دولة التراث و الدولة الحديثة


محمد فيصل يغان
2015 / 9 / 2 - 16:57     


تنشأ المجتمعات في أشكالها البدائية و هي تحمل في طياتها نقيضها و شرط وجودها ،الدولة. و تبدأ الدولة في التمظهر بداية ككيان مؤقت و جزئي يظهر في مناسبة معينة ثم يعود فيذوب سريعا في البنية الاجتماعية ليعاود الظهور مرة اخرى في مناسبة مختلفة، و تفعل هذه الأشكال اللحظية و الجزئية للدولة حسب الأعراف السائدة و المقرة من قبل الجماعة ، و تنفذ قراراتها بقوة أفراد الجماعة . فالدولة بشكلها البدائي هذا تظهر مثلا عند تنظيم حملة صيد ثم تذوب بانتهاء الحملة، و تعاود الظهور عند توزيع غنائم الحملة و من ثم تذوب بانتهاء مهمة التوزيع، لتعاود الظهور بمناسبة اقتراب خطر ما من الجماعة و هكذا. و ربما تكون المؤسسة الدينية المتمثلة بالشامان و الكاهن ضمن هذا المنظور،هي أولى التجليات المستديمة للدولة، و أول تقسيم للعمل عرفه البشر. هذا الحضور البدائي للدولة يفعل في نقيضه المجتمع و يحوله من مجموعة يعملون فرادى الى مجموعة تعمل ضمن نظام لتحقيق هدف اجتماعي، و التنظيم يستدعي تقسيم أعمق للعمل و يؤدي الى فائض في الانتاج. تمارس المشاعة حق الملكية الجماعية والمتمثل في تصريف وإدارة الفائض من خلال إنشائها لمؤسسات دائمة للدولة تتولى هذه الأعمال , وتتبلور هذه المؤسسات في شكل المركز المدني الذي يتولى استيعاب وتصريف الفائض من الإنتاج بالإضافة للفائض البشري للريف, و تبدأ الدولة المركزية مع تنوع و تعقد طبيعة عملها، و بالتدريج، الاستيلاء على وظيفة التشريع، ويكون ظهور دولة المدينة بشقيها السياسي (الحاكم المستبد أو المجلس-أصل السلطة التنفيذية) المسؤول عن إدارة هذه الممارسة حسب ما تشرعه المشاعة المقدسة الممثلة بالشق الآخر الديني-التشريعي (المعبد والإله-أصل السلطة التشريعية), إذ تتحول المشاعة القديمة إلى كائن غيبي مقدس في ذهن أبناء دولة المدينة (للمزيد من التفصيل أنظر كتابنا وحدة العقل البشري). هذه باختصار آلية تطور الجماعات البشرية و أشكال الدولة المناسبة لمرحلة التطور. مع الانتقال من طور الى آخر أكثر تعقيدا، تتخذ الجماعة البشرية و دولتها أشكالا جديدة نتيجة تفاعلهما الجدلي، فتنشأ مثلا في المراحل الأكثر تطورا حضاريا مجتمعات داخل كيان الدولة كما تنشأ تنظيمات اختيارية داخل المجتمع كجزء من تطور النقيضين الداخلي، فينفصل المجتمع عن دولته و يتغربن و يتحول الصراع الى صراع طبقي مع الدولة و عليها. أما الشرط الضروري لانطلاق و تطور هذه العملية الجدلية فهو بداية وجود الجماعة المتماسكة ذات القدر الكبير من التجانس. فالجماعة هي مصدر الشرعية لكل ما تمارسه الدولة من سلطات، و بالتالي فإن تجانس الجماعة (الامة) يضمن الحد اللازم من شرعية التمثيل للدولة، و درجة التجانس المطلوبة تكون اعلى كلما كانت الجماعة في طور حضاري متأخر، ففي فالمجتمعات البدائية نكاد لا نميز بين فرد و آخر، و تكاد الجماعة ذاتها لا تميز بين أفرادها، و هذه من صفات الشيوعيات البدائية، حتى أن أي تميز للفرد قد يكون سببا كافيا (للدولة