم عاليا ضد التدخل الفض في شؤون العراق ، وضد تحركهم الميمون ، من قبل إيران وأمريكا في وقت واحد ، وليعلموا أن ايران قد روضت الآن من قبل الغرب أكثر فأكثر ، وزمن شعارها " الموت لأمريكا " قد مضى وانقضى ، فقد أزيل هذا الشعار من جميع شوارع المدن الإيرانية ، ومن على جدران الأبنية المهمة فيها ، ولم يعد ذاك الشعار يتصاعد في خطب صلاة الجمعة في المساجد أو الساحات الكبيرة، وعلى المتظاهرين أن يدركوا كذلك أن مطامع إيران لم تنته ِ في العراق ، مثلما هي مطامع أمريكا التي عادت شركاتها النفطية لنهب ثروة فقراء العراق بعد أن حرمت منها على مدى سنوات طويلة ، وعليهم أيضا أن لا يعلقوا آمالا على حيدر العبادي ، فهو من ذات الركب الذي جاءت به أمريكا وإيران الى كراسي الحكم في العراق .