اللحظية)لإقصائه من الجماعة. و على الطرف الآخر، و في مراحل التطور الحضاري الأعلى، يصبح التميز مطلبا و الفردية مذهبا، فالفرد داخل الجماعة ينتقل من تعريفه الطبيعي اعتمادا على موقعه من الجماعة، الى تعريفه القانوني (المواطن) أي بالنسبة الى موقعه من الدولة في ظل الدولة المتحضرة، فما يجعله فردا من الأمة-الدولة هو الالتزام بالعقد الاجتماعي الذي ينظم علاقة السلطة بالأمة، فيكون النضوج الدستوري و القانوني للأمة و دولتها شرط ضروري لقيام الدولة الحديثة. خلال هذه العملية الجدلية للتطور، يتم تجريد مفهوم الأمة بالتدريج و تحويله الى رمز و طوطم من جديد، فالمشاعة المقدسة المتجانسة تحل محلها (أو بالأحرى تتحول هي جدليا الى) الأمة الأسطورية و الرمزية. من ناحية أخرى، و كنتيجة للتطور التقني و الإداري، فإن المهام التي اعتادت أن تقدمها الجماعة للفرد تكون قد انتقلت ليد الدولة الدائمة و الأكثر كفاءة و قدرة على تقديم هذه الخدمة و بذلك يضمحل دور الجماعة المتجانسة و سلطتها على الفرد، فكلما كانت الدولة ناجحة (و مقياس النجاح هنا للدولة الحديثة ليس سوى حجم و مستوى الخدمة المقدمة للأفراد) كلما ازدهرت الفردية ليس بالضرورة بصورتها الأنانية، بل بصورتها الايجابية من خلال ممارسة الفرد حقه في المشاركة بمحض ارادته الفردية. نذكر هنا بان هذا الوصف لعلاقة المجتمع و الدولة نموذجي، و يفترض أن الشروط الضرورية و الكافية للتطور الجدلي السلمي قائمة في كل المراحل، و النموذج كما نعلم هو آلية تتيح لنا استخلاص قواعد و قوانين عامة تسمح لنا بمعالجة الحالات الشاذة عن النموذج يشكل أكثر انتظاما. و نحن ندعي هنا أن هذا هو النموذج الممثل فعلا لآليات تطور الواقع، و هو عام و يمثل كل الجماعات البشرية، و لا يدعي الخروج عن آلياته العامة و التفرد بآليات أخرى سوى المنظر الأيديولوجي الذي يستبدل آليات الواقع بآليات أسطورته المؤسسة لنظرته.، و هو في حالتنا هذه العقل التراثي.
في مراحل لاحقة، و عند اختلال الشروط النموذجية خلال جدلية تطور المجتمع و الدولة، و تواري العلاقة التاريخية تحت تراكمات التطور في شكل و فحوى كل من النقيضين، و يظهر كل منهما في شكل ظاهره الاستقلال عن الآخر، و تطفو على السطح نتيجة هذا الوضع التغريبي حيث تصبح الدولة (هي غاية نفسها كما يصفها الحلاق) علاقة صراع و عدائية، فتعقد الدولة بحكم كونها كيان مستقل و له مجتمعه الداخلي، حلفا مع الطبقة الأكثر ثراء و نفوذا في المجتمع، و تكرس وظيفتها القمعية و احتكارها التاريخي و العرفي لأدوات العنف لصالح هذه الطبقة ضد الطبقات الأخرى، و حالة التغريب هذه هي عنوان فشل الدولة في أي مرحلة كانت من التطور، من هذا المنظور، فإن كل الدول التي عرفتها البشرية طوال تاريخها هي فاشلة بدرجة او اخرى، إذ بالعودة لشرط تجانس المجتمع، فإن الطبقية الاقتصادية تنقض هذا الشرط، و تبرر الطبقة المسيطرة هذا الفشل باستثمار حالة التغريب و تعميقها و نسب مصدر الشرعية الى الغائب المقدس، الإله و المشاعة المقدسة و الذي تغتصب الدولة تمثيله في الواقع.
الدولة الحديثة
أول ما يميز الدولة الحديثة هو نجاحها في تذرية المجتمع من خلال ازالة و تذويب الروابط التي تشد الأفراد الى بعضهم البعض، و إحلال التعريف القانوني للمواطن الفرد بدلا من التعريف الطبيعي القائم على التجانس مع الأفراد الآخرين للجماعة. و لهذه الميزة مساوئها المتمثلة في تمرير أشكال عدم المساواة الطبقية تحت عنوان المساواة امام القانون، ومن هذا المنطلق كان منع الثورة الفرنسية للنقابات والجمعيات العمالية تحت شعار المساواة أمام القانون, تلك النقابات والجمعيات التي كانت تهدف بالأساس إلى إدارة الفائض بما يتلاءم وحاجات رفع مستوى الكفاف لأعضائها, ولم يُسمح في تشكيل النقابات في فرنسا حتى عام 1864 أي بعد ثورة الحرية والعدالة والمساواة بنحو خمس وسبعين سنة وبعد صراع مرير خاضته الطبقة العاملة. وكذلك عرّف دستور هذه الثورة المواطنة وحقوقها (الانتخاب) بحيازة الملكية الخاصة تماما كما كانت في زمن حمورابي. تشكل الدولة الحديثة تمحور بشكل رئيسي حول الصراع التاريخي على ملكية فائض الانتاج ما بين طبقات المجتمع الناشئة، و توظيف هذا الفائض إما لرفع مستوى الكفاف للمجتمع، أو توظيفه لصالح طبقة نافذة. الانفصال أو التغريب الذي لحق بالمجتمع مع تطور أشكال الدولة شمل مفهوم ملكية فائض الانتاج و أدوات انتاجه، فمن ملكية مزدوجة في الجماعة الشيوعية البدائية (ملكية رقبة للجماعة و ملكية منفعة للفرد) الى ملكية خاصة مطلقة. و تصبح الملكية الخاصة هي التعريف القانوني للمواطن، و تصبح المواطنة وما يترتب عليها من حقوق مبنية على الملكية. فالمواطن مالك للأرض والمالك للأرض مواطن كامل الحقوق, حيث تميز التشريعات القائمة بين الأفراد بناء على الملكية, فنجد مثلا في شرائع حمورابي ثلاث فئات للمواطنة: الأولى طبقة العاميلو وهي طبقة تتمتع بكافة الحقوق المدنية وتتميز بكونها ذات ملكية أرض والثانية طبقة المسكينو وهي طبقة مهمشة وتتشكل بالأساس من الأغراب وتعيش في تجمعات منفصلة داخل المدينة وطابعها العام أنها لا تمتلك الأرض وذات حقوق ناقصة بالمقارنة مع الطبقة الأولى, وتتطابق هذه الطبقة مع ما يدعوه ماركس وأنجلز بطبقة البروليتاريا الرثة، أما الطبقة الثالثة، الأردو، فهم العبيد العاملون في الأرض المملوكة للأحرار من الطبقة الأولى ولهم من الحقوق بمقدار ما يقررها السيد. أما التجارة التي كانت جماعية (اشتراكية) و تتم من قبل مؤسسات الدولة المدنية باسم الجميع ولصالح الجميع, إنعكاسا لمفهوم الملكية المزدوجة بشكليها الخاصة – المنفعة، والعامة – الرقبة، تحولت مع ظهور طبقة من التجار الفرديين من داخل الجهاز الرسمي والتي بدأت بممارسة التجارة لصالح أفرادها باستغلالها لموقعها, محققة أرباحا غير مبررة أخلاقيا ضمن المنظومة القيمية السائدة وبالأخص مفهوم الإنتاج والملكية السائدين, ومن هنا نشأة النظرة الدونية للتجارة عموما في المجتمعات الريفية والما قبل الرأسمالية, إذ إنَّ التاجر بالأساس يستغل فائض إنتاج غيره لبناء ثروته, فكان القول المأثور في روما القديمة (ليس رومانيا من حاول أن يعيش حياة تاجر أو حرفي ذليل) وكذلك ورود التجارة في موقع الشبهه في الإسلام حيث تقرن الآية الكريمة -;---;-- و أحل ألله ألبيع و حرم ألربا -;---;-- البقرة: ٢-;---;--٧-;---;--٥-;---;-- التجارة بالربا وتبين هشاشة الفرق بينهما وتحذر من الانزلاق إلى ممارسة الربا باسم التجارة. كما ورد في الحديث الشريف ( إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا الا من اتقى الله ‏ ‏وبر‏ ‏وصدق) فالأصل هو الفجور، والتقوى والبر والصدق استثناء, أي أن الأصل هو الشكّ. وفي حديث آخر (يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة) . من هذه النقطة انطلقت اوروبا و استمر الصراع المعروف في المجتمع الأوروبي الذي أدى في النهاية الى بروز الدولة القومية الحديثة (لمزيد من التفصيل أنظر كتابنا وحدة العقل البشري).
الدولة الحديثة هي نتاج الحداثة، و الحداثة نتاج تطور اجتماعي اقتصادي ثقافي له ظروفه الخاصة (الغرب) و لكنه لا يخرج عن سياق قوانين التاريخ. و الدولة الحديثة هي (مستحيلة) تراثيا كما يبين وائل الحلاق في كتابه (الدولة المستحيلة) و الفارق الذي يدور حوله الكتاب يتلخص بالنهاية بأن الحداثة و دولتها عقلانية، (و نختلف معه بضرورة كونها لا أخلاقية، فهذا حكم مبني على الخلط الذي أشرنا له ما بين الحداثة و الرأسمالية) في حين أن التراث و أسطورة الدولة النابعة منه هي لا عقلانية، و نرى بالإضافة لما يورده الحلاق عن اخلاقية دولة التراث أنها غير قابلة للتطبيق حتى بادعاء الأخلاقية، فهي ترسب في امتحان الأخلاقية عند التطبيق لما لغياب العقلانية فيها من أثر ذكرناه في فقرة سابقة. و الدولة، أي دولة لها سلبية توصف باللاأخلاقية ألا وهي كونها بطبيعتها، و كما بين ماركس، أداة في يد الطبقة المهيمنة تقمع و تستغل من خلالها الطبقات الأخرى, فاللاأخلاقية هنا ليس مصدرها الحداثة، بل مصدرها أخلاقيات الطبقة السائدة، النظام الرأسمالي السائد في العالم اليوم. يعلمنا التاريخ أن (الدولة الأخلاقية) في أوروبا، و التي رعتها الكنيسة الكاثوليكية قد اندثرت نتيجة عوامل التطور التاريخي للمجتمعات الأوروبية، فالقول اليوم بإقامة الدولة التراثية الإسلامية هو أشبه بالدعوة الى عودة نظام الدولة الأوروبي في القرون الوسطى.
كما أسلفنا, فالدولة الحديثة تتمحور حول الملكية الخاصة و تقديسها، هكذا يسود مفهوم الملكية الخاصة المطلقة, ويكون مبدأ الربح هو الموجه للعملية الإنتاجية بهدف تعظيم تراكم ثروة طبقة معينة, تنفصل عملية الإنتاج عن الاستهلاك , ويصبح الإنتاح من أجل الإنتاج هو الواقع ويتحول الاستهلاك أيضا من أجل الاستهلاك. وفي ظلّ هذه المعادلة تحل الاحتياجات المفروضة (كمًّا ونوعا) من قبل الطبقة المالكة لشروط الإنتاج محل الاحتياجات المحددة تاريخيا للنمو الإنساني لشروط الكفاف, ويكون مبدأ تعظيم الربح المادي هو المحدد لهذه الاحتياجات المفروضة على أفراد المجتمع ككل, ويؤدي هذا الانفصال ما بين الإنتاج والاستهلاك لظهور الأزمات الدورية المعروفة في الاقتصاديات الرأسمالية. و يتمثل دورة الدولة الحديثة بصفتها اداة القمع و السيطرة في يد الطبقة البورجوازية, في توظيف أجهزتها البيروقراطية، القانونية و القمعية و الثقافية لتثبيت و إدامة الوضع الاقتصادي و الاجتماعي لهذه الطبقة. كمثال عن الدور اللاأخلاقي الذي تلعبه الدولة الحديثة لصالح الطبقة البورجوازية في الجانب الثقافي، تقتصر المؤسسة الرأسمالية على توجيه الاستثمار بحده الأدنى في مجال تأهيل القوى العاملة ورفع سويتهم الثقافية (المتخصصة) واللازمة حصرا لاستيعابهم التطورات التقنية في مجال وسائل الإنتاج، أما في الثقافة العامة، فنجد أن الاستثمار المكثف يتوجه نحو ما يمكن أن نسميه الثقافة الدونية، فنجد مثلا أن صناعة الترفيه المدرة للأرباح العالية والتي تتوجه بالعموم لإشباع حاجات غرائزية دونية، نجد هذه الصناعة وقد طغت على ثقافة الفن الرفيع اللازمة لرفع سوية مستوى الكفاف وتحقيق أكبر لإنسانية الإنسان، ولكن بكلفة مالية أعلى ومردود مالي منخفض. من هنا نكرر، أن صفة اللاأخلاقية هي خاصة للنظام الرأسمالي حصرا و لا دخل للحداثة فيها، فالحداثة، أي العقلانية حيادية قابلة للتوظيف في الخير و الشر سواء بسواء.
فيما يخص الدولة التراثية، فإن الادعاء بأن في الدولة الاسلامية تحل الجماعة أو الأمة محل الشعب أو القومية فهو باطل من خلال الشواهد التاريخية، فالمنطقة العربية كما نعرفها اليوم تشكلت من تداخل و اختلاط امم كثيرة (بمعنى أمة لها خصوصية قومية و ثقافية و لغوية) فمنها عرب الجزيرة و الفرس و الأتراك و الأكراد و عدد آخر لا يحصى من القوميات التي عاشت في هذه البلاد. من هنا ما لاحظه برنارد لويس في مساهمته ضمن كتاب التراث الإسلامي الذي صنفه جوزف شاخت حيث يقول: (...و رغم أن هذا الشعور "الشعور بالوحدة الاسلامية-يغان" كان أضعف من أن يحفظ الوحدة السياسية للعالم الاسلامي، فقد كان قويا الى الحد الذي يكفي ليحول لمدة طويلة جدا دون ظهور كيانات سياسية دائمة و مستقرة ضمن هذا العالم الاسلامي، سواء كانت إقليمية أو وطنية... ففي أوروبا المسيحية، بالإضافة الى وجود بابا واحد و امبراطورين رومانيين، كان هناك ملوك للفرنجة و القوط ولشعوب أخرى...أما في الاسلام، فالألقاب التي تشير الى شعوب معينة نادرة، فحتى عند وجودها فان أهميتها كانت ضئيلة)، و مما له مغزى أن الوضع النهائي قد استتب على ثلاثة مراكز حكم يحكمها سلاطين، هي تركيا و فارس و مصر في القرن السادس عشر تتنازع فيما بينها السلطة على إرث الامبراطورية الاسلامية من خلال ادعاء كل من السلاطين أنه خليفة المسلمين. و هكذا نرى أن دعوى الاسلام تحولت لأداة أيديولوجية و مبرر للسيطرة و الاستعمار لا غير، و أن ما تبقى من الأراضي و الشعوب التي حكمتها الامبراطورية الاسلامية خارج هذه الكيانات الثلاث، عجزت عن أن تؤسس دولة ذا طابع قومي واحد، و بقيت فريسة لأطماع هذه الكيانات الثلاث و صراعاتها على النفوذ حتى يومنا هذا، حيث استثمرت لهذا الغرض الخلافات و الصراعات القومية و الشعوبية و الطائفية منذ تأسيس الدولة الاسلامية الى اليوم، و التي كانت أصلا السبب الرئيسي في انهيار الدولة الاسلامية و تفككها كما يقول أحمد أمين في فجر الإسلام: (لم تعد الأمة الإسلامية أمة عربية، لغتها واحدة و دينها و احد و خيالها واحد كما كان الشأن في عهد الرسول (ص) بل كانت الأمة الإسلامية جملة أمم، و جملة نزعات، و جملة لغات تتحارب، و كانت الحرب سجالا، فقد ينتصر الفرس و قد ينتصر العرب و قد ينتصر الروم). و من الملاحظ أن هذه الكيانات الرئيسية الثلاث لم تعتمد الاسم الصريح الدال على هويتها القومية الا بعد أن حضر الاستعمار الأوروبي و وضع حدا لطموحاتها. فأصبحت تُعرف بالدولة الفارسية و الدولة التركية و الدولة المصرية. إن استحالة تحقيق دولة التراث نابعة من طبيعتها اللاعقلانية الأسطورية التي أوضحناها و المبني على أسطورة أمة اسلامية، وكون الدين، حتى الاسلام لا يكفي لصنع أمة مستقرة و دولة هذه الامة، فكما يذكر وائل الحلاق في كتابه الدولة المستحيلة: (و بالطبع فإن الأمة كلها، كما يمثلها كبار فقهائها، -التسويد من لدينا- تملك سلطة القرار، و هذا هو فحوى مبدأ الاجماع. لكن هذه السلطة هي سلطة تأويلية، محكومة بقواعد اخلاقية عامة تتعالى على سيطرة الأمة.)، فكما أسلفنا الأمة غير موجودة على أرض الواقع، و التشريع محصور (بكبار الفقهاء)، و الاجماع هو اجماع حفنة من السلف لا يمتون للواقع الحالي بصلة. بهذه الحالة تكون شرعية دولة التراث من نفسها، من تراثها الأسطوري، فالواقع يؤكد فشل دولة التراث تاريخيا في خلق أمة متجانسة كمصدر للشرعية.
ما يقوله الحلاق باختصار هو استعادة لعناصر الأسطورة التراثية و تحت تأثيرها، فهو يجعل (الأمة) الأسطورة ثابتا، و (الدولة) الواقعية متغيرا (وهكذا تبقى الأمة ثابتة لا تنتهي إلى يوم الدين، اما الدولة التي تحكمها فموقتة و زائلة، لا روابط عضوية أو جوهرية أو دائمة تربطها بالأمة و شريعتها، فهي وسيلة لغاية). أما ما يقوله عن كون "الشريعة" قانونا أخلاقيا، ففيه خلط بين أخلاقية الاسلام بكونه دينا (فالأديان كما أبنا في كتاب وحدة العقل البشري هي مستودعات القيم)، و بين الشريعة-التراث، فالأول مرجعيته متعالية و تنتمي لعالم المثل، اما الشريعة المتشكلة في التراث فهي صيغة بشرية من صيغ عديدة أنتجها البشر بدعوى ترجمة المُثل الى الواقع، ترجمة إن كانت نجحت في بعض الوجوه فإنها فشلت في معظمها. و ها هو يعترف بأن الشريعة في الوقت الحاضر (...أضحت الحاجة اليها مقتصرة على اضفاء الشرعية على مشاريع الدولة التشريعية من خلال اشتقاق مبادئ معينة من الشريعة، و هي مبادئ أعيد تشكيلها و أعيد خلقها لموائمة ظروف العصر الحديث.) ألم تكن هذه حال الشريعة-التراث طوال تاريخها؟ سواء أكان اعادة تشكيلها و اعادة خلقها بحسن نية أو سوء نية؟ و هنا خطورة التراث الأسطوري، فهو يضفي على الشريعة قدسية الدين و الجانب الروحاني المثالي، و يخلط بينهما في عقول المسلمين كما اختلطا في عقل الحلاق حين يقول: (...تظل الشريعة مصدر السلطة الدينية و الأخلاقية عند الغالبية العظمى من المسلمين اليوم)، و يدعم هذا الخلط و يسايره، الخلط التقليدي على الجانب الآخر من اشكالية التراث و الحداثة، أي الخلط بين الحداثة و الرأسمالية و تحميل عيوب الثانية للأولى. ألم يكن هذا الخلط ما بين الروحاني المقدس و البشري العمراني جزءا مما لاحظه ابن خلدون و حاول (على استحياء و رهبة) وضع الفواصل ما بينهما؟ مع أن عالم ابن خلدون هو اسطوري بامتياز (نتيجة لتأثير هيمنة ورهبة أسطورة التراث على ابن خلدون كما على غيره من الباحثين المتقدمين منهم و المتأخرين)فعالمه كما يقدمه لنا هو: عالم العناصر و عالم التكوين و عالم الحوادث، و أن الدليل على هذه العوالم حسب ابن خلدون عادة ما يأتينا من الرؤيا التي تتجاوز عالم الحوادث (... ما جاز في النوم لا يمتنع في غيره من الأحوال)، و ما ينشأ عن هذا التصور كصورة للإنسان الأسطوري الخلدوني (بنفوسه) المتعددة، نفس عالم و نفس ولي و نفس نبي. يحد ابن خلدون الانسان في عالمه الاسطوري هذا بانقطاع الوحي و ختم النبوة، فلا انبياء بعد الآن، و لكن الباب عند ابن خلدون ما يزال مفتوحا على مصراعيه لمن يجتهد (روحيا) فيصبح وليا و يعلم المستور بالكشف (علوم الملائكة). فعالم ابن خلدون الاسطوري في جله مستور، و المتاح للحس (التعقل) جزء يسير. و العمران لدى ابن خلدون (و هو همه الأول كرجل دولة و هو ما يهمنا هنا)هو ضمن هذا الجزء اليسير، برأيه (مع وجود ما يمكن تفسيره على أنه يناقض هذا الرأي في كتاباته)لا يمكن تحقيق العمران (و في الأساس الدولة) بأدوات الأسطورة (الحدس و الكشف و الوحي و الكهانة و المعجزات) بل بأدوات العقل الموزون العملي و الناتجة عن التمرس بالعمل و التفكير الواقعي، و ترك الجانب الأسطوري للحياة الروحية للأفراد. مع ما ذكرناه، تبقى مرجعية ابن خلدون هي النصوص التاريخية، و عقلانيته التي تميز بها عن غيره و حقق من خلالها السبق تنحصر في التعامل العقلاني مع هذه النصوص، على سبيل المثال قوله: (... فالأخبار "أخبار التبابعة من اليمن و الجزيرة في غزوهم لبلاد الترك و أفريقيا-يغان" بذلك واهية مدخولة، ولو كانت صحيحة النقل لكان ذلك قادحا فيها، فكيف و هي لم تنقل من وجه صحيح؟) و هنا تأكيده على اهمية المتن مقابل السند بما يتماشى مع دعوته لاعتبار طبائع الأمور في نقد النصوص. و في نفس التوجه نراه في موقع آخر يرفض الاجماع اذا ما خالف طبائع الاشياء كما في تبرئته للعباسة اخت الرشيد من الرواية المجمع عليها. و لكن تحت تأثير رهبة و هيبة أسطورة التراث، يضطر ابن خلدون الى جعل اخبار الشريعة نوعا خاصا من التاريخ يخضع لمنطق خاص يكفي فيه تعديل وتجريح السند فيقول في موقع آخر: (...و إنما كان التعديل و التجريح هو المعتمد في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف انشائية أوجب الصانع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، و سبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة و الضبط) و بتأويل فكر ابن خلدون بمعطيات العصر الحديث و بلغة العصر (مع تخليصه من رهبة و هيبة التراث)، فلا مجال للفكر السياسي الديني في الحياة السياسية للدول، فهذا الفكر يستجر آليات الأسطورة من الجانب الروحاني للدين إلى السياسة فيقسم المجتمع إلى ملائكة (مناصري الحزب الديني) و شياطين (الآخرين)، و يضفي القدسية على أفعال قيادات الحزب الديني المعني (المرشد، الإمام، الفقيه، الشيخ) وكذلك يهمش مؤسسية الدولة لصالح هيكل ديني تراتبي موازي و يحل الرأي محل القانون و يتحول النص الشرعي أو بالأحرى تأويله المعتمد إلى غاية (يتقدس) و يكف عن كونه وسيلة. النتيجة هي رفض الواقعي لحساب الأسطوري.
الدولة الحديثة ومن منظور عملي، هي مجموع المؤسسات الجزئية المشكلة لها، مؤسسات جزئية تمثل تجزئة الصلاحيات و مناطق النفوذ و الرقابة البينية لهذه المؤسسات بعضها على بعض. أما التصور الأسطوري التراثي للدولة فهو توحيدي، الفرد مدمج بالجماعة و الجماعة مدمجة بالدولة و الدولة مدمجة في الخليفة، و من الاتجاه الآخر هو الخليفة الذي فيه تحل الحكمة الإلهية بتجلياتها القرآنية و النبوية و الراشدية و الامامية العالِمية كما نرى مثلا في خطاب المنصور العباسي كما و رد في كتب حياة محمد لمحمد حسين هيكل: (أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه, أسوسكم بتوفيقه وتأييده, وحارسه على ماله, أعمل فيه بمشيئته, وأعطيه بإذنه, فقد جعلني الله عليه قفلا, إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم, وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني..) . في الدولة الحديثة تطورت شؤون الادارة و قوانينها من أسفل إلى أعلى، من الفاعلين في كل قطاع جزئي على حدة إلى مؤسسة قضائية ناظمة. القوانين القادمة من أسفل هي بالأصل أعراف، و الأعراف أكثر استجابة أو بالأصح هي نتيجة مباشرة لتطور الظروف الواقعية، في حين ان القوانين الفوقية القادمة من المركز الواحد و التي تنساق بطبيعتها و بطبيعة مصدرها لمحددات شرعية رافضة بطبيعتها للتغيير تحت مسمى محاربة البدعة مما يحد بشكل خطير من انسياقها للظروف الفعلية السائدة. بهذا تفقد هذه القوانين فاعليتها وتصبح عائقا أمام التطور بدلا من محفز. هذه إحدى تجليات فرض الأسطورة على الواقع، فلا الأسطورة تتحقق و لا الواقع يتطور، و يتكرس الانفصام بأشكاله و على المستويات كافة، الأخلاقي العملي و النظري كأفراد، و السياسي العملي و النظري كمجتمع فتفقد الدولة شرعيتها الاجتماعية و يفقد المجتمع ولائه للأمة و الوطن.
إن قمة نضج الأمة يتجسد في دولتها، وكل الأمم العريقة تعيد بناء دولتها فور توقف العاصفة التي تدمرها سواء بحرب أهلية من الداخل أو غزو من الخارج، هكذا فعلت اليابان و هكذا فعلت ألمانيا، أما الدول المتعددة الأمم، فحين تنهار لا تعود أبدا بل تنشأ (دويلات) بديلة ممثلة للمكونات المتعددة، هكذا كان مصير الإمبراطورية الرومانية و هكذا كان مصير الإمبراطورية الاسلامية، و لا زالت دول الأمم الفرعية المكونة للأمة الاسلامية قيد التشكل، فالوحدات الادارية (أو الدويلات) التي تشكلت بعد زوال الاستعمار المباشر لا تعكس حقيقة التنوع القائم، و هو ما لاحظه الكثيرون و لمحوا له كما فعل الحلاق في كتابه المذكور حين قال: (...سبق أن أشرت الى أن النخبة القومية البعد-استعمارية حافظت على هياكل القوة التي ورثتها عن الحقبة الاستعمارية...و قد ورث هؤلاء من أوروبا دولة قومية جاهزة "بكل هياكل القوة المكونة لها"، لم تكن التكوينات الاجتماعية القائمة قد تهيأت لها على النحو المناسب، فالمفهوم النموذجي للمواطن الذي لا تقدر الدولة على الاستمرار بدونه، ظهر بشكل بطيء...). من هنا ضعف هذه الدويلات امام الأزمات الكبيرة و فشلها و هو ما يفسر الصراعات و الانقسامات الداخلية منذ الاستقلال، و انهيار الدولة تماما بعد الأزمات الكبرى كما حصل في ليبيا و العراق و سوريا و الصومال و اليمن، باستثناء مصر بسبب وجود قاعدة الأمة منذ القديم و تونس نتيجة الدرجة العالية من المدنية التي وصلتها في المرحلة البورقيبية. و حقيقة عدم وجود أمة اسلامية كما يصورها التراث الأسطوري، و أيضا عدم نضوج الأمة العربية الى مرحلة تتناسب مع ما تصورها في الأسطورة القومية، هذه الحقيقة المؤسفة و الصادمة للكثيرين، تنبه لها الغرب و بنى استراتيجية تعامله مع شعوب و أمم ما نسميه المنطقة العربية و الاسلامية عليها. فقاعدة فرق تسد لا بد لها من قابلية للفرقة و التفرق على أرض الواقع كي تؤتي ثمارها. في العالم الحديث، الدول الحديثة تعيش ضمن نظام تكتلات مبنية على المصالح الاقتصادية و الأمنية لا على تكتلات دينية أو عرقية، و من هنا برأينا استحالة تحقق الدولة الاسلامية التي يبشر بها العقل الاسطوري التراثي
و من استحالة الدولة التراثية، تبرز استحالة تطبيق قواعد و أسس السياسة التي تشرعت في التراث و منها قاعدة و مفهوم الجهاد، و قاعدة و مفهوم دار اسلام و دار حرب، حتى في التخريجات اللاحقة للتراثيين من مثل دار صلح و دار عهد . أما ملاحظة برنارد لويس في قوله: (...لكن غزو العالم كله تأجل من الزمن التاريخي الى زمن "المهدي المنتظر...) فتظهر لنا الآلية التي يتبعها العقل الأسطوري في تكييف الواقع مع الأسطورة و جعل هذا الواقع مجرد لحظة عابرة في زمن الأسطورة في طريقها للتحقق.